عبد الرحمن أقريش
بمقاييس الزمن هو رجل ستيني أو يكاد، ولكنه يبدو أصغر من ذلك.
لسنوات طويلة عمل جاهدا لكيلا يتقدم في السن، لسنوات قاوم التجاعيد والأخاديد التي انحفرت ببطء وأناة على وجهه، على رقبته، في محيط عينيه، وفي أماكن أخرى من جسده…رياضة، حمية غذائية، عطور، ملابس شبابية، وصباغة شديدة السواد لشعره الذي أتلفته الكيمياء ومستحضرات التجميل اليومية، فتساقط مخلفا وراءه خطوطا ومسارات لصلع مبكر وزاحف.
الذين يعرفونه عن قرب، يقولون إن خوفه من الشيخوخة هو صدى لاشعوري لأعطاب أخرى تقضمه من الداخل، فهو لم ينجح أبدا في أن يكون بشرا سويا، لم ينجح في المصالحة مع ذاته، لم ينجح في أن يكون هو.
والغريب أن السنوات الطويلة التي قضاها على مقاعد الدراسة كانت بلا جدوى، فهي بالكاد نجحت في محو أميته، ولكنه في النهاية ظل شخصا غبيا، معطوبا، مشوها ونصف أمي.
أما صورته عن ذاته فكانت تعمق شرخه الداخلي وشعوره بالتعاسة.
في كل مرة يقف أمام المرآة، ينظر إلى صورته، يتأملها، يصل دوما إلى نفس النتيجة، يرى ذاته عارية على حقيقتها بدون رتوش، ليس وسيما، ليس بشعا، ليس شابا، ليس شيخا، ليس ذكيا، ليس مثقفا، ليس طيبا، ليس شريرا، ليس سعيدا ولا شقيا، هو في مكان ما، في نقطة ما بين بين، في منزلة بين المنزلتين، منزلة عنوانها الألم والغبن والاغتراب.
في سن مبكرة تملكته أوهام المال والجاه والنجاح والألقاب والشهرة، وقيل له إن الانتخابات طريق سالكة تؤدي توا إلى الهدف، فقرر أن يدخل غمار السياسة، ترشح بألوان أحزاب مختلفة، خاض الحملات الانتخابية بشكل منتظم، وفي كل مرة كان يخرج منها خاوي الوفاض، مع شعور مرير ومؤلم بالهزيمة، في كل مرة كان يخسر الكثير من الجهد والكثير من المال، ولكنه في كل مرة يمني نفسه بالفوز ضدا على (الأعداء والخصوم) الذين ينظرون إليه بعين الحقد والحسد.
…
جلس يفكر، ينظر إلى الأوراق والجرائد، فتح دفترا صغيرا يستعمله كمذكرة، وراح يرسم خطة لما ينبغي أن يفعله، يخط خربشات، يرتبها على شكل عناوين مرقمة، يشطب على بعضها ويحتفظ بالبعض الآخر أو يعيد ترتيبها، ثم يمزق الأوراق، يدعسها، يرميها بعيدا ويبدأ من جديد.
التفت إلى صديق له يشتغل سمسارا في الانتخابات، يسأله.
– في نظرك، ما العمل؟ ما هي الأولويات؟ أنت تعرفني، لقد فشلت عدة مرات، ولكنني عنيد ومصمم…
نظر إليه السمسار، نظرة جامدة، نظرة تخفي مشاعره الحقيقية، فهو في قرارة نفسه يحتقره، يحتقر غباءه، ظل صامتا، يفكر، يسأل نفسه.
– أيعقل أن يتخرج بشر بكل هذا الغباء من المدارس والجامعات، ثم يصبحون وزراء وخبراء ورؤساء مصالح، إلى أين تسير البلد؟
ثم خاطبه مجيبا.
– المسألة بسيطة، ينبغي أن تدبر المال الذي ستنفقه في الانتخابات، وأن تجد حزبا تترشح باسمه…
…
أيام قبل الحملة الانتخابية.
جلس في الصالون، ينظر إلى المائدة وقد تراكمت فوقها عدة الانتخابات بكثير من الفوضى، هواتف محمولة، عناوين، بطائق ومذكرات، أسماء لوسطاء وسماسرة، منشورات دعائية، أوراق يفترض أنها برامج انتخابية، ينظر إلى الأوراق، يتأمل رموز وألوان الأحزاب، يدخن، يفكر، يقدر أن الأمر يتطلب جهدا ووقتا ليرسو رأيه أخيرا على حزب يناسبه.
