الحرية والكتابة والأسلوب في فكر رولات بارت النقدي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 11
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.مصطفى عطية جمعة

   إن لبّ فكر بارت هو الحرية، بمعناها الإيجابي في التحرر الدائم من النمطية، والغوص عن المعاني، والبحث عن ماهية الوجود الخارجي في الكتابة وسائر التعبيرات الإنسانية، في محاولة استكناه الإنسان والجماعة في تفاعلاتهما مع العالم.   

    يعود مفهوم الحرية إلى عند بارت إلى قناعته وتأثره بالفلسفة الوجودية، التي تؤكد على الحرية الإنسانية في معناها المطلق، ومن حق الفرد وأن يتغير ويفلت من إسار الماضي وما يفرضه الآخرون من تأطير على الذات الإنسانية أي وضعها في إطار معين، لا تحيد عنه، على قناعة تامة بمفهوم ” سارتر ” عن سيولة الوجود، الذي يضاد ثبات الذات عند الموت، فالوجود يسبق الجوهر، فلا يتوقع منا التحوّل إلى جوهر إلا عند الموت ذاته . لذا، فقد مقت بشدة فلسفة الجوهرية Essentialism التي تقرّ بأن في كل إنسان جوهر لا يتغير، يفرض عليه التصرف ضمن حدود معينة، مما يتيح التنبؤ بتصرفاته وبثبات مواقفه وطريقة تفكيره نوعا ما . بل إن بارت يتطرف أكثر من سارتر الذي يشير إلى قدر من التكامل أو الوحدة في الشخص الإنساني حينما يبدو لنا، ويذهب إلى أن الوحدة في أي فرد تنحل وتتحلل إلى تعددية، فهو يدعم كل ما هو متعدد، منقطع متغير([1]).

 ولا شك أن هناك  نماذج واقعية تدعم كلتا الفلسفتين: الجوهرية، والوجودية، فهناك شخصيات ذات جوهر ثابت في حياتها، لا تكاد تتغير كثيرا، فتكون في كهولتها مثل شبابها، وإن تغيرت فإن تغيرها يكون بقدر ووفق طبيعة جوهرها، وهذا ما يفسر الكثير مما نراه في حياتنا من شخصيات ثابتة في سلوكها، بل يمكن التنبؤ بردود فعلها . وفي نفس الوقت هناك شخصيات تكون الدينامية عنوانا لها: فكرا وسلوكا وثقافة ورؤى في الحياة، وهي قليلة، وربما تصدق على الفوضويين والمبدعين والعلماء وغيرهم .

    إن بارت من الفئة الثانية تكوينا وفلسفة ونقدا وإبداعا، فهو يتبنى بوصفه ناقدا مبدأ الحرية المطلقة في الكتابة، بمعنى أن الكتابة هي ممارسة للحرية، وترجعه الكتابة الحرة إلى أصولها ([2])، وهي رؤية استراتيجية في فكره، لأن الحرية ارتبطت بفعل الكتابة ذاته، فالكتابة هي ثمرة حرية الفكر، فلا معنى لأن يكون الفرد حرًّا، ويفكر بشكل حر، وهو عاجز عن إنتاج ذلك كتابيا، أو غير قادر على البوح بما في أعماقه كتابيا، وهذا يعني أن الإنسان يتخذ من الكتابة ميدانا لممارسة حرياته، متجاوزا بذلك مفهوم التعبير إلى ممارسة الحرية كتابيا .

    ويفرّق بارت ما بين اللسان والأسلوب، فالأول قبل إنشاء الأدب، والثاني بعده، فـــ ” الصور والإلقاء والمعجم تولد من جسم الكاتب وماضيه لتغدو شيئا فشيئا آليات فنه ذاتها . فيتشكل تحت مصطلح الأسلوب لغة مكتفية بذاتها، لا تغترف إلا من الميثولوجيا الفردية والسرية للكاتب، وداخل هذه الفيزياء القاصرة للكلام، يتكون أول زوج من المفردات والأشياء حيث تستقر مرة وإلى الأبد الموضوعات اللغوية الكبرى لوجود الكاتب، ومهما بلغ الأسلوب من الرهافة يبقى فيه دوما شيئا من الفجاجة، إنه شكل لا وجهة له، إنه نتاج عنفوان وليس نتاج مقصد، وكأنما هو البعد العمودي المنفرد للفكر . أما مرجعياته فهي على صعيد البيولوجيا أو صعيد الماضي وليس على صعيد الفكر ” ([3]).

