الحياة المزدوجة لراعي البقر

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسين فوزي

فضلت دوما ألعاب العالم المفتوح، وهي ألعاب مصممة بحيث تستطيع التجول فيها بحرية، وكل قرار تتخذه يؤثر على مجرى الشخصية التي تحاكيها. نادرا ما تقابل الـ loading screens  السوداء، الفاصلة بين كل مرحلة وأخرى، فالزمن فيها ليس خطيًّا، بل أنت من تصنعه، وترتب مهماتك فيها كما يحلو لك.

حياة كاملة تنتظرك من وراء الشاشة.

إحدى أفضل الحيوات التي عشتها كانت حياة راعي البقر. شربت ويسكي القرون البائدة في الحانات الخشبية، وسطوت مع شلتي على البنوك، وقطعنا الطرق.

عندما انتهيت من القصة الرئيسية للعبة قررت أني سأتجول في فضاء عالمها لبعض الوقت. بحثت في الخريطة، ووجدت مساحة ذهبية كبيرة فارغة وبدون معالم، بعيدا عن المركز الرئيسي للأحداث.

نويت أن أهزم اللعبة.

ركبت حصاني، وتوجهت إلى الجنوب، نحو الأرض الشاسعة التي لم تُكتشف بعد، متتبعا قضبان القطارات، عبر أنفاق مهجورة. حتى وصلت إلى الصحراء.

وفكرت أن تلك القارة ربما تكون إحدى الكنوز التي أخفاها المطورون، وأن من خلفها الكثير من المهمات السرية، ولكن البلدات كلها كانت مهجورة بلا حياة. فقد ضُرِبَت بالحمى القرمزية ثم التيفوس ثم أتت الكوليرا وقضت عليها.

ماذا سيفعل قاطع طرق مثلي وسط مبانٍ ميتة؟

رحلت وتوغلت وسط القفر. غير شاعر بالعالم سوى عندما تدخل عليَّ أمي لتخبرني أن أبتعد قليلا عن الشاشة خوفا على صحة بصري.

 في ذلك الصيف، بخارج حجرتي كطفل الآن، لا كراعٍ وحيد للبقر، كان المنزل يتفكك، وبالداخل كنت منفصلا.

مللتُ القتل والعنف. وعندما كنت أخترق بدون قصد إحدى الملكيات ويخرج عليَّ رجل ببندقية، كنت أقايضه ببعض حاجاتي مقابل حياتي.

وحين يأتي الليل، كنت أخيم مشعلا الحطب، رابطا حصاني في حجر. أخرج ما معي من رصاصات وأحفر بالسكين على رأسها حرف الـ X، حتى تكون أكثر فاعلية لقنص الحيوانات التي أتغذى عليها.

أحسست بالاتصال مع ذلك الشعور المخيم بالوحدة منذ أن انفصلت عن شلتي من قطاع الطرق، بعيدا في الجنوب، حيث لا أحد ليُقتَل، أسفل الشهب المسافرة لرجم الشياطين.

حتى وقتها لم أكن أعي لأي درجة أنا وحيد. احتاج الأمر لعبة كلف إنتاجها وقتها ثلاثمائة مليون دولار، دافعا لشخصية، ابتُكِرَت في الأساس كي تعيش أجواء العنف والصخب في أواخر القرن التاسع عشر، للابتعاد عن كل ما يجعل من حياتها مثيرة للاهتمام والهجرة نحو كل الكآبة التي أسقطتها عليه من حياتي كطفل يعاني من القلق الاجتماعي.

هكذا تجاوزت فترة انفصال أبي وأمي، باللعب.

*

ولكني لم أعد ألعب كثيرا. أفكر وأنا جالس في المقهى أشيِّش. أمضغ الذكرى وأزفرها مع دخان السلوم في أسى.

قديما كان يتم تصور الزمن بصفته شريطا، ممتدا من الناحيتين، دون بداية أو نهاية. فشلت في التقدم للأمام، فتقدمت للوراء. أبحث فلا أجد لي ماضٍ ليتمدد، فأخذتُ أحفر وأنخوَر، مشكلًا ماضيَّ لنفسي.

أَثَرُ ذلك بان عليَّ حينما بدأ الجميع يعبر عن قلقه تجاهي، سواء بإصابتي بالاكتئاب أو كوني لا أتواصل مع أحد بالشكل الكافي أو كنعتي بالـ borderline، في واقع يؤطرني فيه كل من حولي بالمصطلحات.

تجاهلت واستكملت ولم أفلح.

أخذت القرار. خرجت من المقهى عائدا للمنزل. أخذت الـ Xboxالمهجور لسنين، ووضعته في صندوق، أعطيته لماما وقلت: الجهاز دا ماعدتش بستخدمه، شحّتيه مع الهدوم الشتوي، أكيد فيه حد ممكن يتبسط به.

 عدت لغرفتي وأخذت الشريط من الدرج، وضعته في جيبي، وطلعت إلى السطح.

 أخرجت شريط الذكريات، دلقت عليه السبرتو، وأشعلت.

*

لسبب نسيته الآن، عدتُ في مرة للمنزل مغتاظا. مارست ساعتها هوايتي في لكم الحائط. انفتح ثقب صغير فيه، وتقشرت قبضتي.

دخلت ماما بعدها وأشارت للثقب وتساءلت: إيه دا؟

جاوبت مبتسما: دا عمايل إيدي.

يوما وراء يوم أخذ الثقب في الاتساع. لم يكن أنا من لاحظ، بل أخواي. لا يأتيان سوى مرة كل عدة أشهر، للزيارة، فأُتيحَت لهما فرصة تبين الفارق.

حتى وجدت أن الثقب الصغير تحول لدائرة مجوفة. وتساءلت كيف لايزال الحائط متماسكًا؟ ولماذا لم ينهدم البيت بعد؟

استيقظت عدة ليالٍ، متخيلًا أني أرى شخصا يحاول العبور من ثقب حجرتي. أفتح النور فتتلاشى الرؤية.

مللت الأمر، فسألت ماما عن سبب توسعة الثقب بذلك الشكل: ماما هو دا طبيعي؟

أجابتْ: آه، الحاجات دي بتسرح.

 في مرة، حظيت بنوبة عصبية صغيرة، وأنا جالس على حرف السرير، مخبئًا وجهي بين يديّ مقابلا للحائط.

 رفعت عيني ومن بين ثنايا بصري المُغبَّش، وجدت جدي، الذي عرفته من الصور، يشع بالنور من الثقب، وقد تدلى من فمه البايب الذي قتله، حسب الرواية التي رددت على مسامعي كثيرا من العائلة، مخرجا دخانا ثقيلا شكَّل شبورة كثيفة في المكان.

كانت رئتاه منفوختين كبالون، أي لا يستطيع تفريغ ما بهما من هواء، دون قفص صدري يحميهما.

مد لي يده، وسلمت له يدي، فشدني للداخل خالعا كتفي.

سرت وراءه في طرقة طويلة وضيقة، والمرايا تحيط بنا من اليمين واليسار. حتى قابلنا في نهايتها راعي البقر يجلس أمام نار الحطب ويحفر في طلقاته.

 التفتُّ خلفي، فلم أجد الطرقة التي أتيت منها، ثم عدت للأمام لأجد جدي قد اختفي. بمخٍ منمل، أجدني عالقا في عالم كارتوني سيء الجرافيكس.  

 نظر لي راعي البقر من أعلى كتفه، بصق البلغم خابطا على صدره، واستكمل نحت حروف الـ .X

 

 

مقالات من نفس القسم