غصن الزيتون، شجرة الأركان، النحلة، النخلة، الوردة، الكتاب، العين، السفينة، الدار، الطائرة، المظلة، الخلالة، صنبور الماء…
كانت الرموز كثيرة جدا، اختلط عليه الأمر وأصيب بالحيرة، أشياء، أضواء، ألوان، نباتات، حيوانات، أشجار، أجزاء وأعضاء من الجسد…
توقف كثيرا عند الحيوانات، الديك، الحمامة، الفيل، الدلفين، الأسد، الحصان، الجمل…
منذ سنوات ترشح باسم حزب (الزيتونة)، وقبلها باسم حزب آخر، وقبلها آخر، وبعدها آخر، يتذكر أنه كتب قصائد شعرية يمدح فيها شجرة الزيتون، ويعدد فيها فوائد زيت الزيتون في التغذية الصحية ومعالجة القروح وتليين البشرة، وقصائد أخرى في مدح النحلة والجمل والصنبور والقطار والحافلة وأشياء أخرى كثيرة لم يعد يتذكرها…
الكثيرون يتندرون ويسخرون من المسألة، أصدقاءه، أعداءه، هو يعرف ذلك، ولكن الأمر لا يزعجه كثيرا، فهو يريد أن يصبح برلمانيا، غنيا ومشهورا، وفي سبيل ذلك هو مستعد أن يمدح كل حيوانات الأرض.
يشعر بمغص في جانبه الأيمن، تتصلب رجله اليمنى، تتقلص أسارير وجهه، تتشنج، يرتسم عليها تعبير مؤلم، يتذكر بمرارة خسارته المدوية في كل الانتخابات السابقة، وأنه بالكاد كان يحصل على بضعة أصوات، وأنه في المرة الأخيرة خسر صوتا إضافيا يقول خصومه إن الأمر يتعلق بصوت زوجته، يقولون إنها منحته لشخص آخر يعجبها، تستلطفه، تميل إليه وبينهما أمور مشتبهات، شخص تتصور هي أنه يستحق، وأن زوجها في جميع الحالات لن ينجح أبدا…
…
الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية.
سارت الأمور وفق خطة منظمة ومرسومة بدقة.
اخترق الموكب الانتخابي أزقة المدينة القديمة، مسيرات، هتافات، شعارات، والكثير من البهرجة، قمصان، قبعات، مناشير، وأعلام بلون الحزب…
في نقطة ما انحرف الموكب يمينا، يسارا، ثم يمينا، وأخيرا توقفت الزفة الانتخابية أمام بيته، كان هناك منتصبا بخيلاء، يبتسم، يحيي الجميع، يبدو مزهوا، ممتنا وسعيدا، وفي الوسط فارس قوي يمتطي حصانا في كامل عدته على الطريقة المغربية، سرج أخضر مذهب، بندقية بارود مزينة بخواتم فضية…
في الحقيقة هو من فكر ودبر مسألة حضور الفارس والحصان، فالحصان في نظره تجسيد لشعار الحزب، وهو في نفس الوقت إشارة إلى التاريخ والأصالة والتقاليد الوطنية…
يرفع سبابته وينتظر، وعندما عاد الصمت، راح يرتجل خطبته، يتحدث عن الوطن، والوطنية، والشعب، وحق الفقراء في التنمية وما تختزنه الأرض من ثروات وفيرة…
يرسم لحظة صمت، يجول ببصره في المكان.
– شوفوا، الخير موجود في المغرب، كاين الفوسفاط، كاين الذهب، كاينة الفضة والرملة والخضرة والفلاحة وزوج بحور…خاص فقط التوزيع العادل للثروة وكل واحد يأخذ نصيبه…
ثم ينظر مبتسما بإعجاب إلى صف الشيخات وهن يغنين ويرقصن بحماس، رقص مثير وفاضح.
تقاطعه الزفة بالهتافات والزغاريد…
– أداها أداها، والله ما خلاها…
– إلى قالها يكد بيها…
ثم عندما يعود الهدوء، يواصل خطبته.
– إلا صوتوا عليا غادي نخدم معكم راجل…غادي نوفر العمل للعاطلين، نخدم الشباب، ولي بغا يحرك لأروبا غادي نوقف معه ونعاونو…وفي كل مناسبة ندير موسم وحفلة ناشطة ونجيب الشيخات والستاتي، ولكن خاصكم تصوتوا عليا وعلى الرمز ديال الحصان…
إياكم تبدلوني.
تعود الهتافات.
– لا دجاج لا بيبي، الحاج هو حبيبي…
– الحاج ارتاح ارتاح، سنواصل الكفاح…
– واحد، زوج، ثلاثة، الكيدار فالصندوق…
تخرج راقصة من صف الشيخات، تتقدم خطوة أو خطوتين، تفك ضفيرتها، ترسل شعرها الأصفر المصبوغ، ترقص، يتمايل جسدها الممتلئ، يهتز، تتشقلب في حركة بهلوانية خرقاء، ثم تطلق حنحنة قوية، تصهل، تقلد الحصان…
ثم يحدث أمر عجيب.