   إذا قارنا بين مفهوم الأسلوب السابق ومفهوم الكتابة أعلاه، سنجد أن الكتابة أعم من الأسلوب، فهي التطبيق الأولي للكاتب عندما يبدأ في ممارسة حريته في التعبير، بغض النظر عن نوعية ما يكتبه وما يستخدمه من مفردات وتراكيب . أما الأسلوب فهو ثمرة شخصية الكاتب التي تتشكل من فكره ورؤاه وثقافته يتكون من مرجعيات الكاتب نفسه وماضيه . وبالتالي، فإن النص يتشكل من أسلوب الكاتب نعم، ولكنه يظل حالة لها خصوصياتها: الزمنية ( زمن الكتابة وعمر الكاتب وعصره)، والمكانية ( المعطيات الجغرافية والمكانية )، والشخصية ( ثقافة الكاتب وغاياته وما يخطط له في نصه ) . وهنا يأتي اشتغال البنيوية وما بعدها في آن واحد، فالمنهج البنيوي يقف عند النص: لغة وبنية وتكونا وتحليلا، ولا يتخطاه ولا يرنو خارجه، أما ما بعد البنيوية فتنظر إلى إشارات النص إلى ما هو خارجه وفق المنهج السيميولوجي، أو تفكيك النص والبحث عن تناقضاته ورفض أية قراءة نهائية له كما هو في استراتيجية التفكيك، بكل معطياتها في تحليل النص .

    وعن الكتابة يقول بارت: ” الكتابة هدم لكل صوت، ولكل أصل . فالكتابة هي هذا الحياد وهذا المركب، وهذا الانحراف الذي تهرب فيه ذواتنا . الكتابة هي السواد والبياض، الذي تتيه فيه كل هوية، بدءا بهوية الجسد الذي يكتب”([4])

   لفهم المقولة السابقة، ضمن سياق مفهوم الحرية الذي انتهجه بارت، سنرى أن الكتابة هي عملية تحرر كامل من قبل المؤلف، بمعنى أنه يكتب نصه في وقت ما وظروف ما، ثم يتركه، ومن ثم يأتي دور القارئ، الذي يقرأ النص بمعزل عن المؤلف، ويعيد إنتاجه وفق تأويله وما توصل به، ومن ثم يحضر المؤلف (ضمنيا من قبل القارئ ) ثانية ليشهد ما أنتجه القارئ في تفاعله مع نصه.

    إذن، الحرية هنا تأتي حرية قراءة النص، بمعزل عن سلطة المؤلف، ثم حرية القارئ في تلقي النص، بمعزل عن سياقات إنتاجه وهيمنة المؤلف عليه، وهذا لب نظرية موت المؤلف كما أعلنها بارت، مشددا على أن اللغة هي التي تتكلم، فأية استراتيجية للقراءة تعني استنطاق لغة النص، وكما يقول في ذلك: ” فاللغة .. هي التي تتكلم وليس المؤلف، وبهذا يصبح معنى الكتابة هو بلوغ نقطة تتحرك فيها  اللغة وحدها، وليس الأنا ( أنا المؤلف ) وفيها تنجز الكلام، وسيكون ذلك عبر موضوعية أولية، لا تختلط في أي لحظة من اللحظات مع موضوعية الروائي (المؤلف ) .. ويكون هذا بإعطاء القارئ مكان المؤلف ” ([5]).

 وهذا مبدأ مهم في ما بعد البنيوية، لأنه جعل لغة النص هي الدليل المادي الوحيد لسبر أغوار النص، والولوج والتحليل، وبتنحية المؤلف أضحى النص هو المستند والقارئ هو الحكم من خلال تلقيه، وعندما يسبر القارئ أغوار النص في ضوء ذائقته، فإن المؤلف / الميت، سيحضر في النهاية بوصفه شاهدا متخيلا على تلك العلاقة الدافئة الفاعلة المقامة بين النص والقارئ، التي ستتكرر في كل قراءة . وقد يستغرب البعض، ويتساءل عن حضور المؤلف أي إحيائه ثانية بعد وفاته المفترضة، والإجابة تكون أن المؤلف لم يمت، وإنما تمت تنحيته افتراضيا، كي لا يكون القارئ تحت هيمنته: هيمنة الاسم، التاريخ، الفكرة، الشخصية .. إلخ، فيقرأ النص قراءة مباشرة فاعلة، دون سيطرة من أي نوع، ومن ثم يستدعي القارئ المؤلفَ ثانية ضمنيا، بعد فراغه من القراءة والفهم والتأويل، ليعلن رأيه في نصه.

