إننا بإزاء عدة نصوص متنوعة، وثرية داخل متن الديوان. متداخلة فيما بينها أحيانًا فى الثيمات الأسلوبية، والدلالية من خلال التقاطه تفاصيل الحياة لنماذج إنسانية بائسة، ولحظات شعورية قد لا تتكرر فى حياة الإنسان نفسه مرتين، وتناصه أيضًا مع نصوص دينية، وتراثية تتماهى مع مضمونه الشعرى، وتفتح له باب أوسع للتأويل، بلغة شعرية سلسة وطيعة. تؤدى وظيفتها فى إيصال المضمون دون إثقالها بتشبيهات، واستعارات، ومفردات مهجورة تصنع حاجزًا بين الشاعر والمتلقى. والميزة هنا أن الشاعر وهو يقدم عوالمه قد أفلت من عدة فخاخ كانت تسيطر فى الغالب على قصيدة شعر النثر المصرى الذى، إذ وقع الأكثرية فى نص وحيد يكرر الضرب على وتر الذات الضائعة المأزومة للا شىء سوى إغراقها فى الهواجس، والظنون، ووقوعها أسيرة لأزمة الوجود مع سحقها لكل العناصر الأخرى فى الحياة سوى هذه الذات النرجسية المركزية التى يدور العالم حولها.
وقد أفلت ” محمد سالم ” من هذا من كل هذا لا بخطة مسبقة، ولكن بانتماء حقيقى إلى معنى الإنسانية الأرحب الذى يضم فيما يضمه لا الإنسان فقط، ولكن كل الكائنات الموجودة من حوله بما فيها الجمادات محاولًا قراءة مضامينها، وأحلامها، ورؤيتها للإنسان نفسه. كأنه بذلك لا يكسر مركزية الإنسان ونرجسيته فقط، لكنه أيضا يكسر المباشرة فى تناول عوالمه الحياتية بعيون غير مألوفة لنا، وعَبْر شجون وآلام تترك آثارها على كائنات لا تملك وسيلة للتعبير عما يُلِم بها، وما الشاعر هنا سوى صوت الذات الواعية بواقعها، وتراثها، وصوت كل كائن مسحوق تحت أنياب الأزمات المتكررة بدءًا من أزمة الوجود، والمعرفة، والألم وليس انتهاءً بالبحث اليومى الدءوب عن لقمة العيش، والتوق إلى العدل، والحرية.
أما مجموعة الثيمات التى تبناها الشاعر فى تجربته الخاصة فتنوعت وتداخلت فى ثلاث ثيمات من وجهة نظرى فهى:
1- المتن والهامش
ما المتن، وما الهامش؟ وهل يتحدد ذلك بالمقارنة بينهما فقط. أم بأشياء أخرى؟ هل يمكن أن نقول مثلًا إن المتن فى واقعنا هو النخبة المُسيطرة على السلطة، والثروة معًا، بينما الهامش هو هؤلاء الكادحون فى الحياة دون أى أمل فى تغيير ظروفهم لما هو أفضل؟ هذه إحدى القراءات الدلالية المعترف بها لا على مر الأزمنة فهذا شأن يخص البحث التاريخى، ولكن المعترف بها هنا فى نصوص الديوان. لقد تبنى الشاعر صوت من يعيشون فى الهامش خارج كل سلطة وحساباتها، وخارج كل ثروة، وطريقها.. يُلمِّح إلى تلك الدلالة الأولى فى الإهداء: إلى كائنات تشيكوف النسائية المسحوقة، وإلى ” نبوية سليم “. أم الشاعر.
المرأة بتمثيلها الشعرى للرهافة، والجمال، والضعف هى الكائن الذى يمكنك بسهولة أن ترصد من خلاله قسوة الحياة، وخياناتها فى أى مكان، أو زمان ما.