يجفل الحصان، يرفع قائمتيه الأماميتين، يسقط الفارس أرضا، ثم يندفع الحصان بجموح إلى الأمام، يهيج، يخترق صف الشيخات، يتفرق الناس يمينا ويسارا، بدا لهم ألا جدوى من محاصرته، ثم في حركة متهورة يتقدم هو ليمنعه من الهرب، يغير الحصان وجهته، يندفع في اتجاهه، يدهسه بقوة، ينطلق، وقبل أن يغادر يوجه إليه رفسة قوية، يركله بعنف ويصيبه في وجهه وفي رقبته.
…
انتهت الحملة الانتخابية، نجح الرجل أخيرا وأصبح برلمانيا.
…
بعد أسابيع، عاد من الرباط، جلس في قلب الصالون على كرسيه المتحرك ذي العجلات، تحيط به أسرته، أبناؤه وزوجته، وصديقه سمسار الانتخابات، تحلق الجميع حول مائدة طافحة وفي منتهى الكرم، أباريق، شاي، قهوة سوداء، عصير، حلوى وفاكهة من كل الأصناف…
يحتفلون بفوزه.
أخرج الرجل غلافا ورقيا يضم صورا تذكارية لرحلته الأخيرة إلى العاصمة، صوره في شوارع الرباط، أمام محطة القطار، أمام البوابة الخرافية لبنك المغرب، في البرلمان، وفي القاعة الشرفية، بدا مختلفا بلباسه المغربي التقليدي، الجلباب، السلهام، الطربوش المخزني ذو الشاشية الحرير، والبلغة الصفراء…
يسأله ابنه الأصغر.
– بابا، أكنت هناك عندما سرق البرلمانيون الحلوى؟ لقد رأيناهم في التلفزيون يحملون أكياس الحلوى ويهربون…
ظل الرجل صامتا للحظات.
– إييه أولدي، كنت هناك…
– أمي تقول إنها حلوى مسروقة، وأنها لن تسمح لنا أبدا بأن نأكل منها…
– …؟؟
– أصدقائي أيضا في المدرسة يقولون إنها مسروقة، وأن الذين أخذوها لصوص…
بدا الرجل محرجا، ولكنه تكلم أخيرا دون أن يرفع رأسه، دون أن ينظر للطفل.
– تلك الحلوى ليست مسروقة، لقد أخذوها لأن فيها البركة!!
تنظر الزوجة نظرة خاصة جهة الأولاد، ثم تنظر شزرا إلى زوجها، بدت غاضبة وحزينة، انسحب الأولاد تباعا، انسحبت هي بعدهم صامتة.
ساد الصمت للحظات، صمت ثقيل ورهيب، أشعل الرجل سيجارته، يدخن ويمضغ هواجسه.
تملل السمسار، عدل هيئته، وراح يلتهم قطع الحلوى، وفي كل مرة يتذوق من كأس مختلفة، يتلمظ، يفرقع شفتيه، يفعل ذلك بصوت مسموع ومزعج في إشارة إلى أنه يستمتع.
يلتفت إليه هو ويخاطبه غاضبا.
– إوا باركا، ألا تشبع من الطعام والشراب؟
يبتسم السمسار، يلتهم قطعة أخرى من الحلوى وأخرى من الفاكهة، ينتقي كأسا ثانية ويفرغها في جوفه، يرسم لحظة صمت.
– أتعرف الفرق بيني وبينك؟ أنا لن أعيش طويلا، فأنا مريض بالسكري، ولكنني سأموت قرير العين لأن حلوى المخزن لذيذة ورفيعة ومجانية…ثم بنبرة ساخرة، وفيها البركة!!
تنمحي ابتسامته، ويكمل حديثه.
– أما أنت يا صديقي فستموت كمدا، سيقتلك الطموح والكبرياء الأجوف وأوهام الجاه والمنصب، لذلك خذها مني نصيحة، كف عن الأحلام، استيقظ قليلا، وارحم نفسك من تلك السجائر المسمومة التي تقتلك كل يوم!!
بدا الرجل حزينا ومكتئبا، يمتص نفسا عميقا من سيجارته، يحبس الدخان للحظات، يلتفت إلي السمسار بجانبه، ينظر إليه صامتا، يتأمله، بدا وكأنه يفكر أو يهيئ جوابا، ثم يحرر الدخان من رئتيه، يرسله بعيدا، ولا يجيب.