الحلزونة ورحلة ليلية مضنية.. “قراءة في قصيدة “الحلزونة” للشاعر فؤاد حداد

فؤاد حداد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين إمام (شغف)

أرى الشاعر “فؤاد حداد” جالسا طوال الليل محاولا محاولات مستميتة للصيد في بحر الإبداع.. يُلقي بشباكه المرة تلو الأخرى.. فتخرج خاوية مرة.. وتخرج بحذاء قديم مرة.. وبصندوق صدئ متآكل مرة ثالثة.. حتى التقط “حلزونة” ظهرت له منها جنية الإبداع مع شروق الشمس لتشير بعصاها إلى أذن الشاعر وعينيه لتجعله يستطيع رؤية ما لا يمكن لغيره أن يراه، ليرياه معا:
“فجأة لقينا الليل بيشتي نهار
والأرض بلبل والسما فرجه
وإن كان ما حدش سامعه بيغني
بين المراوح وقف العربية
الضي شعشع والشجر سلويت
أنا وحبيبتي في قميص باكمام
عينيها ترعش من جمال المنظر”
جنية الإبداع كادت أن تكتفي بالكنز الصغير الذي منحته إياه، لتمضي.. لكنه تشبث بها بكل ما أوتي من قوة:
“بلعت ريقي ييجي ميت مرة
وكل مرة ينقطع صوتي
بذلت مجهود الجبابرة وأخيرا
قلت لها خليكي هنا ويايا
حتروحي فين ويا الهوى وياه”

هذا التشبث الذي افتقدته منه في زياراتها السابقة !
“قالت لي ياه
قلت لها يايا ويايا
واحنا بقينا في آخر الدنيايا
والزنبلك داير على الفاضي”

فقررت أن تجلس معه، وتعاتبه بحب عن سنتين ماضيتين لم ينتبه لها كما ينبغي، بل كان يتعثر في حروفه.. منشغلا بما هو مظهر الإبداع لا جوهره:
اتلفتت لي المستبدة اللطيفه
وخدها بينطر دموع مش نازله
والحب أرحم لما يبقى مغازلة “

وقررت أن تلقي نظرة على الأوراق التي يكتب بها.. لتشير إلى كلمة بعينها في آخر سطر كتبه:
“والمحرك (الموتور) داير على الفاضي”
ثم قررت أن تبدأ كلامها من هنا لتوضح له ما تريد:
قالت لي عيب بدل الموتور والمحرك
يا عم يا شاعر تقول زنبلك لك”

فشطب حداد على كلمتي “المحرك” و”الموتور” وأئتمر بأمرها، فوضع كلمة “زنبلك”.. لتُكمل حديثها:
سنتين بقى في المعاني تلكلك
وتنشغل باللفة والأسلوب
والتعلب المكار أو التعلوب”

وعندما وجدته متأزما.. تنازعه مشكلات الحياة مشكلات الإبداع، قررت أن تخفف حدتها قليلا:
“ولع سيجارة ولا مش هتولع؟
راجع لي بعد المدرسة تدلع “

أشعل سيجارته وبدأ التدخين بكثافة، فأكملت كلامها :
“دخانك اسود يبقى قلبك شايل
لكن حاسيب حضني في حضنك مايل
اكمنش التفكير في حل المشاكل
ده هم طيب من هموم الحياة”

هذا الفهم والتربيت اللذين افتقدهما كثيرا طوال الفترة الماضية !
“قلت لها ياه
قالت لي يايا ويايا
واحنا بقينا في آخر الدنيايا
والزمبلك داير على الفاضي”

فبدأ يداخله الشك أن “الزمبلك فعلا داير على الفاضي”، بدأ يستعيد الحياة.. رغبته فيها وتشبثه بطاقته الإبداعية بعد أن كاد أن يشك فيها وفي جدواها وفي نفسه، تلك الرغبة التي تعبر عن نفسها في المغازلة والتشبث والرغبة المجنونة في الابتلاع والتشرب:

“رديت كأني من بعيد مش سامع
يا لابسه من تحت الودع تنوره
معسله زي القمر في الشمس
يا أم الليالي الهاطله المشموره
ياريتني أعمى أشربك باللمس
والا أشمك من بيار الأمس”

“قالت لي هتقلب جد يا مسكين”

” قلت لها أستاهل حدود الموت “
وهل في حدود الموت إلا رؤية صافية للحياة ؟

“أنا الحرامي سارق السكين
سلمت نفسي إن هذا الصوت
بكا شفايفي من شفايفكم
غاوي العطش أفضل أشم الليل
ولاَّ أموت الظهر شايفكم”

رحلة إبداعية تستمر ليلا يبحث فيها عن بئر يروي عطشه، قد تنتهي ظهرا برؤية البئر الإبداعي لكن بعد أن فقد قواه وشارف حدود الموت!

فقررتْ جنية الإبداع أن تطمئنه إلى أنه انتصر، وأنها ستسمح له أن يسكن قصرها ويرتفع إلى أعلى برج فيه:
“قالت لي غني يا ولد شامي
وغني مصري يا ولد مصري
ارفع لفوق البرج أعلامي
وتعالى بين الضفتين قصري”

حتى يدرك أنه مثلها جني، وقادر على الطيران :
“أتاريني جني وهي جنياه “

هذا الوصول أخيرا إلى ذاته الحقيقية ! لقد أدرك أخيرا من هو!
“قالت لي ياه
وأنا قلت يايا ويايا
واحنا بقينا في آخر الدنيايا
والزمبلك داير على الفاضي”

هل “الزمبلك داير على الفاضي؟” ربما شعر بهذا مرة أخرى وهو يستدعي تفاصيل الرحلة وكيف يحاول على أبواب الشعر واضعا ما لديه من “نور” في تقليد لقوالب ما حتى يتقنها ويُخرج منها صوته الخاص، وربما انجذب في لحظة لتقليد “طاووس” مزدهي بنفسه نافشا ريشه على اللاشيء، بينما المواجهة هي ما تمنح اللؤلؤ:
“قلت لها والنور اللي جوانا
ينهج في تقليد اللي بيشوفه
كِتر الطاووس زي السمك في المرج
ورقصة الأسياف تنقط لولي”

وعندما وصل لإدراكه لتفاصيل رحلته شكر جنية الإبداع، التي أشارت له في النهاية إلى مرآته/ أوراقه ليرى ما انتهى إليه:
“نورتِ بيت الشعر يا أموره
قالت لي دا انت اللي ولد أمور
يا طفل شايب في قماط دمور
خد المرايه بص شوف الوسامه
رسمت كلامي ودنك الرسامه
ودعوا لنا نوصل قصرنا بالسلامة
الجن والناس اللي في الحلزونة
يسلم لي بقك دا اللي أنا ساقياه
وإن قال لي ياه
أنا أقول له يايا ويايا
واحنا بقينا في آخر الدنيايا
والزمبلك داير على الفاضي”

مقالات من نفس القسم