الحياة عبر الأقنعة والمرايا

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تبدو الأقنعة أحد الحلول السحرية فى رواية (المزين) للروائى "أحمد سمير سعد". إنها تمنحه القدرة على الوجود، والانتصار مؤقتًا على ما يعرف بـ (قفلة الكتابة – Writes block) التى تنتاب بعض الكتاب، فيشعرون بالضيق، ويتشبثون بأية فكرة هربًا من الشعور المؤلم بجفاف القريحة الإبداعية.

والمزين، فى ثقافتنا الشعبية، معروف أنه شخص ثرثار. يجمع الحكايات من الزبائن، ويقصها على آخرين؛ كوسيلة للحصول على حكاياتهم أيضًا. يُشذّبها، ويُقدّمها وجبة طازجة، وفخًا للإيقاع بآخرين أيضًا بينما يشذب رؤوسهم. إنه يمارس كذلك دور المعالج لبعض الأمراض البسيطة. حائك للمؤامرات. وصديق الإسكافى، والنجار، والسقا، والحداد، وطالب العلم، والخاطبة.

إضافة إلى سماته، ودلالاته الشعبية، فإن المزين هنا يُقدم 

ويُجمّل، ويُعالج، ويعرف الفلك، والمقادير، مؤيد بنصر من الله، فنان، شاعر، حكيم.

(أنا المزين فنان ملهم وشاعر مجيد وحكاء نابغة، فتحى مبين وجيشى غالب) ص124

هذا ليس شخصًا، لكنه صورة مضخمة فى مرآة محدبة للبطل الروائى. صورة تعويضية، وقناع لذات تمارس رقصتها الأخيرة. تحترق بحثًا عن حكاية مكتملة؛ لتمارس ألقها، أو لتعيد ثقتها فى نفسها، واتزانها.

سنلحظ بشأن ملاحقة الكتابة هذا الترادف اللفظى. المط والتطويل فى العبارات؛ للحصول على مدخل. كأنه استعطاف للغة؛ لتمنح بركتها فى حكاية غير مألوفة. كما أن هناك استدعاء أسماء الكتاب، والعلماء: لامارك، كويلهو، ماركيز، نيتشه، ساراماجو، يونيسكو، إدريس، كونديرا، أبو زيد، محفوظ، الطاهر عبد الله، محمد ناجى، فتحى إمبابى، وأحلام مستغانمى.

واستدعاء أساطير: سيزيف، أوديسيوس، وأوريليانو بوينديا بطل “ماركيز” فى (مئة عام من العزلة)، هذا الذى يصنع أسماكة المعدنية الجميلة، ثم يذيبها مرة أخرى كـ”سيزيف” وصخرته بالضبط.

واستدعاء رموز بأزماتها: تكفير الحلاج، تأليه البهاء، وأفكار ماركس، وادعاءات رولز، وأحلام الإسكندر، وأنف كليوباترا، وحرق البوعزيزى. أشعار نزار، وقدرات زرقاء اليمامة..

وسنقرأ رأى البطل فى رواية (أولاد حارتنا) بصفته من ممارسي الكتابة الإبداعية، بينما يحاور “مريم” زميلته فى البنك. الفتاة المحبة للقراءة، والتى ستصير زوجته بعد ذلك، ثم طليقته.

هذه إحدى المواقف المثالية التى يتكشف ذاته الحقيقة من خلالها فى صدق نادر، حين يقارن بين هدفه من القراءة، وهدفها، وبالتالى يحلل الأسباب التى فرقت بينهما فى وقت ما؛ لأن لكل منهما عالمه الخاص المتباين تمامًا مع الآخر: (أقرأ لأحكم وأتعلم الكتابة بينما تقرأ لتكتشف عيشة أخرى وعوالم أرحب، تحياها بكل كيانها، تنجذب وتنجرف فتنداح خواطرها صادقة، حقيقية، مفعمة بالعاطفة) ص108

إن (قفلة الكتابة) تبدو حيلة للتطهر، لجلد الذات، ثم الشفقة عليها، حيلة لتمرير المزين بسماته الأسطورية، وقدراته العجيبة على مصاحبة الملوك، والمهراجات، وعلى الهروب من السجن، وتدبير المؤمرات، ومعجزات الشفاء، لكن الحيلة تنكشف فى كل مرة، وإثر كل أزمة.

وأزمات الراوى كثيرة.. أهمها هى أزمته هو ذاته التى يكشفها فى مواجهة حادة صادقة إثر بعض المواقف، حيث يُحرِّض على التغيير، ولا يتقدم الصفوف. أشبه بـ”هاملت” من أحد وجوهه، الذى أحاط بالحقيقة، ثم وقع فى الحيرة. لم يتخذ قرارًا، ولم يحسم أمرًا.

(الآن أعلم أن أمثالى يحتاجهم النظام، أمثالى لا يُغيّرون ولا يصنعون ثورة، هم فقط يتصالحون مع أنفسهم بما يفعلون، أمثالى لا خوف منهم ولا خشية، يكفى أن تراقبهم من بعيد وأن تمد لهم فى الأمل، أمثالى يمصون السخط، يصبحون مثالا يُحتذى من كل نفس بشرية لا تريد أن تشارك فى سرقة أو فساد وفى ذات الوقت لا يعاقبها النظام، تستمتع بالمنصب والعمل والحرية والمال) ص 112

تبدو الأزمة الأكبر فى القلق الوجودى لدى البطل، والروائى أيضًا. القلق الدافع للإنجاز، وما يتبعه من سرسعة فى قطف الثمرة، وفى علاجها المتوتر، وفى الأداء السردى الذى يجلب الصور، والذكريات، والمواقف دون أن يتأمل أكثرها بتأنٍ، فيخرج بنتيجة تستكين إليها ذاته. وربما كان هذا الأداء يعبر بصورة جلية عن أزمة البطل الكبرى، حيث يهرب سريعًا إلى شخصية المزين، فيحيا عبر بطولاته، أو انتكاساته حسب حالته النفسية فى كل مرة. مرتديًا قناعه غير المُحكم، فالمزين الذى يُقدم فى صورة تراثية نراه يتكلم عن الليزر، والإيبولا. إنه الصورة التى تريد أن تلم بأطراف العالم؛ لتعويض انتكاسات خالقها، ومحاولة البطل الروائى إنجاز روايته لا بهدف الكتابة فقط، ولكن بهدف تجاوز أزمات الواقع، والتشبث بقشة فى بحر حياته الصاخب بالتوتر، والقلق، والخرف من فقدان الوعى بالعالم.

 تُرى لو قلل الروائى من مساحة، ودور هذا القناع (المُزين) الذى لا ينكتب، ولا يكف عن الضجيج فى رأسه، أكان يمكن للرواية أن تشق طريقها بقوة، وبجمال صادق وتطهر عبر هذه المواجهة الحادة مع الذات، ومحاولة فهمها، والوقوف على حقيقتها دون تضخيم، أو تحقير؟!

هذا افتراض وجيه، لكنه لم يحدث فى الرواية، وإن كان جدير بالتأمل بعد القراءة، فالفصول التى يسرد فيها الراوى معاناته مع الحياة التى تشذب خطواته، وتقصفها، ومعاناته مع الكتابة هى أكثر جمالًا، وحميمية.

 

مقالات من نفس القسم