   وقد عمّق هذا المعنى في مفهومه عن لذة النص، إذ يقول: ” هل الكتابة – ضمن اللذة – تضمن لي أنا الكاتب لذة قارئي ؟ أبدا، ويقع على عاتقي إذن أن أبحث عن هذا القارئ ( وأن أغازله )، من غير أن أعرف أين هو، وبهذا يكون فضاء المتعة قد خُلِقَ، ذلك أن ما أحتاج إليه ليس هو الشخص في الآخر، وإنما الأمر الذي أحتاج إليه هو الفضاء، إذ في الفضاء إمكان لجدل الرغبة، وإمكان أيضا لفجاءة المتعة، ولكن يجب ألا يكون اللعب قد انتهى، كما يجب أن يكون ثمة لعب ” ([6]) .

     إن مفتاح ” لذة النص ” عند بارت هو ” فضاء المتعة “، الذي يتخلق من النص، ليصنع جدلا بين القارئ والنص، فيصول القارئ ويجول في النص أمامه متحررا من أية هيمنة أيا كانت، ويستخدم ” بارت ” هنا تعبيرات تخص اللذة مثل: المتعة، اللعب، الرغبة . والجديد في هذا الطرح أنه ينظر إلى لب عمل الكاتب وهو صناعة اللذة لقارئه، والتي تعني مزيدا من العلاقة المشوقة والجدلية بين النص والقارئ، في ضوء أن القارئ غير معلوم الشكل أو التوجهات أو المستوى لدى الكاتب، ولكن الكاتب القدير يستطيع أن يكوّن نصا فيه متعة الجذب ولذة القراءة .

   وهذا يتصل اتصالا وثيقا بفكر ما بعد البنيوية، الذي يعطي القارئ مساحة كبرى للحضور في قراءة النص من ناحية، وفي فكر الكاتب – صانع النص – من ناحية أخرى، فعلى الكاتب أن يقدم نصا يسمح بمزيد من المتعة واللذة والجدل للقارئ .

    بل يوسع نظرته أكثر، ويرى أن الأثر الأدبي ينتمي إلى التاريخ،  ولكنه يفلت من سجنه في النص والزمن والمجتمع الذي أُنتِج فيها، ويتخطى في تأثيره الزمان والمكان ويتسع إلى الأجيال التالية، مما يجعله قابلا لإعادة النظر فيه وتذوقه وتفسيره وفق معايير غير التي عرفها في الأساس، وتفاعل معها . ففي النص يلتقي التاريخ والجمالية، ويأتي التلقي في آفاقه اللانهائية لإعادة قراءته وفق منهجيات واستراتيجيات جديدة ([7])، مما يجعل النص مصدرا للمزيد من الدلالات والمعطيات.

بل إن النص هو الأساس في كتابة التاريخ الأدبي، وعلى الأدب أن يظل على علاقة حية مع التاريخ والواقع، ويؤكد على أهمية النظر إلى الاشتباك السياسي والتاريخي للغة الأدبية مع عصرها، ودراستها تبعا لذلك، فهي اشتباك مع التنظيم الأدبي للعالم الذي تنجزه الثقافة، ومن ثم فك الشفرات النصية التي تقرأ في ضوء سياق عصرها وثقافته ونظامه الأدبي، وقد اهتم بعلامات وتفسيرها في ضوء ثقافة عصرها، ورأى أن معرفة التاريخ تجعل الحاضر قابلا للفهم، أي تساهم في فهم الحاضر، عندما نقرأ أحداث الحاضر في ضوء التاريخ، أو نقرأ التاريخ بوصفه إسقاطا على الحاضر، ويلفت انتباهنا إلى وجود مستوى ثان للمعنى في النصوص يطلق عليه أسطورة  ([8])، أي أن النصوص تصنع أساطيرها أو هي ناتجة لأساطير تمت صناعتها ومن ثم الترويج لها . وهو بذلك يمهّد الطريق لفكر ما بعد الحداثة الذي واكب ما بعد البنيوية زمنيا، وامتاح منها الكثير . حيث يشير فكر ما بعد الحداثة في رؤيته للتاريخ، بأنه شاهد على استمرار الحياة، ودليل على فكرة التقدم الإنساني، أو هو وسيلة للبحث عن الجذور، أو أساسا لفهم الواقع نسبيا، مع الأخذ في الحسبان أن التاريخ مجال للأساطير والإيديولوجيات والتحيز، فهو اختراع من القوى المهيمنة لقمع الشعوب، والسيطرة عليها لصالح حضارات وثقافات غربية استعلائية ([9]) . مما يشكك في طبيعة النصوص التاريخية عامة، وسائر النصوص – الأدبية وغيرها – المنتجة في سياقات تاريخية وثقافية وسلطوية، فصنعت أساطيرها / قناعاتها الخاصة، وروّجتها في عصرها .