القراءة الأخرى للمتن والهامش فى الديوان هى الحياة كهامش فى مواجهة الموت كمتن، ففى نص: ( لصٌ صغير فى انتظار رؤيا ) يفرش الموت ثوبه على صور النص الممتدة، ومفرداته، بل وأحلام الابن الصغير الذى تيتم حديثًا. بدءًا باليدين اللتين تعملان بحنكة جزار فى جثة الأم مرورًا بالجيران الذين يلعبون أدوارهم فى النحيب، والصراخ ببراعة، وصولًا إلى استسلام الطفل نفسه للمتن الذى يؤطر الصورة العابرة للحياة.
إننا نحس أن الصورة موشومة بنزيف قلب الشاعر لا بريشة تنهل من محبرة، ولا بأصابع تخط كلمات، وصور نحتها العقل فى غيبة من الشعور بالألم نفسه. هذا الألم الذى يصَّاعد من الرفض المطلق للمتن لدى الطفل إلى بدء القبول التدريجى حد انخفاض سقف الطموحات إلى اللقاء فى الحلم. مجرد لقاء يُخلِفُ لوعة فى القلب لا تنطفئ.
إن ثيمة المتن والهامش كما رأينا تتنوع. يُشكِّلُها الشاعر على غير مثال سابق. كأنه يسافر بنا إلى معانى أرحب، وأكثر دهشة، ففى قصيدة: ( مداراة الغياب ) يكون المتن هو الغياب نفسه بما يمنحه للعاشق من سخاء التخيل، وإعادة ترتيب التفاصيل، وتقمص الآخر؛ لفهمه بصورة أعمق. أما الهامش فيبدو فى خطورة قطع التخيل إلى الحضور الجسدى المُؤرق للذات، تلك التى تؤمن بجوهر الاختلاف كضرورة للتواصل، وقيمة المسافة كطريقة لقبول الآخر والتوحد معه حد الاكتمال..
( دعى غيابك / هو نائم جنبى / تفوح وداعته فى الغرفة / ويسمع موسيقى / لماذا تصرين أن تزعجيه / دعيه هنا / أنا أريد أن أنشغل بالحياة / فلا تعطلينى ). ص67.
وفى نص ( حُلمٌ للرضيع ) يبدو المتن هنا فى الحلم الذى يعيشه كل من الأب، والأم، والجدة. أما الهامش فهو الطفل نفسه الذى قتلته رصاصة غاشمة داهسةً فى طريقها وردة حمراء متوهجة كان يمكن أن يقطفها الطفل ذات يوم؛ ليمنحها لحبيبته. هنا إدانة صريحة لكل نظام سياسى مُستبد يُهمش المستقبل لصالح القبض على اللحظة الحاضرة، ويوظف كل ما يخدم أهدافه وحده؛ للوصول إلى السيطرة المطلقة عى كل شىء. أما الآباء _ هؤلاء الذين بجانب تمثيلهم لواقعة بعينها _ فإنهم أيضًا يمثلون جانب الرفض لفكرة الموت باستعادة باجترار الذكرى، والأحلام المستحيلة.
إن ثيمة ( المتن والهامش ) تبدو ببراعة _ أيضًا _ فى إحدى تفاصيل إخراج الديوان الذى قام به الشاعر نفسه، حيث وضع عناوين قصائده النثرية أسفل الصفحة اليمنى. تلك التى تلتقطها العين بصعوبة. بينما متن النصوص نفسها فى الصفحة اليسرى التى تستريح العين فى قراءتها. كأنه هنا يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو يشير إلى هامشية العنوان بالنسبة للتفاصيل، ويدلل أيضًا على زيف النظرة التى ترى الإنسان باعتباره عنوانًا المعرفة للحياة، وما سواه مجرد هوامش لا تُرى منفصلة عنها أبدًا.
2- أنسنة الأشياء.
