مما لا شك فيه أن الرواية تحكي عن واقع سردي يتشكل من خلال عوالمه المتخيلة الخاصة به، وهو واقع له صلة بالحياة وما يجري فيها، لكنه يقطع مع الواقع الفعلي ليبني واقعا خاصا قوامه الخيال وعمدته الصياغة الفنية المحكمة الهادفة إلى مساءلة العالم ومعرفته، والكشف عن أسراره وتناقضاته. ومن هنا كان السارد/ البطل يوسف هو العالم، والعالم هو يوسف بكل ما يعج به من غرابة وغياب للمنطق والمعقول. ومن هنا كانت وقائع الرواية تنطلق من ذات الشخصية المحورية وتؤوب إليها في لعبة سردية فاتنة.
إن الذات الساردة، وهي تحتوي العالم، تحكي عن ذاتها وعن العالم من زاوية رؤية قوامها الغرابة والسخرية. وهكذا تتجلى هذه الغرابة في كل الشخصيات المحيطة بها، بل إن لهذه الغرابة جذور لدى الأجداد الذين لم يعرفهم السارد، وإنما حُكيت له جوانب من سيرتهم وأفعالهم الغريبة، مثل الجد. أما الجدة التي اشتهرت بقدرتها على إشفاء الآخرين ومعالجتهم، فلطالما كان السارد حقلا/ أو فأرا لتجاربها في العلاج. وقد كان وقوف السارد عند أفعال الجدة وسلوكاتها لا يخلو من نزوع ساخر يستند إلى لعبة المفارقة، و”منطق” التناقض للكشف عن حقائق الشخصية وطبيعتها الغريبة. ولا غرابة أن أول ما بدأت به الرواية يتعلق بمحكي الجدة، وما تأتيه من أفعال غريبة، لكنها أفعالا خيرة تفيد الآخرين، ولا تضرهم؛ وإنما الضرر والشر يأتي منهم وينصب على من يساعدهم ويمد لهم يد العون على مواجهة الحياة والتباسات الوجود وغوامضه. ويحكي السارد بنبرة ساخرة عن “حفلة زار”، أقامتها الجدة لشفاء دجاجة جارتها الأرملة التي تعيل أيتاما، وحتى لا تبور تجارتها البسيطة. وفي هذا الطقس الغريب الذي يصوره السارد بدقة متناهية ينكشف الحس الساخر في الرواية في أجلى مظاهره. وبهذه الحفلة العجيبة انتهى موت دجاجات الجارة، وعادت تعتاش من بيضها، ومن بيعها للآخرين، كما كان الأمر في البداية.
وهذا التصوير الساخر الذي يستند إلى الفانتاستيك وألاعيبه ينسحب على جل شخصيات الرواية، بما في ذلك السارد ذاته، كما سنبين لاحقا. أما الأب عبد الجليل والأم غالية، فلكل منهما نصيبه من غرابة الأطوار والأفعال والأفكار. وقد أمعن السارد في تصوير غرابتهما، والوقوف عند مفارقة حياتهما، ومغالق حقيقتهما، وطبيعة التباس وجودهما. وهذا الإغراق في كشف هذه الأبعاد أدى دورا حيويا في تطور الأحداث وتناميها. ولعل مشهد تمثيل عبد الجليل لدور مسرحي قام به في مسرحية بعنوان “نوم الظالم”، كان من بين أقوى مشاهد الرواية، وأشدها دلالة على غموض الشخصية وغرابتها. وفي هذا المشهد يبين السارد كيف تمكن الأب من تقمص شخصيتين متناقضتين في لحظة واحدة، وتمكنه من أداء دورهما المسرحي بإتقان مما جعله وجعل باقي الذين حضروا التمثيل ينبهرون بمقدرة عبد الجليل التشخيصية وتمكنه من أداء دورين صعبين: دور الوالي وغلامه في آن واحد. وبهذه الكيفية كشف هذا المقطع الدال في الرواية عن غرابة الشخصية وإمكاناتها اللامحدودة والباهرة التي اختفت تحت طبقات من اللامبالاة والكسل. وقد كان هذا المشهد بمحتواه الساخر، الناقد، مشهدا فانتاستيكيا بامتياز أراد السارد من ورائه أن يكشف عن طبيعة بعض رجال السلطة، أو عن السلطة الهشة داخليا (في حياتها الخاصة البعيدة عن أعين الناس)، المستقوية على الناس خارجيا (بجبروت أعوانها وأذيالها). وقد دفع عبد الجليل ثمن مشاركته في تلك المسرحية الطلابية حيث احتجز أربعة أيام ثم أطلق سراحه لحسن نيته !