    ويؤكد بارت أيضا أن التاريخ تكتبه في النهاية جماعة اجتماعية خائبة أو عاجزة، كانت قد وضعتها الظروف التاريخية والاقتصادية والسياسية  خارج المعركة، وسيكون الأدب هو التعبير عن هذه الخيبة ([10]).

   وقد استخدم تعبير ” الاستيهام ” في وصف التاريخ، يقول: إن التاريخ هو في النهاية تاريخ محل الاستيهام بلا منازع، فلابد من جعل التاريخ جسدا أنثروبولوجيا موسعا، وعلى الأستاذ وهو يدرس طلابه مادة التاريخ أن يترك مكانته الأبوية، ويعلمهم أن كل واحد فيهم له استيهامه الخاص، لأنه وحده حي . أي يفهم التاريخ في ضوء قراءته وعلاقته به ([11]). وبذلك أصبح التاريخ عنده محلا للقراءة الذاتية الفردية، ويمكن للدارس / القارئ أن يقرأ التاريخ في ضوء وعيه وتجربته الخاصة، ويتعامل مع أخبار التاريخ بوصفها نصوصا تقرأ ذاتيا، تفسر الحاضر والماضي، وتجعل القارئ في حالة تفاعل وتواصل مع التاريخ، الذي أصبح جزءا من الحاضر.

   وهنا تكمن نظرته في النصوص الأدبية المتكونة في سياقات تاريخية، فهو يرى أنها ليست كافية للتعبير الحر عن واقعها، لأنها كُتِبت برؤى مغايرة عن الحقيقة والواقع، أو خضع كتّابُها لقناعات غير دقيقة، روّجت لها السلطة، أو سادت ثقافيا في عصرهم . وربما كان هذا سببا في توسيعه مفهومه للنص، ليشمل غير المكتوب: المرئي والمنطوق، وبالتالي توسّع في تحليله للإشارات والرموز والعلامات، فغايته الوصول إلى مكمن المعاني وعدم الانخداع بالظاهر من ناحية، وألا يكون محصورا في إطار النص المدون فقط، الذي هو في النهاية نتاج فرد متأثر بعصره وسياقاته.

…………

[1] ) رولان بارت، جون ستروك، ضمن كتاب: البنيوية وما بعدها: من ليفي شتراوس إلى دريدا، تحرير: جون ستروك، ترجمة: د.محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1996م . ص66، 67

[2] ) النقد النصي، جيزيل فالانسي، ضمن كتاب: مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، مجموعة من الكتاب، ترجمة: د.رضوان الظاظا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1997م، ص234

[3] ) الكتابة في درجة صفر، رولان بارت، ترجمة: د. محمد نديم خشفة، ط1، 2002م، ص17 .

[4] ) نقد وحقيقة، في مقالة ” موت المؤلف ” ، رولان بارت، ترجمة: منذر عياشي،، مركز الإنماء الحضاري، بيروت، ط1، 1994م، ص15

[5] ) السابق، ص17 .

[6] ) لذة النص، رولان بارت، ترجمة: منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، بيروت، ط1، 1992م ، ص 25

[7] ) قضايا أدبية عامة: آفاق جديدة في نظرية الأدب، إيمانويل فريس، برنار موراليس، ترجمة: لطيف زيتوني، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2004م، ص71 .

[8] ) رولان بارت: مقدمة قصيرة جدا، مرجع سابق، ص29 .

[9] ) انظر للمزيد: شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي، السيد ياسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009م، ص52

[10] ) لذة النص، مرجع سابق، ص73

[11] ) درس السيميولوجيا، رولان بارت، ترجمة: عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط3، 1993م، ص28 .

مقالات من نفس القسم