الأنسنة ليست ثيمة مستوردة على واقعنا المصرى، والعربى، بل هى جزء صميم من ثقافة ترى للأشياء أرواحًا، ولها أيضًا حكاياتٌ، وأحلامٌ، ومواجعٌ.. ففى القرآن الكريم: ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان …….)، وقد اعتمدها الشاعر طريقة لرصد الحياة بعيون الأشياء كاسرًا مركزية الإنسان المتوهمة كما أسلفت، ومقدمًا عوالمه المتنوعة الغارقة فى الأسى، وحلم التحقق، واجترار الذكريات كمخدر للألم اليومى المتكرر دون السقوط فى فخ التقريرية، والمباشرة.
ففى نص ( وخزُ إبرِ الحياكةِ و آلام أكثر من حملٍ كاذبٍ ) تقوم الشمعة بدور الراصد لعالم المهمشين التى تعيش فى وسطة امرأة عجوز خافت من انقطاع الكهرباء فاشترت الشمعة، وأشعلتها. نحن هنا أمام حكاية شعرية تتقاطع، وتتماهى مع حكايات الآخرين فى نسق آخاذ، عَبْر صور ممتدة يتم من خلالها تقديم سمات كل شخصية، وأحلامها، وأوجاعها فى شطرات شعرية مكثفة، وموجزة من خلال بلاغة المسكوت عنه.
إن الشمعة لا تقوم فقط بدور الراصد، لكنها تشتبك مع هذا الواقع. تصاب بالإحباط، والرعب من كم البؤس الذى يجلل كل ما حولها درجة تشبثها بالحياة غير مدركة أن حياتها تعنى احتراق كل الأشياء من حولها..
( كدت انطفئ / فأمسكت خزانة العجوز / كنت كلما مررت على شىءٍ أضمه لصدرى / ليمنحنى حياة / فقد كانت ليلة عصيبةً / قضيتها / بردانة / وأرتجف ). ص 28
ولا أكون مبالغًا إذا قلت بأن دلالات النص تتجاوز تلك الحكايات التى تسمعها، وتراها الشمعة إلى أفق إنسانى، وفلسفى أرحب. إنها تطرح بين ثناياها ثنائية: ( المعرفة والألم )، فالنار فى الأسطورة اليونانية هى المعرفة التى لا ترتوى أبدًا، والتى يتبعها أيضًا الألم حين يدرك الإنسان أزمة وجوده، وصراعه ضد قوى لا يسيطر عليها، ولا يدرك مراميها، وإن تم التعبير عن هذا الألم فى الأسطورة نفسها بـ ( اللعنة ) التى تطارد الإنسان بمكابدة الأقدار، ثم الموت فى النهاية. كانت الشمعة هنا وقبل أن تتوهج فيها نار المعرفة مستغرقة فى سعادة جنة العماء والوهم..
( أخيرًا / أنا فى الشارع / حيث فرحة العيال بانقطاع الكهرباء / والفوانيس خارجة لتلعب / ممتنة للظلام / كنت مستغرقة فى الوهم ). تمضى بها المفاجآت شيئًا فشيئًا فى نَفَس شعرى واحد، ومن خلال لوحات بصرية متحركة تتكشف لعين الشمعة المتقدة عوالم معقدة، وبائسة. المعرفة المرتبطة دلاليًا بالنار يدهمها شعور بالألم. ألمٌ يجعلها تضم كل شىء لصدرها؛ لأنها خائفة من الموت متجاهلة أن استمرار حياتها إنما يعنى احتراق كل ما سواها.
ألا يمكن من خلال تلك القصيدة تحديدًا أن نكتشف أن الرغبة فى المعرفة والصراع من أجل البقاء هما سبب كل الشرور التى تملأ العالم؟ أعتقد أن هذه إحدى قراءات القصيدة ثرية الدلالات، متفردة الصياغة.
3- التناص مع القرآن الكريم والنصوص التراثية المتداولة..
فى قصيدة ( أتوكأ عليها ) تطمح العصا إلى الإفلات من مصيرها اللاصق بتاريخها كوسيلة للقمع، والقتل. هى فى تمردها تضع الإنسان أمام مسؤولياته وحده دون توريط الكائنات الأخرى فى خططه.