والإخوة، إخوة السارد، لا يختلفون عنه وعن والديهما، غرابة وتفردا. فكامل الذي مات صغيرا كان يموء كالقطط، ويدعي الجيران أنه يتحول قطا يراود إناث القطط ليلا، أو يتسلل إلى بيوتهم بحثا عن طعام. والإخوة الآخرون تحولوا إلى حجم صغير (عقلة الأصبع)، في الفصول الأخيرة من الرواية، حينما مات الأب عبد الجليل، ورحلوا نحو القرية مع أمهم التي تزوجت برجل آخر لا يقل غرابة عن زوجها الأول، هو قادر. وقد كادت تلتهمهم، إذ لم تعرفهم، حينما ربطها زوجها في الكوخ، وتركها دون طعام ولا شراب عندما شك في أمرها وظن أنها تخونه. وكان لكل أخ منهم نصيبه من غرابة السلوك والأفعال، دلت على غرابتهم وانخراطهم في الطقس الفانتاستيكي الشامل الذي خضعت له كل شخصيات الرواية.
وقد صور السارد يوسف غرابة كل الشخصيات المحيطة به، كما صور غرابته وغرابة محبوبته: هو الذي أحب النعناع ورائحته العطرية، وغرس نبتته في الفراغ القريب من بيته، وكان يقايض به كل الأشياء التي يرغب فيها وتضمن بقاءه، حتى وجد نفسه، وقد صار شعر رأسه وبعض جسده نعناعا عطر الرائحة. أما ريم فكانت جدائلها ياسمينا، وكذلك غطى الياسمين أماكن أخرى من جسدها. وقد أحبت يوسف بجنون وبطرقها الخاصة، إذ أحبت فيه الكاتب المبدع، وكان صداقها ومهرها قصة دبجها بقلمه. وقد كان لكل من يوسف وريم غرائبه وعجائبه التي كانت سببا في تواصل حبهما وارتباطهما الوثيق، ومن ثم كانت الرؤية إلى الذات وإلى العالم تنبع من هذه الطبيعة الغرائبية للشخصية المحورية، وكانت وراء تشكل عالم فانتاستيكي غريب في الرواية قوامه متخيل جانح، وأسلوب ساخر.
وهذه الغرابة، لا تتصل بعائلة السارد، وأسرته، وبمحبوبته، فحسب، بل إنها تمتد إلى شخصيات أخرى تفاعل معها السارد/البطل في سياقات مختلفة، مثل الرجل/المظلة، والشيخ، والمخبر/الرقيب.. وغيرها من الشخصيات الروائية. فلكل هذه الشخصيات نصيبها من الغرابة: الرجل/المظلة بحدبه وحنوه على العشاق والمحبين، وتظليلهم بجسده الغريب، إلى أن وقع، بدوره، في شراك الهوى، فلم يعد يعبأ بلواعج العشاق ومآزقهم. والشيخ بتحولاته الجسدية المختلفة حتى كأنه عفريت أو جان، بحيث كان يوسف يراه في هيئات غريبة تثير في نفسه الفزع والخوف، وظل يعتقد أن ما يراه مجرد هلاوس وتهيئات. والمخبر/الرقيب بغرابة أفعاله وسلوكاته تجاه يوسف، وهي أفعال وسلوكات كشفت عن تناقضات هذه الشخصية ومفارقاتها، فهو شجعه على نشر قصته الأولى، وكان واسطة نشرها في إحدى الجرائد، وهو الذي جعل من القصة دليل إدانة ضد يوسف لاستجوابه ومحاكمته.
بهذه الكيفية كان الأفق الفانتاستيكي مجالا خصبا في الرواية استطاع أن يجلي غموض الواقع والتباسه، وتخلخل الوجود واضطرابه، واعتلال المجتمع وانمساخه. وقد كانت السخرية التي امتزجت بالأبعاد الغرائبية بابا نحو تفكيك الواقع وتجلية اختلالاته.
هكذا تحفل الرواية بعديد من الأحداث والمواقف الغريبة، الفانتاستيكية، التي نرى مظاهر التحول تطرأ فيها على الشخصيات، بطرق شتى، وبأبعاد مختلفة تشي بمسخ الواقع وتغير كائناته نحو حياة منحطة قائمة على الصراع والموت المجاني والانمساخ الفجائي والمصير المبهم.
وبهذه الكيفية كانت الرواية تشغل حمولتها الغرائبية في أفق ساخر، ومن وجهة نظر نقدية. إذ إن السخرية تؤدي دورا فعالا في منح المتخيل الفانتاستيكي أبعاده الدلالية والترميزية الناقدة الرافضة في الرواية.