د. نعيمة عبد الجواد
هناك دائمًا جدلية، تبدو وكأنها أبدية، بين جميع النقاد والمختصين المشتغلين في مجال الإبداع الفكري والفني، وتلك الجدلية عنوانها الرئيسي: “تلك رغبة الجمهور”. وفي ذلك، ينقسم الجمع الناقد بين مؤيِّد لإرضاء رغبات الجمهور من أجل ضمان بقاءه على الساحة، وآخر يُقِرّ فكرة كون المبدع نذير للرُقيْ ولديه المقدرة لأن يرتقي بذوق الجمهور لطالما كان يقدِّم محتوى جيِّد، ولهم في ذلك أمثلة كثيرة يدعمونها بإثبات أن الردئ سرعان ما تطويه صفحات التاريخ.
وتلك الجدلية لم يستطع أحدهم إثبات صحتها أو خطأها؛ وأكبر دليل على ذلك، أنها لا تزال قائمة ولم تنتهي. فعلى سبيل المثال، الدراما الإغريقية التي كُتبت بلغة عالية الجودة على شكل قصائد شعر معقَّدة تبحر في أغوار حبكات درامية فريدة وكانت تستهدف جمهورًا من النخبة والطبقات النبيلة، لكنها لا تزال باقية حتى الآن، وتعد نبراسًا ليس فقط للمشتغلين في مجال الإبداع الفكري أو القرَّاء، بل ساعدت العديد من الأطبَّاء النفسيين منذ بداية تطوُّر الطب النفسي، وكانت أيضًا مرجعًا لا بديل له في الدراسات الاجتماعية. أمَّا الغريب حقَّا، الكاتب المسرحي العظيم “ويليام شكسبير”، الذي لا يزال اسمه يدوِّي عالميًا في أذهان الصغار والكبار من جميع طوائف المفكِّرين والعامة، لكنه كان مجرَّد كاتبًا شعبيًا مبدأه “المسرح للجميع”، واختار لمسرحياته حبكات ليست بالفريدة، لكنه كان يصوِّر الواقع بشكل فريد. ففي مسرحياته الكوميدية، كان في أغلب الوقت يستمد الحبكة من العلاقات الإنسانية في الحياة اليومية. وبالنسبة لأعماله التراجيدية، كان يستخلصها من قراءاته المُثابرة لحكايات وأساطير الشعوب الأخرى. فمسرحية “هاملت” الخالدة، ما هي إلَّا أسطورة دينية اسكندنافية، ومسرحية “الملك لير” المُفجِعة، استمدَّها بالفعل من تاريخ ملك من الشمال قسَّم مملكته بين بناته وهو لا يزال على قيد الحياة.
عبر التاريخ، الشواهد المؤكِّدة على تراخي قبضة المبدعين بناء على مطلب الجمهور – كثيرة ولا حصر لها. وإحدى الفواجع التي من هذا النوع حدثت في فرنسا، عاصمة التنوير في العالم أجمع؛ والغريب أن ذلك حدث في منتصف القرن الماضي، عندما كانت فرنسا تعمل على تصدير مشهدها الثقافي والفكري للعالم بأكمله. وفي نفس ذاك الوقت، كان يقف أباطرة الفلاسفة على أبواب المعرفة التي يعملون على سرعة غرسها في النفوس قبل العقول. وفي منتصف خمسينات القرن الماضي، سيطرت الأفكار الوجودية على أفئدة العامة والخاصة من جميع الأعمار والفئات، وكذلك شهدت الساحات الأدبية احتدام الخصومة بين الفيلسوفين الفرنسيين “جون بول سارتر” Jean-Paul Sartre (1905-1980) وكذلك “ألبير كامو” Albert Camus (1913-1960) بسبب تفسير كل منهم لمقاصد الفكر لوجودي، كل حسب أسلوبه، والعجيب أن كلاهما استقطب شرائح مؤيِّدة شبه متساوية العدد من على الصعيد الدولي؛ وكأن العالم كله يُدِين بوجودية الفكر إذا تم التعبير عنه بشكل رصين، كما فعل “سارتر”، أو بأسلوب لامعقول ساخر، كما فعل “كامو” باختراعه لفكرة مسرح العبث Theatre of the Absurd الذي جعل من أسطورة “سيزيف” Sisyphus عنوانًا له.
لكن في خضم هذا المشهد الفكري الرَّاقي الذي يموج بلغة فكرية راقية، فجأة تعصف بكل الأنماط فتاة صغيرة في مقتبل الثامنة عشرة من عمرها، واتتها الجرأة لأن تنشر رواية ألَّفتها وهي في سن السَّابعة عشرة، أي أنها مجرَّد فتاة مراهقة! لم يكن ذلك غريبًا أو مُريبًا آتذلك، فهناك حرِّية فكر وتعبير. لكن الغريب حقًّا أنَّ تلك الرواية صغيرة الجحم، ويمكن قراءتها بأكملها في غضون ساعات قليلة، وخاصة وأن لغتها خالية من أي تعقيد أو زخرف لفظي، في عصر كانت الروايات تتميَّز بضخامة الحجم وزُخْرُف اللفظ. وحتى وإن تم التجاوز عن كل هذا واعتبار الرواية تجربة خاصة لفتاة استطاعت أن تنشر عملًا فنيًّا لها، لكن من المستحيل أن يغفل أي فرد أن الرواية حققت آنيًا نجاحًا لم يدوِّي فقط أرجاء فرنسا، بل انتقل شرره لجميع أنحاء العالم، فأصبحت الرواية الأكثر مبيعًا عالميًا. وتلك الرواية هي “مرحبًا أيها الحزن” Bonjour Tristesse للكاتبة الفرنسية “فرانسواز ساجان” Francoise Sagan، التي نشرت عام 1954.