الإشارة واضحة إلى قتل ” غيلان الدمشقى “. العمة نفسها التى حكمت بالعدل فى يد ” عاشور الناجى ” غرقت فى الجور واستبدت فى يد ” نوح الغراب ” فى تناص مع رواية ” ملحمة الحرافيش ” لـ” نجيب محفوظ ” وهى الراواية التى رسمت توق البشر فى الوصول إلى العدل والحكمة. هنا تناص أيضًا فى الإشارة إلى قصة موسى وسحرة فرعون مع تحويل وظيفة العصا من وسيلة لكشف الحقيقة إلى وسيلة قمعية لسحق الحقيقة وسيطرة الزيف حين تكون العصا أداة فى قبضة الأمن المركزى الذى يواجه المظاهرات السلمية. التناص يبدو بشكل آخر فى قصيدة ( أصوات ) حيث يتم تفكيك الدلالة الأصلية للنص القرآنى فى قصة ( يوسف ورفاق السجن ) من الحلم بالنجاة ولو بالعبودية فى قصر الفرعون إلى الرغبة فى كسر هذا المصير المُذل المعلق بالرقاب، ولو بالموتِ.
( يا إلهى / بدل الرؤية أرجوك / أريد أن تأكل الطير من رأسى / ولا أريد أن أعصر خمرًا ). ص 59
أما فى قصيدة ( أذكار الصباح والمساء ) فإننا بإزاء تناص يكشف حالة من التكرار والدوام لعذاب المرأة الفقيرة العاملة دون أمل فى الإفلات من هذا المصير المشئوم. كأنها سيزيف الذى لا تنتهى عذاباته. وهى تتساءل:
( أيتها المئذنة / قولى لربكِ / أنا بلا سكن / حاشا له أن يسكن قلبى / ويتركنى شريدة ). ص85
إنها عبر التناص الدينى نفسه تطرح السؤال المحير: هل عذاباتها هى من صنع الله، أم من صنع البشر؟
إن الشاعر الذى يرصد ذلك يعطيها رغيفًا فى النهاية، فتدعوه لأخذ الثمن، وهو كصائد خائب يرفض؛ لأنه صائد أوجاع، وعلاقات مدهشة بين الأشياء جميعها فى انسجامها واتساقها، وليس صائد أجساد، ونزوات صغيرة، لذا فكان لا بد أن تستدير المُتعَبة بصفتها ضحية؛ لتنهش روحه بتفاصيل حياتها البائسة التى تؤرق كل روحٍ شاعرةٍ.
ملحوظة: هناك بعض المآخذ من وجهة نظرى على بعض قصائد الديوان، وهى المتعلقة بقصيدة ( لصٌ صغير فى انتظار رؤيا )، وقصيدة ( حلمٌ للرضيع ) حيث أفلت المجاز الشعرى من الشاعر فى نهاية القصيدة الأولى لتتحول فى فقراتها الأخيرة إلى حالة استدرار الحزن بشكل مباشر، وفى نهاية القصيدة الثانية إلى نهاية مباشرة فاجعة كان أولى به أن يستخدم _ كما فى معظم قصائده الأخرى _ بلاغة الحذف، والإشارة.
وفى قصيدة ( بطولة ) كان المغزى مباشرًا، وكانت الأجواء الدرامية للنص قصصية. هناك أيضًا حالة شعرية لم تكتمل، وأعتقد أن الاستغراق فى الحزن وحده وأد شعريتها فى نص ( حصة الألعاب ).
ملحوظة ثانية: هذه قراءة لديوان استمتعت بقراءته، والتعمق فى قصائده التى تشتبك مع الذات، والواقع بشقيه: الآنى، والماضى؛ لتطرح رؤاها مبينة تفرد الشاعر نفسه، وقد نقل عالمه بشجن ممزوج بأنين ناي المعنى، وعلى ضوء مرتجف لشمعة بردانة ترتجف.. لا نبالغ إذا قلنا إنها شمعة الوجود الإنسانى المضطرب فى أجلى صور صراعه من أجل الوصول إلى فهم تشابكات الحياة وغموض تصاريفها.