أمين الكوهن
سردية حب عميق، عشق وهيام، رباط حبل أسري بمجد انتماء سرمدي إلى الجد، صالح بن طريف، تلك التي عبر بها شعيب حليفي عن مكنوناته نحو للشاوية. لم يكن الأمر تلميحا بل تصريحا (ص 96)، من خلال رسائله السبع. فقد انطلق بهذا الإنتماء الأميري من غلاف الكتاب، حيث تجد خاتمين، أولهما في الأعلى، إداري على طوابع بريدية تبرز مغربا عميقا، وثانيهما أسفل واجهة الغلاف كتب فيه “شعيب بن محمد بن عبد السلام حفظه الله“، ممهور بطابع رسمي، وإلى جانبه توقيعين آخرين. وفي الغلاف أيضا ديك صادح في أعلى الشجرة وخلفيته انبلاج صبح جديد ببداية إشراقة شمس. إنه مزاج جديد يربطك بالأفق الروائي لشعيب حليفي الذي عبر من خلاله على نفس الهموم التي يطرحها اليوم، ما يبرز انتظام فكر مرتبط بقيم استمدها من حكي أمكنة، ومن أناس يشعر بأنه يعبر بلسانه عن كينونتهم ماضيا وحاضرا.
باستثناء هذا الفيض من الحب للمنطقة وأهلها، فإنك لن تتمكن من تصنيف جنس ما فكر فيه حليفي وهو يخط سرديته التي حاول فيها مزاوجة الحكي الروائي بانفعالياته وجنوحه نحو الخيال، وبين تقريرية الكتابة التاريخية وصرامة وإجرائية أدواتها المنهجية. إلا بعد الانتهاء منها. فهو يفاجئك دائما بغرائب الأخبار المنحوتة في ذاكرة الكبار. بهذه السردية يكون منفلتا من رقابة نقاد الرواية ومن ضباط (حراس) الكتابة التاريخية، إذ يضع نفسه خارج أفق النقد ويلج بك إلى منطق عشق التراب الذي انفلت أيضا لأهل اختصاصه. مارس شغبه على التاريخ والمؤرخين، على الرواية والروائيين، يكتب بحرية مطلقة متجاوزا كل الحواجز والحدود، وإن كان بحذر، اللهم بعض الانجرافات الانفعالية، إذ ينزلق بذكاء عبر “أسلوب التعمية” الذي مارسه، وعبر عنه: «بويا صالح.. الشامخ القدر، سمعتك تقول لي: أوصيك بالدقة لا بالوضوح» (ص 94). وهل تستقيم الدقة بدون وضوح. هو جزء من التشويش والشغب الفكري الذي سيمارسه في أغلب السردية.
هل كانت قضيته القبيلة… نعم، هي القبيلة بترابها وناسها، بسطائها وأعيانها، مائها وبلعمانها… لكن كيف تمثلها؟. أكاد أجزم بأنه تمثلها في المشترك الإيجابي لقيم أهلها، كما يراهم، عشاق حرية، مقاومين للظلم. ومن هنا انطلقت سردية « سبع رسائل الى صالح بن طريف» التي تقع في 185 صفحة، صادرة عن منشورات نادي القلم المغربي (ط1: نونبر 2022) في شكل عهدناه فقط في” الكاتالوغ السياحي”، وهو ما يفتح الباب لتأويل غائيات هذه السردية.
•••
من خلال ثلاثة أبواب، عمد المؤلف إلى إعادة قراءة تاريخ «إمارة برغواطة » التي لازالت كل قضاياها مفتوحة ولم تحسم لا جزئياتها وتفاصيلها أو أحداثها الكبرى، وربما هذا ما دعاه إلى تقديم اعتذار للخوض في الموضوع بمبرر الشوق ل« بويا صالح»… ليوضح بعدها ملامح مشروعية مشروعه نحو بناء “رؤية منصفة” عن برغواطة (ص7)، وتركيب صورة تتجاوز تكالب الأحداث والمؤرخين، للخوض في “متاهات الملحمة البرغواطية” وسياقاتها الخاصة والجهوية، في أبعادها البشرية والسياسية والدينية… وبشكل قصدي يدعو إلى تجاوز القراءة التقليدية بإعمال “الخيال العام” باعتباره نورا يضيئ العتمة، وهو ما كان مدخله في الباب الأول الموسوم ب « مدخل عام: ألواح من الخيال العام»، رتبه في ست لوحات، تجول في حقول ملغمة من تاريخ المغرب، انطلق في أولها بالبحث في المجال على امتداد مرحلة بدأها من زمن “الأسطورة” باتجاه “التاريخ”.. مستفتحا بأسئلة (إنكارية) لها معناها في السياق، من قبيل «هل كان المغرب مجالا لمبادرات الغير؟ أين مبادرات أهل البلد.. أهي في الحروب فقط » (ص 18)، موجها أسئلته لطبيعة الكتابة التاريخية حول المرحلة، معتبرا بأن الباحث عن« خيط ناظم من داخل معرفة تاريخية تربطه بهوية الأرض والانسان والمجتمع، قد يشتبك بالنظريات والاحتمالات الاستعمارية أو الاستنتاجات الساذجة أو الجزئيات التي تصبح حشوا يملأ الفراغ» (ص 19).
يعود في لوحة ثانية باحثا عن أصول المغاربة، متجاوزا كل ما انتقده، ملتمسا البساطة التي اقتضت منه «بأن أصل المغاربة يرتد إلى هذه الأرض»، مستندا إلى آخر اكتشافات الأركيولوجيا بجبل ايغود (ص21)، معتبرا أن المغاربة وُجدوا « بالمنطقة ثم توافدت الاجناس والشعوب»، (هكذا!!!)، وهي بساطة ترقى- في نظرنا – إلى التبسيطية، لكنها مغامرة، ربما البحث في اتجاهها سيقلب قراءة التاريخ ببلاد المغرب.
في لوحته الثالثة، ومن نفس منطلق فرضيته، استمر في المرافعة، معتبرا بأن أول منتصب القامة ظهر بمقلع طوما (الدار البيضاء)، تلاه الانسان العاقل بجبل ايغود، ثم مرحلة اكتشاف النار ومعها مظاهر الاستقرار، مع ظهور الزراعة وثقافة الموت… بعدها سيدخل المغرب التاريخ من باب التوثيق لكل من الفنيقيين والاغريق والقرطاجيين ثم الرومان .. وهو موضوع اللوحة الرابعة، فهناك من مر، وهناك من استقر. وعلى عكس فينيقيي القرون “الأولى للتجارة” وإلى حدود القرن السادس قبل الميلاد كان الفينيقيون تجارا عابرين، وبعد تأسيس قرطاج، ومع «عليسا» أصبحوا من مكونات فضاء بلاد المغرب… بعدهم الرومان والبيزنطيين والقوط ثم العرب.
بين المرور والاستقرار كان السكان شاهدين على بناء لكسوس ومرافئ أخرى… وكانوا فاعلين في مواجهة الوصاية الرومانية وبعدها الحكم المباشر، أسسوا كيانات بكل من نوميديا وموريطانيا… أسماء متعددة قادت صراعا ضد الدخيل، اتخذ لبوسا سياسيا واقتصاديا أو أيديولوجيا دينيا، ويحضر في هذا المسار كثيرون، من يوغرطة حتى دوناتوس. (ما لم يشر إليه حليفي هو أننا أمام الإرهاصات الأولى لبداية الدولة ببلاد المغرب، وهي وضعية استمرت حتى ظهور المرابطين).
ربما كان التحالف مع الموريين أيضا من أسباب الحضور القوطي، فقريبا من منتصف القرن الخامس الميلادي، حاز الوندال منهم على موريطانيا (المغرب) التي أضنى أهلُها استنزاف الرومان لخيراتهم وتفكيك عرى أواصر قبائلهم “برومنة” بعضهم. أسس البيزنطيون بعد ذلك، قاعدة لحكمهم (مركزها سبتة)، لكنها كانت أوهن من أن تقف في وجه الجرمان. ربما هذا ما حدث. ربما كان صراع السكان الأصليين وقود لإذكاء شكيمة المقاومة عند بعض القبائل، خاصة التي لم تتمكن الوصاية والاحتلال من شمول نفوذها أراضيهم، وظلت تنعم بالحرية… هذا ما لا نجد أخبارا عنه إلا بقدر التماس مع مؤرخي الاحتلال والوصاية. كانت هذه لوحة خامسة في عمقها بحث عن اللحمة الجامعة للمغاربة، وهي التحرر من الظلم والاستعباد.
الفتح الإسلامي، لحظة معجزة، هكذا سماها حليفي، ففي مفارقة تبدو غريبة، تمت أسلمة المشرق في أقل من ربع قرن، أما مع بلاد المغرب فقد كان الأمر أكثر تعقيدا، وأخذ زمنا امتد حتى ما نسميه “ثورة الخوارج” (122هـ/739م)، تغيرت السياسات بين اللين والشدة، وكان هناك قتلى من كلا الجانبين لم يسلم القادة (عقبة بن نافع/ كسيلة/دهيا…)، ولم يخرج المغرب من هذه الشرنقة إلا بعد الاعتراف بدور السكان من خلال تعيين طارق بن زياد قائدا (طنجة).
هز سوء سيرة الولاة إيمان السكان فطعنوا بثوراتهم في شرعية ومصداقية الامويين، فكان الطرد، وكانت بداية تجارب جديدة ومنها إمارة برغواطة التي ستستمر إلى عهد الموحدين.
•••
تحول الحكي في الباب الثاني، الذي وإن احتفظ بالامتداد المجالي والبشري، فان بؤرته محلية، ولغته أصبحت اكثر تقريرية، ممزوجة ببعض الأساليب الأدبية، ورغم تسميته فصوله بالرسائل، فإنها تنحو في اتجاه مختلف لأدب التراسل العربي التقليدي، مبنى ومعنى، ما يبرز أنه لم يكن هو هاجس المؤلف…
فعبر سبع رسائل سنتابع الصورة التي يتمثل بها المؤلف إمارة برغواطة، بلغته الحميمية مع « بويا صالح»، حيث عاد في رسالة أولى إلى حيث انتهى في الباب الأول(زمن ثورات البربر)، أي الاطار العام الذي أفرز الامارات الإسلامية الأولى(سجلماسة، وهران، النكور..)، محاولا توضيح هوية هذه الثورات التحررية، ومبرراتها التاريخية ومآلاتها، وقد كانت مغاربية بدون حدود، لتصبح محلية (ص 55) بل وتغرق في محليتها. ثم عرج في رسالة ثانية، على الاطار الجغرافي والبشري لبلاد تنامسنا كما أورده مؤلفو الفترة، مركزا على غناها وخيراتها، وبأنها مكتفية بذاتها.
استحضر في رسالته الثالثة، أصل حكاية برغواطة كما بناها المؤسسون (البكري وابن حوقل)، ناقش مختلف القضايا، خاصة ما تعلق بنسبهم “في اليهودية” و ” نبوءة صالح “… وأجاب عنها من خلال ستة أفكار أبرز فيها تهافت الكثير من الروايات، وأبرز استمرارية إمارة برغواطة، ليس لأربعة قرون(ص 65)، بل باعتبارها حاملة قيم وثقافة وسلوك أبدي.
عاد في الرسالة الرابعة والخامسة إلى طريف بن مالك (الأب/ الجد/ الأصل/ حليفي)، بحثا عن الشرعية الأيديولوجية، الشرعية الميدانية، الشرعية السياسية، من خلال ثلاثة مستويات:
– سفرياته وسنده العلمي ومعارفه؛
– معاركه إلى جانب ابنه؛
– أهليته باعتباره (صالح المؤمنين)، ومجددا من خلال ابتداع إسلام مغربي؛
في استدراج متواصل اتجه المؤلف برسالته السادسة إلى إبراز مميزات باقي أمراء بني صالح وهم، الياس بن طريف، المحارب والمصلح تولي الحكم ما بين (788-837). ابنه يونس(837- 880)، عالم النجوم والكهانة، والمحارب من أجل السلم بين القبائل، وفي عهده كانت محاولة ترسيخ قواعد دولة على المذهب الصفري. ثم إلى لحظة انتقال المُلك لأبناء العمومة، مع أبي غفير (884-912)، المقاتل للخارجين عن الطاعة، ومع عبد الله أبي الأنصار ( 912- 952) صاحب الحيلة والهيبة.
انقلبت الأحوال على عهد عيسى أبو منصور (952م- 979م)، ففي اطار صراع جيوسياسي جهوي، تم إنهاء استقلالية البرغواطيين، وخضوعهم للصنهاجيين ( بلكين بن زيري)، ليبدأ الغموض، وتختل السلسلة، وتتزاحم الأحداث، عبر ما أسماه المؤلف مرحلة التدبير الجماعي، ثم محاولة عبد الله أبو حفص من ذرية ابي منصور عيسى، بعدها الانتقال إلى آنفا (القديمة)، وقتل عبد الله بن ياسين، وبعده وفد علماء المرابطين، لينفرط عقد برغواطة على يد يوسف بن تاشفين (نونبر 1063م)، لكنها لم تنته… كما لم ينس المؤلف سقوط البرغواطي (المنصور) بالأندلس1061م الذي نال من المرابطين ما ناله سابقوه من البرغواطيين بتامسنا، ثم تبعية البرغواطيين للثائر محمد بن عبد الله هود قرب سلا ، حتى تمكن الموحدون منهم في النهاية.
في الرسالة السابعة الموجهة دائما إلى « بويا صالح»، عمل حليفي على ربط ماضي الشاوية بالنزعة التحررية لأهلها خلال القرن التاسع عشر ثم مقاومة الاستعمار الفرنسي مطلع القرن العشرين.
في شبه خاتمة، لا تخلو من غرابة، وتحمل في طياتها – ربما – أكثر من رسالة حول مصداقية ما كتبه، أورد ملحق بنصوص منتخبة، أسلوب لم نعهده في المغرب إلا عند المؤرخ عبد الأحد السبتي الذي كثيرا ما يدرج نصوصا لها علاقة بموضوعه، وهو ما يطرح سؤال الجدوى، خاصة وأنها تشغل ما يقارب من نصف الكتاب، لكن نسجل بأنه لم يورد أي من اجتهادات المدرسة الاستعمارية أو حتى الباحثين المشارقة.
•••
سيبقى لما كتبه الأستاذ حليفي أثرا، وقد يثير السجال بين المهتمين، ليس فقط لطبيعة الموضوع، بل حتى اختيارته في النصوص المقدمة تعلق الأمر بالمبنى وما ارتبط بالأشكال التعبيرية.
شعيب حليفي روائي وناقد، وبطريقة معكوسة أيضا للمألوف انتقل إلى التاريخ – كما يحب أن يراه-. اختار أساسا لغة الرسائل بطريقة جديدة في التعاطي مع “الخبر” و”المعلومة التاريخية” و”الحدث”، في صيغ تحاول ان تروى قدرا كبيرا من الأحداث في أسلوب أقرب الى الحكي، بينما جرت العادة أن ينتقل المؤرخون والفلاسفة إلى كتابة الرواية (أحمد التوفيق، بنسالم حميش..)، لكن يبدو بأن صداقته للمؤرخين نقلته إلى مساءلة موضوع يعيشه، وقدم فيه رؤيته. وقد أثار هذا النص لأنه يحس بنبض أهل تامسنا (الشاوية).
من أين استمد حليفي هذه الجرأة في التعاطي مع موضوع هو من أكثر المواضيع ألغازا وسجالا، والمنفتح على كثير من القراءات والتأويلات التي طغى عليها البعد الأيديولوجي، منذ انطلاقته مع نصوصه المؤسسة (البكري وابن حوقل )، والحال أنه يعرف ظروف الكتابة وأهدافها. لتجاوز هذا العطب، اخترع شيئا جديدا تحت مسمى التاريخ بالخيال « إن تاريخنا ليس أحداثا معزولة عن الخيال العام وخيالنا هو الأنوار التي تشيد الجسور وتضيء العتمة» (ص 12)، لم يتأفف من هذا التعبير، وهي مغامرة ستزعج المؤرخ، وقد يكون الأمر إيجابيا، إذا خرج بنا سجالات الشكل نحو إجرائية المحتوى. ورغم ذلك فإن بعض خرجاته ستبقى موضع تساؤل أمام إجرائية البحث العلمي الذي يتعامل بحذر ونسبية أمام الإطلاقية الانفعالية التي عبر فيها مثلا بقوله « لم ولن يقبل المصامدة…» (ص 63)، لكنه سيبقى منفلتا من المؤرخين، ومن الروائيين، وإن وجدوا جنس هذه الكتابة.
سيبقى شعيب حليفي ذاك الحالم، الملتفت للهوامش، يحاول إعادة الاعتبار للزوايا المنسية من تاريخنا ومن ثقافتنا، أو تلك التي لم تأخذ حقها لاعتبارات متعددة. وفي تقديري، لم يكن يهمه في هذا العمل لا التاريخ، ولا الرواية، بقدر ما كان يبحث عن هوية جامعة للمغاربة مستندها ثلاثية الإسلام، الأمازيغ، العرب، ووقودها الحرية ثم الحرية ثم الحرية، بالمقاومة أو باللين..