وفيما يبدو أن من أكبر عوامل الجذب في الرواية هو عنصر الصدق والإخلاص فيما يتم سطره في الرواية التي تتحدَّث وبشكل عفوي عن قصة الفتاة المراهقة “سيسيل” التي تبلغ من العمر سبعة عشرة عامًا، وتعيش حياة اجتماعية صعبة ومعقَّدة. فلقد فقدت والدتها وهي لا تزال طفلة صغيرة، فما كان من والدها “ريمون” إلا وأن تخلَّص من عبء تربيتها بإيداعها في مدرسة داخلية؛ حتى يتفرَّغ لنزواته وحياته العاطفية التي ينتقل فيها من حبيبة لأخرى. وفي صيف أحد الأعوام، عندما بلغت “سيسيل” السابعة عشرة من العمر، اصطحبها والدها لقضاء إجازة الصيف معه هو وحبيبته على شواطئ الريفييرا الفرنسية. وكانت المراهقة تستمتع بصحبتهما ولا تجد فيها غضاضة، وكأنها تشعر أن والدها الذي قارب الأربعين من العمر ويخشى أن تنصرف عنه النساء بعد أن يزول عنه مظهر الشباب قريبًا بسبب تقدُّمه في العُمر، لسوف يكون لها وحدها قريبًا. وكانت تجد المتعة في معاملته لها وإعطائها كامل حُرِّية التصرُّف؛ فلم يكن “ريمون” يلعب معها دور الأب، بل كان يعاملها تقريبًا كإحدى صديقاته.
لكن أوقاتها السعيدة يهددها ظهور “آن” إحدى صديقات والدتها المتوفاة، والتي كانت تماثل والدها في العمر تقريبًا. وعلى الفور، ينجذب لها الأب لما يجده فيها من صفات تُكمله، وخاصة وأنها سيدة مجتمع جميلة وأرستقراطية، وكانت تعشق ابنته وتغمرها بحنان الأم الصَّادق. كانت “ساجان” تعبِّر عن مشاعر الفتاة المراهقة تجاه الأحداث بأسلوب عفوي يتناسب مع تفكير المراهقين حينما يتأرجح شعورها بين الحب والكره، والإعجاب والازدراء، في آنٍ واحد. وبسبب شعورها بأن “آن” مصدر تهديد حقيقي، وخاصة وأن والدها قرر الزواج منها والاستقرار معها، تدبر الفتاة “سيسيل” لها مكيدة لتبعدها عن والدها للأبد؛ وذلك بأن تجعلها ترى – بشكل معاكس للحقيقة – أن زوجها المستقبلي يخونها مع أخرى. وفيما يبدو أن نهاية الرواية الغير متوقَّعة كانت سببًا في نجاحها؛ حيث تموت صديقة والدها بعد رؤيتها للمشهد بوقوع سيارتها من على قمة منحدر، فيما يُشبه الانتحار. وأمَّا الفتاة، تصبح قريرة مرَّة أخرى لرفقة والدها وصديقاته، وإن كان وخز الضمير يفتّ في عضدها من آن لآخر.
الشر والمكائد التي جعلت الرواية تنجح لدى العامة، كانت أحد أسباب الهجوم الضاري على “فرانسواز ساجان” من قبل النقَّاد، الذين قذفوها بما لا يستطيع أن يتحمله مبدع من نقد لاذع، وصل إلى درجة اقتفاء الأخطاء اللغوية والفنية في العمل بصرامة مقيتة. ولكن توالي أعمال “ساجان”، التي دارت في نفس فلك سبر العواطف والروابط الإنسانية، أثبت أنها أديبة تفخر الساحة الأدبية بوجودها.
وكما هو جليّ، فإن رغبة الجمهور تتوجَّه للإبداع الصادق والأعمال الفنية التي تعكس مجريات الحياة اليومية، دون زيف أو تجميل للحقائق. وكذلك، يرغب الجمهور في أن يجد من يأخذ بيده ويجعله قادرًا على فهم الحوارات الفكرية؛ فما جعل من “سارتر” و”كامو”، وغيرهما من فلاسفة هذا الجيل، نجومًا للمجتمع، كونهم خاطبوا عقول عامة الشعب بكل الوسائل، فوصلوا لنقطة تلاقي متينة. ولهذا، فإن مسئولية المثقَّف هو أن يساعد العامة ولا يسجن نفسه في إطار النُّخبة من خلال الإمعان في الإلغاز والكتابة بتعقيد مقصود. فالنتيجة الحتمية لذلك هي فناء من أطلق على نفسه مُثقفًا، وكذلك نزوع العامة إزاء الهابط من الفكر؛ لأنه وببساطة قادرًا على فهم مقاصد هذا المُبدع.