الحكم

ART
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فهمي

ما زالت الأجواء مظلمة والجميع غارقون في نومهم. أرى ضوءًا يتسلل من أسفل باب الغرفة؛ ما زال أمامي بضع دقائق قبل مواجهة العالم.

نبضات رأسٍ تؤلمني، عيناي تقاومان النوم، وأطرافي متيبِّسة. هاتفي يهمس لي بأن ثلاث دقائق ونصف فقط تفصلني عن النهوض من فراشي.

ها هي خطوات أمي تقترب من باب غرفتي. كم أرجو أن يشغلها أي شيء يؤخر حكمها بخروجي لمواجهة العالم.

ـ واااء.. واااء

ـ جاية يا لولو

الحمد لله.. شقيقتي الصغرى أنقذتني بصرخة صغيرة!
حكَمْتُ على أمي بالعودة إلى أحضانها، ولَبَّت النداء دون ترددٍ مصحوبةً بنظرات الحنان، وأصابعها تتخللُ شعرَ صغيرتنا. ولا مانع من قليلٍ من الغناء، فقط لتشعر “لولو” بالأمان.. كم أود أن أخبرها أني أغار منها.
الحمد لله.. شقيقتي الصغرى أنقذتني بصرخة صغيرة!

وبالحديث عن قدرات شقيقتي الفائقة؛ فهي تستطيع أن تُعلن رفضها لأي مكانٍ جديدٍ أو شخصٍ غريبٍ بدموعها وصوتها غير المفهوم حتى لأمي. أما أنا فلا يجوز لي أن أعبر عن خوفي أو ضعفي.

كم أتمنى لو يخبر أحد أمي بأنني أخاف. أخاف من العالم المفتوح، من نظرات الزملاء داخل الصف الدراسي، من صوت المدرس الخشن، ومن الاختناق وسط الزحام. أحتاج إلى صرخةٍ واحدةٍ من تلك الصرخات، وأثناء تدليل أمي لشقيقتي تذكرت بعضًا من آلامي.

ـ بابا مات.. وأنت دلوقتي راجل البيت.
كانت هذه جملة عمي بعد ساعاتٍ من دفن أبي. أخذني بعيدًا عن أعين الحاضرين، وضع يده اليمنى على كتفي، أشعل سيجارته، ونظر في عيني نظرةً حادة قبل أن يصدر حكمه بأنني أصبحت رجلاً لهذا المنزل الصغير. وقبل وفاة أبي كنتُ أنفذ حكْمًا آخر وأنا تحت ظله.

ـ مفيش راجل بيعيط.

ومنذ ذلك الحين وأنا أنفذ حكمًا تلو الآخر، في انتظار عفوٍ استثنائي أو إطلاق سراحي لا أعلم متى يأتي.

ـ طاق طااااق طااق

ها هو أصعب الأحكام وأكثرها قسوة: مغادرتي للمكان الذي أشعر فيه بالهدوء والأمان نحو عالمٍ وحشيٍّ لا يعرف سوى إصدار الأحكام. لكن ما يخفف عني قليلًا هي نظرات ملكتنا الصغيرة وهي تودعني كل يوم.

كم أتمنى يا حبيبتي أن تظلي صغيرة هكذا، لا تتخلّين عن تاجك الذي دائمًا يليق بك.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
نور الهدى سعودي

أذن الضوء

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

العقرب