الحياة حلوة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بسام الطعان*

برفقة الصمت المريب ،  والخيالات الشاردة، وفي صباح خريفي بائس ، كنت أسير بقامة منتصبة خلف  جنازة  رفيق الطفولة  والصبا ، أو بالأصح بالقرب من نعشه المحمول على الأكتاف ، بينما عقارب الأفكار تدق في كل خلية من خلاياي، وتريد أن تأخذني إلى عوالم الهذيان.

صديقي لم يكن ميتاً على الإطلاق ، والدليل على ذلك أنه كان يتحدث إليّ دائماً ، وأنا  كنت   أتحدث إليه وابتسم ،  وأحيانا  أضحك بصوت عال حين يقول  لي  النكت  الكثيرة  التي  يجيدها  بامتياز ،  فتسقط  عليّ  النظرات المستغربة وتهتز الرؤوس أسفاً.

   قبل أن نصل إلى محطتنا الأخيرة ، رفع رأسه وقال لي بصوت مصبوغ بكل أنواع الحرمان:

   ـ آه يا صديقي , آه وألف آه .. العين تبكي والقلب يتحسر.

   ثم ابتسم وأضاف :

   ـ الحياة حلوة ، أليس كذلك ؟

   حين جاوبته وأنا أضحك كي أبعد عنه الهموم، تدلت الرؤوس الـتي فقدت ملامحها من فوق الأكتاف ، حدقت  العيون  إلى جيداً ،  وطارت منها آلاف الغربان، تمتمت أفواه كثيرة ، بعضها طلبت أن أطرد  وأمنع  من المشاركة بالتشييع الذي لم أعترف به أصلاً ، وبعضها سخرت  مني واتهمتني بأشياء كثيرة، أما أنا فتعجبت وتساءلت في داخلي :”لماذا لا تتدلى الرؤوس وتحدق العيون إلا عندما أتكلم أنا فقط؟”.

   ما إن وضعوا النعش بجانب الحفرة حتى تطلع إلى من حوله ، ثم تمطط  وحاول النهوض لكنه لم  يستطع  ولا أدري  لماذا ،  حينئذ طلب المساعدة وهو يتوسل، فلم يستمع إليه أحد، فما كان  منه إلا أن نظر إليّ وابتسم ، ثم قال نكتة أضحكتني  كثيراً ،  وبينما  كنت مشغولا بالضحك ، سقطت كف ثقيلة  لعفريت ابن  عفريت  على  رقبتي ،  كادت  توقعني أرضاً ،  بعدها سمعت  شتيمة  بذيئة جدا ، شعرت بحقد طاغ تجاه كل الموجودين ، التفت إلى الوراء وأنا أغلي ، فرأيت الوجوه الواقفة خلفي محايدة تماماً.

   حين  حملوا  النعش ،  رفع  رأسه  فرأيت وجهه ينبض بالصحة والعافية ويلمع  مثل  قنديل  في  الليل ،  وحين أراد أحدهم أن يدخل رأسه إلى داخل الصندوق  رغما عنه ،  أمسك  صديقي  بيده  وعضها  بقوة حتى امتلأ فـمه بالدماء ،  ولكن  يا للعجب ،  لم   يتأوه  الرجل  ولم  يشعر  بأي  شيء على الإطلاق، وقبل أن يدخلوه إلى الحفرة راح يصيح بصوت مصحوب بغضب دفين:

   ـ اتركوني..  لم أفعل شيئا..

   في لحظة أكثر من هستيرية ، انتفضت كل حواسي ، وكان نبضي يجري عتيا بين القبور ، وفجأة عفرتهم بالتهديد والوعـيد ، ثم اندفعت باتجاه النعش وكل همي أن أخلصه من  بين براثنهم  ،  ولكن قبل  أن ألمسه ، اعترضتني الأيدي والأفواه وصادرت فمي  المليء  بالشجب  والاستنكار ، اقترب مني ثلاثة رجال  وجوههم  معفرة  بالتراب والعرق ، حملوني بصمت وألقوا بي بعيداً وعادوا إلى عملهم .

   سمعته يناديني باسمي ،  فلملمت  بعضي ، ومن بين الأرجل زحفت عبر الأشواك باتجاه الحفرة ،  وما أن  وصلت  إليها حتى مددت رأسي ، نظرت إليه فرأيته ينتحب  بصمت  ويقول بهمس:” آه يا دنيا”.  في البدء  كاد يغمى عليّ  ، لكنني تمالكت أعصابي فمددت له يدي وقلت بصوت خفيض:

   ـ انهض بسرعة لنهرب.

   بغتة سمعت شتيمة مزلزلة ، ثم سقطت  على  رأسي  وظهري  محتويات الأفواه ، هوجمت من  عدة  جهات  وانهالت عليّ الصفعات والركلات التي لا ترحم، وبعد لحظات وجدت  نفسي  وحيداً ,  منكسراً،  مهزوماً ، ومرمياً فوق الأشواك والصخور الجارحة.

   لوثوا ثيابه الناصعة البياض بالتراب وهو يصيح :

   ـ أخرجوني يا صعاليك ..  لست ميتا  بل أنتم الميتون.

   ثم رسم لوحة بالبراءة وأضاف:

   ـ الحياة حلوة ولم أتمتع بها بعد .

   كل نداءاته ذهبت أدراج الرياح وبمغمضة عين  صار تحت  التراب ، أما أنا فطردت كل آلامي ولملمت  شـجاعتي ،  واندفعت  نحوهم  كثور هائج ، أبعدتهم عن طريقي ، وقفت فوقه  ،  ناديته ، ثم تمددت إلى جانبه:

   ـ كيف افقد شهامته ورجولته ودعابته وحديثه المحبب ، هذا حرام يا ناس  انه لم يفرح بشبابه ، ولم ينم لصق الجسد الأنثوي بعد، أرجوكم أخرجوه فمكانه ليس هنا.

   لم أسمع جواباً من أي بني آدم ، ولكن بعد لحظات تقدم مني أحدهم وأراد أن يبعدني بالقوة ، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما سمع أحدهم يقول:

   ـ اتركه يفعل ما يريد , انه…

   بقينا أنا وصديقي وحدنا ، جثة فوق التراب وأخرى تحت التراب ، ولكن ظلت أصواتنا الضاحكة تعلو وتطير مع طيور اليمام فوق الأودية والسهول ، بينما كان الآخرون يخرجون من المقبرة تباعاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب سوري

[email protected]

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم