الحرية.. وأدب المقاومة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

السيد نجم

هناك جهد يذكر للاقتراب من المصطلح.. منه ما كتبة الكاتب الفلسطيني “غسان كنفاني” في وصفه للأدب الفلسطيني: “هو الأدب المقاوم على الأرض المقاومة الفلسطينية”، كما اقترب منه “غالى شكري في كتابه “أدب المقاومة” وان تناول الكتابات الأمريكية حول الحرب الفيتنامية..  وغيرهما.  

إلا أنه لم يتفق على دلالة المصطلح حتى الآن، ولا يوجد التعريف المتفق عليه.  وفى محاولة خاصة انتهيت منها منذ سنوات قليلة، خلصت إلى تعريف مضمونه:

 “هو الأدب المعبر عن الذات الجمعية (الواعية بهويتها) و (المتطلعة إلى الحرية)..  في مواجهة الآخر العدواني.  حيث يضع الكاتب /المبدع نصب عينيه..  جماعته/ عشيرته/ قبيلته/ دولته/ أمته..  محافظا على القيم الإنسانية العليا.  وتعنى (الحرية) الخلاص الفردي، بل خلاص الجماعة”

من هنا كان الارتباط الوثيق، بين مفهوم الحرية وأدب المقاومة.

لأن “الوعي” أهم ما يميز الإنسان، وهو ما يتبدى في المقام الأول في (الإنسان/الفرد).. بكل مستويات وأبعاد الشخصية الذاتية.  تلك “الشخصية” الشديدة التعقيد بطبيعتها.  كما يتبدى “كفرد في جماعة” في مقابل جماعات أخرى أو مجتمعات أخرى.  ثم يتبدى الوعي من خلال علاقة الفرد بالطبيعة من حوله/من حولهم.  وأخيرا يتبدى الوعي من خلال الفرد في جماعة في مواجهة المجهول أو مع المستقبل.

ولأن هذا “الوعي” على علاقة جدلية مع المجتمع أي بين الفرد والجماعة المحيطة به في وطنه..  فالمنتج هو “المعرفة”، تلك التي تعد من المعطيات ذات المنشأ الاجتماعي، بل والمعرفة الحق ذات طابع اجتماعي.. من حيث المنشأ والطابع والتوجه… تسعى لفهم الأنا/الآخر/الطبيعة.. وكشف المجهول أو المستقبل.

.. هذا الوعي بكل صوره قادر على تحريك الأفراد والجماعات والشعوب والأمم..  بحيث يتحول إلى طاقة بشرية هائلة وقادرة.  ذلك لأن أنواع الوعي كلها قابل للتوظيف الأيديولوجي والتوجيه.

“أدب المقاومة” بمعنى ما، فعل مقاومي.  ولما كانت “المقاومة” تقع بين “الحرية” و”العدوان”.. ولنقل أن الإنسان (الأنا) جبل على “الحرية”، لكنها المنفعة الخاصة و الآخر العدواني..  فكانت “المقاومة”. لذا يعد الوعي بمفهوم “الحرية” و”العدوان” ثم “المقاومة..  هو المدخل الحقيقي لفهم “أدب المقاومة”.  

مع الخبرة المكتسبة واكتساب الوعي.  تتشكل خبرة “التكيف الفعال”.. وبالتالي الأثر المسمى ب”المعزز”.. كما الطعام هو المعزز للإنسان الجائع.. وهكذا.

أما وقد اكتسب الإنسان “الوعي” وخبرة “التعزيز“..  كانت “الإرادة” وبالتالي في المقابل “حرية اتخاذ القرار بما يعزز حياة الفرد/ الجماعة/ المجتمع..  وكانت مفاهيم الحرية المتعددة، ومنها “الحرية الفكرية”. والحرية الفكرية هي معزز المقاومة، والوعى بالحرية هو العامل الخفي/ الظاهر في كل الأعمال الإبداعية المقاومة.

وتتعدد تعريفات الحرية عند الكثيرين من المفكرين، منها: قال “جون استيوارت ميل”..  هي أن يعمل المرء ما يريد. قال “فولتير”.. تتوفر الحرية بالنسبة لي حين أستطيع أن أفعل ما أشاء، لكن لا أستطيع أن أمتنع عن الرغبة فيما أريده حقا. قال “جوفنيل”.. إن القدرة على أن نريد شيئا هي مسألة حرية داخلية، وتقع خارج لعبة “الحرية”. قال “ليبنتيز”.. تتكون الحرية من قدرة المرء على أن يعمل ما يريد. قال “سكينر”..  أن من يريد شيئا يعمل على الحصول عليه حينما تلوح الفرصة، لكن الرغبة في شئ ليست شعورا به، وليس الشعور هو السبب الذي يجعل المرء يتصرف للحصول علي ما يريد.  أن بعض الحالات الطارئة تزيد من احتمالات قيام السلوك (مثل الجوع والنزوع إلى تناول الطعام)، وفى الوقت نفسه تخلق ظروفا يمكن الإحساس بها.

“الحرية” هي مسألة الحالات الطارئة التي تعزز السلوك، وليست قضية المشاعر المنبثقة عند تلك الحالات.  ولهذا التمييز أهمية خاصة، حينما لا تنجب الحالات الطارئ هروبا أو هجوما مضادا”.    

وربما “الحرية” هي القضية التي نتعرف عليها وتثيرها نتائج بعض السلوكيات البغيضة.. أو هي حالة يستشعرها المرء /الشعوب مع غياب السيطرة التعسفية..  أو هي حالة ذهنية تبدو واضحة بأن يعمل المرء ما يريد أو يرغب.

إلا أنه يمكن تصور “الحرية” أحيانا على أنها قلة المقاومة أو “الكبح”.. حينما يكون المرء تحت التهديد أو السيطرة.. سواء بالقيود أو الأصفاد أو أسوار السجون وسترات المجانين وغيرها.  لكن السيطرة السلوكية أو الكبح بواسطة ظروف التعزيز فهي أمر مختلف.

في النهاية “الحرية” هي التي تكسب بعض الأفراد “الصلاح” لأن الشخص الصالح هو الذي يسلك سلوكا جيدا بينما في إمكانه أن يسلك سلوكا آخر. وهى التي تخلق عالم يكون “العقاب فيه أقل شيوعا، حيث تتولى الحرية الأمر في دخائل الأفراد (وهى الحرية المسئولة عند الأنا تجاه الآخر الحاضر/الغائب).   

أما “العدوان”..  وهو ظاهرة التعبير عن الصراع، الصراع الداخلي (داخل المرء) أو الصراع الخارجي (بين الأفراد أو بين الجماعات والشعوب).. وهو ما يعبر عن نفسه بالعنف على شكل مشاجرات بين الأفراد أو الحروب بين الدول.  أما الصراع الداخلي فيعبر عن نفسه بالأزمات النفسية التي تصل إلى حد الانتحار.

وقد أشار القرآن الكريم إلى فكرة العدوان.. صوره ودوافعه:

.. “فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كان فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاعا إلى حين”، سورة البقرة آية 36

..  “قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو.. “، سورة طه آية 123

..  “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون”، سورة البقرة آية30.

أما صور العدوان في القرآن الكريم فهي :

..  العدوان اللفظي، بالسب: “أن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديكم وألسنتهم وودا لو تكفرون” سورة الممتحنة آية 2.  

..  العدوان بالتهكم والسخرية:   ” زين الذين كفروا الحياة الدنيا، ويسخرون  من الذين آمنوا “، سورة البقرة آية 212.

..  العدوان بالشماتة:” إن القوم استضعفوا وكادوا يقتلوني فلا تشمت بي الأعداء “، سورة الأعراف آية 150.

..  العدوان بالغيرة (المضمرة): ” إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة أن أبانا لفي ضلال مبين”

سورة يوسف آية 8.

وهناك صور أخرى من العدوان.. بالبغضاء والكراهية، مع العدوان على النفس.. وهو إما ظاهرا أو مضمرا.  والضمر يتطابق مع مفهوم “العدائية ” أو الرغبة في العدوان والإيذاء البدني أو النفسي (وهو ما قال به زيلمان أيضا).

إلا أن “العدوان” مشحون بعاملين يزكيان السلوك العدواني.. العامل السيكولوجي أو النفسي الانفعالي والعامل الأيديولوجي الذي يعطى للعدوان مبرراته.  العامل الأول يوجد في الأفراد كما في الشعوب، فقد عرف عن ميثولوجيا الصين الميل إلى “السلم” على العكس من الهند الميل إلى العنف.   كان “كونفوشيوس” يقول: “الجنرال العظيم حقا هو الذي يكره الغزو، وليس حقودا، وليس انفعاليا”..  بينما “الفيدا” الهندية مليئة بالأساطير التي تحكى الصراع بين الآلهة، وبين الآلهة والإنسان أو الحيوان”.

أما العامل الثاني “الأيديولوجي” فهو الذي يفسر مقولة في تعريف الحرب : “إن الصراع وحده لا يكفى لإشعال الحروب، لأنه –أي الصراع- تابع لارادة وادارة سياسية تسبقه، أي أن الحرب تلي فكرة الحرب.  كما أن هذا العامل هو ما يتجلى أثناء الحروب بما يعرف ب” العقيدة القتالية” أو “الشعار”.  

وقد وجد الباحثون صعوبة في تعريف واحد “العدوان”.. ربما بسبب هدف العدوان، فمنه المبرر المشروع، بل وتحث عليه الأديان السماوية، ومنه الكريه. من تلك التعريفات :

التعريف اللغوي..  مادة “عدا” في المعجم الوسيط : عدا..  عدوانا (بفتح العين والدال) جرى.  وعدا عدوانا (بضم العين وفتح الواو) تجاوز الحد.  وهو ما يعنى أن الحد الفاصل بين العدوان كتقدم والعدوان كاعتداء هو تجاوز الحد (أي أنه فرق كمي).

أما في الإنجليزية webaster،s تعنى الإعداد للهجوم، والاعتداء على إحدى البلدان، وهى بذلك أقرب للمفهوم العام.

التعريف النفسي..  يعد السلوك عدوانيا (إذا كانت نوايا المعتدى تبطن شرا وتقصده.  إذا كان السلوك هجوميا (جسمي أو نفسي).  إذا كانت النتيجة مؤلمة على الآخر. )

تعريف “انجلش انجلش”.. العدوان هو أفعال عدوانية نحو الآخرين، وما يشتمل عليها من عداء معنوي نحوهم، وهو أيضا محاولة لتخريب ممتلكات الغير.

تعريف “هيلموث”..  انه ضرر أو محاولة أضرار الآخر، أو أنه سلوك قتال موجه من إنسان ضد الآخرين.

تعريف “بارون”..  انه أي شكل من أشكال السلوك يوجه مباشرة، بهدف إلحاق الأذى والضرر بالكائنات الحية.

وكم بات المصطلح تائها حتى أطلق بعموم الكلم على “المقاومة” أو العدوان من أجل الجماعة ولصالح أفراد وجماعات تحت وطأة الظلم أو الاحتلال ب “الإرهاب”، بينما الهدف هو تخليص الجماعة من ظلم ما.  

 وقفة مع الإرهاب؟

شاع مصطلح الإرهاب في العقدين أو الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وقد بدت ذروة تأثيره ووضوحه بعد عملية اقتحام طائرتان مدنيتان لبرجين شاهقين (ناطحات سحاب) أسقطتهما بمدينة نيويورك الأمريكية في سبتمبر 2001م.

يمكن القول الآن أن “الإرهاب” أصبح شكلا من أشكال الحروب في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع بعض الإضافات على أرض الواقع.. حيث تلاحظ أن بعض الدول تمارس الإرهاب وليست جماعات صغيرة، كما أصبح الهدف منها ليس التأثير المؤقت المؤلم.. اقترب من مصطلح “الحرب” الصريحة.  ولم يعد للإعلان عن جماعة ما أو هدف ما أو حتى لتحقيق ألم محدد ومحدود.. أتسع المفهوم الآن.  لم يعد هناك محاولة للتفريق بين استخدام العنف من أجل تحقيق هدف نبيل أو احداث الفوضى والتخريب ليس الا.

:”الإرهاب” هو.. استخدام متعمد للعنف أو التهديد بالعنف، من قبل جماعة ما أو دولة ما.. من أجل تحقيق هدف/أهداف استراتيجية.. أو حتى حالة من الرعب والتأثير المعنوي الذي يستتبع بمزيد من العنف.

:”الإرهاب” هو.. نوع من أنواع العنف المتعمد، تدفعه دوافع سياسية، موجه نحو أهداف غير حربية، تمارسه جماعات أو عملاء سريون  لإحدى الدول. (وهو تعريف وزارة الخارجية الأمريكية – في العقد التسعيني من القرن العشرين).

:”الإرهاب” هو.. القتل العمد المنظم الذي يهدد الأبرياء ويلحق بهم الأذى، بهدف خلق حالة من الذعر من شأنها أن تعمل على تحقيق غايات سياسية، لكن المشكلة.. أنه أحيانا ما توصف بعض العمليات الثورية من أجل التحرير والتغيير بصفة العمليات الإرهابية.. كما فعلت وسائل الإعلام الغربي مع العمليات الفدائية الفلسطينية.  وكذلك اعتبرت حكومة “ريجان”.. “الكونترا” في نيكاراجوا مقاتلين من أجل الحرية على العكس من الاتحاد السوفييتي (في حينه).  وهو الأمر الذي يكشف البعد الأيديولوجي  الكامن وراء مفاهيم وتعريفات  وأشكال الإرهاب (تعريف الباحث الأمريكي “كوفيل” عام 1990م.

:الارهاب عند “جى فاوفيتش”.. هو الأعمال التى من طبيعتها أن تثير لدى شخص ما الاحساس بالخوف من خطر ما بأى صورة”.

: الارهاب عند “جورج ليفاسير”.. هو الاستعمال العمدى والمنتظم لوسائل من طبيعتها اثارة الرعب بقصد تحقيق أهداف معينة.

: الارهاب عند “المشروع الفرنسى المقدم الى الأمم المتحدة عام 1972م”.. عمل بربرى شنيع.

بالعموم هناك أكثر من مئة تعريف، منذ عام 1936 حتى الآن.  وان كانت صور الارهاب قديمة قدم تاريخ الصراع على الأرض.. تجلت واضحة أثناء تفعيل الثورة الفرنسية، وكما تتبدى فى سلوك بعض الحكام (الفاشية والنازية والديكتاتورية)، وغيره.  

أما أنواع الارهاب فهى :”الاهاب الحربى”، “الارهاب القمعى”، “الارهاب الثورى”.. لذلك طلب المفكر الأمريكى “فليكس جروس” ضرورة التفرقة بين الارهاب و.. :

-الكفاح أو النضال ضد الارستقراطية المحلية.

-العنف ضد الغزاة الأجانب.

-العنف ضد المؤسسات الديمقراطية (مثل النازية).

مع ذلك صدر قانون الارهاب فى بريطانيا عام 2002م، وبما يتضمنه يمثل خطرا على حقوق الانسان، بسبب التوسع فى تعريف الارهاب.. حيث يعاقب كل من يقوم بعمل عنيف، أو يهدد به بدافع سياسى أو دينى أو أيديولوجى.. أى أنه يعاقب أصحاب “القصد الجنائى” بمثل من مارس الفعل، حتى لو لم يقم بتنفيذ العمل.. !

بين الحرية والعدوان تأتى المقاومة، فلا مقاومة مدعمة بمفاهيم الحرية، ولا حرية حقيقية قادرة على تأكيد ذاتها الا بكل أسلحة المقاومة..  بداية مما تضمره النفوس والمواجهات الكلامية حتى الحروب.  

لعل أهم ملامح “أدب المقاومة” هي: التعبير عن الذات الجمعية والهوية..  أدب الوعي والتخلص من الأزمات (اضطهاد-قهر-حروب… )..  كما يتسم بالسعي لمعرفة الآخر العدواني وكشف أخطائه وأخطاره..  هو الأدب المعبر عن الذات و الوعي بالذات الجمعية.  

يسعى أدب المقاومة إلى تحقيق أهدافه من خلال عدة محاور هي:

.. التركيز على الظروف البغيضة التي تعيشها الناس، وربما بمقارنتها بأناس آخرين أكثر حرية، وأفضل حالا.

.. تحديد “الآخر” الذي يجب على المرء (الجماعة) أن ينجو (تنجو) منهم.. الذين يجب عليه أضعاف قوتهم.

.. يقوى أدب المقاومة دعوته بحث الناس على العمل، و وصف النتائج المتوقعة، والاستشهاد بالتجارب والنماذج الناجحة.

.. واجب أدب المقاومة تغيير الحالات الذهنية والمشاعر، دون الوصية بإجراء عمل معين بذاته يكفى أن يكون المرء على أهبة الاستعداد.. باليقظة.

.. ربما الهدف الأساسي لأدب المقاومة هو وصف كل سيطرة على أنها خطرا، بهدف تحديد وتحليل أنواع تلك السيطرة التي يتعرض لها الفرد/الجماعة/ الدولة/ الأمة.. ثم التمهيد للتخلص من تلك السيطرة.

.. ترجع أهمية أدب المقاومة إلى أهمية إزكاء روح المقاومة لدى العامة والخاصة.

والآن ترى هل نتناول “أدب المقاومة” وكأنه أدب المدينة الفاضلة؟؟!.. ربما، ولكن زمرة وجماعة، من أجل الخلاص الجمعي.  

لكل ما سبق يلزم الاقتراب من “الحرب” وشروطها وأحوالها، حيث أنها أكثر الأشكال العنيفة التى تهدد “الحرية”. ولا يفوتنا هنا كيف أن القهر العنيف والسجن بل والنفى (اختياريا وجبريا).. كلها عوامل مقيدة للحرية.  ربما التركيز هنا فى الحالات الشائعة لمفهوم الحرية (فى مواجهة العدوان العسكرى بالدرجة الأولى).

ماذا عن الحرب العادلة؟

في أسفار التوراة “أول الكتب السماوية”، إقرار بشريعة الحرب والقتال.  بدت على أبشع صور التدمير والتخريب والهلاك والسبى.

“حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فان أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير، ويستعبد الى يدك، فأضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما فى المدينة، كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب…. ” سفر التثنية، الإصحاح العشرين، عدد10 وما بعده.

وفى مواضع أخرى من التوراة.. أن الحرب بأمر الله تعالى، وكل ما يحدث فيها من صنعه هو..  وربما كانت الحرب عقابا على العبريين من الرب.

 “الحرب” إذن وسيلة، فلا محل لوصفها بالعدل أو بغيرها، ولكونها بالدرجة الأولى، أمر إلهي.

توجد فكرة الحرب في المسيحية على عدة وجوه، ففي عهودها الأولى كانت صاحبة موقف رافض لفكرة الحرب أصلا: “من ضرب بالسيف سيهلك أو يجن.. “. وتبدو فكرة المقاومة السلبية لها جذورها في الفهم القديم للحرب في المسيحية (كما تبدت في مقاومة المهاتما غاندي، ونظرة الكاتب تولوستوى الشمولية الإنسانية، وهو ما تبدى في أعماله الروائية).

ومع القديس “بولس” بدأت الدعوة لفكرة جديدة لاستعمال “القوة”، بعد أن زاد عدد المسيحيين، وارتفاع شأن الدين الجديد، في مواجهة “القوة” الإمبراطورية الضاغطة المستبدة.

ثم جاء القديس “أوغسطين” فقال بمقولة ربانية :”لو أراد الله بأمر خاص، أن نقتل يصبح قتل الإنسان فضيلة”.  فهو لم يرفض الحرب، شريطة أن تكون تعبيرا عن المشيئة الإلهية.

وكان القديس “توما الاكوينى” صاحب المقولة التاريخية “الحرب العادلة”، ويمكن إبرازها على ثلاثة محددات:

  • الحرب.. بأمر من السلطة الدنيوية (الملك).
  • عدالة القضية.. الحرب من أجل قضية عادلة.
  • على أن يكون مقصد “المحارب” هو “الخير” قبل وأثناء الحرب.

ويقيت الكنيسة تردد في صلوات يوم الأحد لفترة طويلة، أن هناك طرفا واحدا على حق.  والآن تردد الكنيسة أن الحرب يمكن أن تكون عادلة، وذلك بالإعداد الجيد للحرب حتى دون التأكد من عدالة القضية، بشرط الرجوع إلى أصحاب العقل الراجح للمشورة، وليرجحوا كفة هذه العدالة.

أما الإسلام فقد بدأ مع قوله تعالى:”وأصبر لحكم ربك فانك بأعيننا” سورة الطور، آية 48. كذلك: “فاصفح الصفح الجميل” سورة المؤمنون، آية 196.

هذا ما كان في الفترة الأولى من الرسالة (المكية)، أما في الفترة الثانية(في المدينة)، فقد تقرر القتال حين يطبق الأعداء: “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وان الله على نصرهم لقدير.  الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.. “سورة الحج، آية39،40،41

وفى السنة الثانية من الهجرة تقرر الإذن بالحرب: “كتب عليكم القتال، وهو كره لكم….. “سورة البقرة، آية126

وفرض القتال بشروطه المتعددة التي يمكن حصرها.. الحرب من أجل الدفاع عن العرض والأرض والمال والشرف.. ومن أجل الدعوة إلى الله.  ولا يفوتنا أن لفظ الحرب لا يوجد في الإسلام، بل “الجهاد” وهى لفظة من الجهد والمشقة في ملاقاة العدو، ولا تعنى الاعتداء والعدوان.

كما قنن الإسلام سلوك المجاهد.. الثبات في ملاقاة العدو، استخدام الحيلة والخداع، السماح بالفرار من التهلكة حفاظا على النفس، والرحمة في الحرب أثناء المقاتلة وبعد أن ينصر المسلمون مع تنفيذ عقود الذمة وحسن معاملة الأسرى.

واضح أن الإسلام تعامل مع فكرة الحرب، على أنها شر لابد منه وكره للمؤمنين.  وان لم تذكر كلمة “جرب عادلة”، إلا أنها عادلة في جوهرها (في الإسلام).. من حيث الأسباب، والممارسات، وبعد أن تضع أوزارها.

في الغالب لم يكن أحد الفلاسفة والمفكرين يزكى الحرب صراحة من رجالات الفكر الإغريقي، ومع ذلك أقر أرسطو وأفلاطون بشرعية الحرب، بلا تمجيد لها.  وتناولوا فكرة الحرب من حيث “الضرورة”، وليس من جانب أخلاقي مثل عدالتها أو كونها غير عادلة.

حتى كان الداهية السياسي الإيطالي “ميكافيللى”، وقد قال مقولته الشهيرة، مفادها أن كل حرب عادلة منذ أن تصبح ضرورية.  وبه تحولت فكرة “العدالة” من الجانب الأخلاقي القيمى، إلى الجانب النفعي.  وبذلك يمكن أن تكون الحرب وسيلة لأهداف غير عادلة، كما تكون غير عادلة في ممارستها، أو ممارسة الجنود.

وهو بذلك وضع البذرة الأولى، لجعل الحروب من ضرورات الرأسمالية، حيث تساعد على تطور الصناعات كما قال “أوجسنت كونت” الذي توجه بقوله مؤكدا أن النشاط الإنساني يهدف إلى الحرب أو استغلال الطبيعة للإنتاج.  وقال هيجل :”الحرب مبتغى الأقوياء”.  كما قال “نيتشة”: “ينبغي أن تحب السلام لأنه سبيل لتجديد الحروب”.

أما “كانت” فقد أدان الحرب، ولم ينظر لكونها عادلة أو غير ذلك.  كما قدم كتابه الهام :”مشروع سلام دائم”..  وهو ما استعانوا به في وضع بنود عصبة الأمم.  ومع ذلك قال:”أن السلام الدائم محال ولكننا نستطيع أن نحقق هذا الهدف على وجه التقريب”.    

واضح أن فكرة “الحرب العادلة” بالمعنى الأخلاقي أو المسيحي القديم-مقولة “توما الاكوينى”- لم تخرج عن حيز جدران الكنيسة، لتبقى فكرة الحرب متداولة في الفكر الإنساني بين النافع والضار، أو من حيث أن الحرب وسيلة لتحقيق منفعة ما أم لا..  عند المفكرين.  كما بقيت فكرة “الحرب” –بلا توصيف- في الإسلام مكتوبة على المسلمين، وهى كره لهم.

وبعد حربين عالميتين تقاسمتها العالم، كانت هناك مساع ومحاولات لدرء أضرار الحرب ونبذها.  فكان اتفاقية “جنيف” التي تسعى لحماية المدنيين والممتلكات وغيرها.  كما كانت اتفاقية “لاهاى” التي عالجت العملية القتالية وأنواع الأسلحة المستخدمة وغير ذلك.. أيضا في محاولة  لإقلال الأضرار.

ثم تجاوز الإنسان فكرة كون الحرب عادلة أو غير عادلة، إلى فكرة “ضد الحرب”، بفضل أفكار رجال القانون الدولي “القانون المضاد للحرب”.. وهو ما أعطى لفكرة “حق الاسترداد” مشروعية “المقاتلة-الحرب” لمن وقع عليه غبن وظلم واحتلال.

وهو ما أبرز مصطلح “الإرهاب” وتوظيفه بدلالات مختلفة في يد الحكومات التي مازالت تعتقد في جواز الحرب، سواء كانت عادلة أو غير ذلك.. لا يهم.

كانت “الحرب العادلة” مبررا لأعمال الصليبيين، وكان “الإرهاب” مبررا لحروب تعيشها الأمة العربية..  من أجل ماذا وكيف ولماذا.. ؟؟؟هذه هي القضية التي نعيشها دون أن ندرى أو ندريها، ولا نستطيع منها فكاكا.

 

وقفة مع حرب أخرى “الحرب الباردة”..

يبدو أن أحداث الانفجارات وسقوط مبنى التجارة العالمي بمدينة نيويورك فى سبتمبر عام 2001م، نبهت العالم العربي والإسلامي، بل ولا نتردد فى القول بإضافة العالم الغربي فى نفس الوقت..  الى إعادة البحث فى الآخر، جهرا وبلا مواربة.

على الجانب العربي وخلال شهور قليلة تمت ترجمة العديد من الكتب الى العربية كمحاولة للبحث فى عقل الآخر: “العملية هيبرون” وهى رواية كتبها أحد رجال المخابرات الأمريكية وقد كانت سنوات العمل فى منطقة الشرق الأوسط..  و”التهديد الإسلامي.. حقيقة أم خيال” قام على كتابته أحد المتخصصين فى شئون الإسلام السياسي، وربما البلدان الإسلامية..  ثم مؤخرا “الحرب الباردة الثقافية” بقلم باحثة إنجليزية تسعى أن تكشف لنفسها أو لنا كيف عبث الغرب فى رؤوسنا جميعا وخصوصا أهل الفن والأدب؟!

*هل لنا أن نقول إجمالا أن الكتب الثلاثة تكشف عدة أمور أهمها:

  • أننا لم نعط العلاقة بيننا وبين الغرب حقها فى البحث العلمي الموضوعي الواجب، بصرف النظر عن الجوانب السياسية ومتغيراتها التكتيكية اليومية.. حقها الواجب، من أجل الغور الى بؤرة الحقائق.
  • أننا نعيش فى العالم العربي على جانب رد الفعل، دون المبادرة بالفعل الإيجابي الواجب، ولو من مدخل الفهم أو التيقن.
  • أن المثقف العربي مشغول بما هو يومي ومتغير، دون الحرص على ما هو موضوعي علمي يسعى لاستشراف المستقبل.. تخلو نظرته من الرؤية المستقبلية التى هي جوهر البحث.
  • أن الساحة الثقافية الغربية تسع لكل ما يعرض عليها من مؤثرات “صهيونية”، وخلوا من أية مبادرة من المؤسسات الثقافية العربية.. سواء للعرض أو الرد.
  • يبدو أننا نفتقر الى آلية مخاطبة الآخر.. !

ترى هل الإشارة السابقة تستبق العرض، وتفرض وجهة نظر ما.. قبل التعرف على مبررات موضوعية ؟  

عذرنا أن الرواية المشار اليها سلفا تكشف عبث اللوبي الصهيوني وإسرائيل ليس فقط فى المجالات الثقافية الأمريكية، بل فى اختيار الرئيس الأمريكي (المنتخب!) نفسه..  وهو ما يؤثر فى مجريات الأحداث مباشرة علينا نحن العرب.  ثم كتاب “التهديد الإسلامي” عن عمق الهاجس الغربي تجاه الإسلام وبصرف النظر عن تفاصيل وجهة نظر الكاتب، وقدر الجهد المتابع للأحداث والمعطى الحاضر بالعالم الإسلامي ثم الخلط بين الدين الإسلامي كدين سماوي له أحكامه وقوانينه  مع المعطى السياسي اليومي الحاضر بالشارع العربي والإسلامي.  أما الكتاب الثالث “الحرب الباردة الثقافية” فيكشف البعد الفاعل فينا والعبث فى جوهر الإنسان العربي.. فى المفاهيم والذوق عمدا !!

تخبرنا الكاتبة “فرانسيس ستونر سوندرز” فى كتابها “الحرب الباردة الثقافية” أنه على مدى أكثر من عشرين عاما، كانت المخابرات الأمريكية تنظم وتدبر جبهة ثقافية عريضة فى معركة ضارية بدعوى حرية التعبير.

ربما أوجزت نتائجها من خلال البحث الطويل فى وثائق ومستندات سياسية وثقافية، أن الهدف الأمريكي هو زرع فكرة مؤداها أن العالم فى حاجة الى “سلام أمريكي”، والى أن العالم فى حاجة الى عصر تنوير جديد.. اسمه “القرن الأمريكي”.

التقدمة التى كتبها “د. عاصم السوقي” للكتاب تعد مدخلا هاما وتأريخا منظما لمضمون الكتاب الذي اهتم بالجزئيات التفصيلية.  فقد كانت نقطة البداية فى أعقاب ضرب الأسطول الأمريكي فى “بيرل هاربور” باليابان عام 1941م، حيث تم إنشاء “مكتب الخدمات الاستراتيجية” بهدف قيام عناصر منتقاة من الشباب الأمريكي هدفه “الغاية تبرر الوسيلة.  وبعد انتهاء الحرب حل المكتب وإنشاء بديل يحقق وسائل كيفية السيطرة على العالم عن طريق زيادة عدد الأنظمة المؤيدة لأمريكا فى مواجهة الزحف الشيوعي.  وكانت خطوة “النقطة الرابعة” بهدف تقديم المساعدات الاقتصادية لضمان التأييد من حكومات الدول عامة.  لكن الملاحظ أن المساعدات لم تمنع الدول من التعاون مع الاتحاد السوفيتي !

من هنا كان التوجه الى “الثقافة” فى محاولة مستمرة وان بدت بطيئة لتغيير أذهان الشعوب. سواء بتقديم النموذج الأمريكي “الحر” “المتفوق” فى مقابل النموذج الشيوعي “المنكسر” وربما المريض نفسيا.  لهذا الغرض تم إنشاء جهاز المخابرات “سى.  آى.  أ” ليتولى الجانب الثقافي فى الحرب الباردة (عام 1947م).  اعتمد الجهاز على كتابة المقالات، إنتاج الأفلام والمسرحيات وأشكال الدراما، وغير ذلك من وسائل التأثير على الجماهير.

أما وقد افتتح الاتحاد السوفييتي “قصر ثقافة” برلين، فما كان من أمريكا بافتتاح مراكز ثقافية بالعديد من دول العالم.. لعرض الأفلام، واستقبال الفرق الموسيقية الأمريكية (خصوصا فرق الزنوج) ربما لنفى صفة العنصرية الأمريكية.  وغيرها من النشاطات الثقافية التى تسعى لترسيخ الذوق والفن وقبل ذلك كله المفاهيم والأفكار الأمريكية.

وفى عام 1949م حصل الجهاز على ميزة الأنفاق دون بيان أوجه هذا الإنفاق، فكان التمويل من أجل تجنيد العناصر المختلفة فى البلدان البعيدة من أجل تحقيق الأهداف الأمريكية.  ولم تغفل أمريكا محاربة الشيوعية داخل ولاياتها بإنشاء منظمات مماثلة.

تابعت الهيمنة الثقافية بإنشاء المجلات الثقافية التى يحررها الأقلام المشهورة والهامة فى حينه مثل”أرنولد توينبى، براتراند راسل، هربرت سبنسر.. “، وخارج أمريكا فى أوروبا وأستراليا والهند وغيرها.   فى المقابل التضييق على كل قلم يشتبه فى انتماء أفكاره الى الشيوعية، كما تم مع الروائي”هيمنجواى” الذي مرض بالاكتئاب ولم يقبله الطبيب للعلاج إلا بعد أخذ تصريح بذلك..  وهو ما عجل من انتحار الروائي.

وهناك العديد من الأمثلة التى وقفت فيها المنظمات الأمريكية فى مواجهة بعض المبدعين، مثلما حدث مع الشاعر “نيرودا” الشيلى والذي فشل فى الحصول على جائزة نوبل أكثر من مرة، ومع ذلك عندما حصل عليها قتل بعدها بسنتين فى ظروف غامضة.

فى كل الأحوال كان الهدف الأمريكي هو خلق نمط جديد: يكره الشيوعية، ينتمي الى النموذج الأمريكي تحديدا، دون التعلق بالجذور والخصوصية الوطنية.  ويبدو أن هذا الهدف تحديدا هو ما يراهن علية النظام العالمي الجديد.

تقول الكاتبة “فرانسيس ” فى المقدمة: “بينما كانت الحرب الباردة فى أوجها، كرست حكومة الولايات المتحدة الأمريكية موارد واسعة من أجل برنامج سرى للدعاية الثقافية فى أوروبا الغربية..  مع الحرص الشديد على أن تبدو كأن لا وجود له، أما الذي يديره فكانت ذراع التجسس السرية لأمريكا، أو المخابرات الأمريكية.. “

إنها إذن البداية.. التدخل الثقافي لحلفائها الغربيين، بتسهيل سلسلة عريضة من النشاط الإبداعي، تحت دعوى تعبير ثقافي حر وديمقراطي.  تم ذلك بواسطة المثقفون الأوروبيون أنفسهم:  بنشر أخبار أو معلومات أو طرح قضايا بعينها.  وتتساءل الكاتبة: هل شوه الدعم المادي للمخابرات الأمريكية عملية تطوير المثقفين وأفكارهم؟ هل كان يتم اختيار الناس بناء على مواقعهم أكثر مما هو بناء على قيمتهم الفكرية؟؟

تبقى الأسئلة محل الاختبار والتبديل بصياغات أخرى على مدى اكثر من 450صفحة وهى عدد صفحات الكتاب.  ولعله من الأفضل الآن تأمل بعض النماذج والتطورات التى وردت بالكتاب على شكلها الحكائى وهو الأسلوب الذي تميزت به الكاتبة خلال رحلتها الطويلة الشاقة من أجل إبراز صورة لم تكن واضحة حول دور المخابرات الأمريكية.. ثم بدت مباشرة وجلية، حيث تورط عفوا أو عمدا بعض الأسماء الشهيرة فى عالم الإبداع  الفنى والأدبي.

بدأ العمل الفعلي للمخابرات الأمريكية مع سقوط المانيا وتقسيمها، لتبدأ مرحلة فرز الفنانين والأدباء من حيث هو أو هم نازي النزعة أم غير ذلك.  وهى مسألة فى غاية الصعوبة على حد قول القائمين عليها.  وعلى التوازى كان لابد للأمريكان استخدام الثقافة كوسيلة للإقناع السياسي لمواجهة إنجاز الروس على هذا الجانب.  وقد قدم أحدهم تعريفا للحرب الباردة كصراع نفسي من أجل القبول بالوسائل السلمية  واستخدام الدعاية لإضعاف المواقف المعادية..  وكما أظهرت البداية فى برلين، فان السلاح الفعلي المطلوب هو “الثقافة”.

افتتح الروس الأوبرا الجديد فى برلين، نشط البريطانيين قاعات القراءة بإمدادها بالفحم بينما لا يوجد فحما يكفى الأفراد القوات المستهلكة بسبب الحرب، وفيما كانت روسيا تعتبر أمريكا صحراء ثقافية قابله لاستقبال أى معطى.. تقدمت أمريكا بكافة الإمكانات المادية لتقديم منجز ثقافي مبهر وأقوى فى برلين، فى مقابل ما فعله الروس.. (نشر كتب، فرق موسيقية وفنية، قاعات للفنون التشكيلية.. الخ).

المقابل المنتظر نالته أمريكا فورا، ذلك بقبول النموذج الأمريكي الجديد، والانجذاب اليه فى المانيا الذى أصبح شعبها مروضا على نقيض ما صنعه النازي..  ربما بفضل سلاح الثقافة والروح المعنوية المحبطة بسبب الهزيمة المنكرة للشعب الألماني.

فى 5يونيوعام1947 أعلن”مارشال” مشروعه الذي يعد نقطة الفصل مابين مرحلتي الاقتصاد الأوروبي قبل وبعد الحرب.. قال:”إننا إذا تركناهم يعتمدون على مواردهم فلن يكون هناك مفر من أزمة اقتصادية واسعة واضطرابات اجتماعية عنيفة وارتباك سياسي شديد لدرجة أن الأساس التاريخي للحضارة الغربية سيأخذ شكلا جديدا فى صورة الاستبداد الذي حاربنا للقضاء عليه فى المانيا. “

بعدها بقليل أعلن “ترومان” الرئيس الأمريكي المبدأ الذي برر لأمريكا الكثير فيما بعد “مبدأ ترومان”:فى هذه اللحظة من التاريخ، على كل دولة أن تختار بين أساليب بديلة للحياة، والاختيار ليس حرا دائما…. وهكذا.

وفى العام نفسه(1947م) قرر الروس الرد بإنشاء مكتب الإعلام الشيوعي، ووقف مهندس “جدانوف” مهندس السياسة لستالين يعلن عن خطته الجديد لابراز دور الأحزاب الشيوعية أثناء المعارك، ودعم الأدباء والفنانين الشيوعيين فى كل أوروبا وليس فى المانيا فقط. (ردا على اعلان مبدأ ترومان).

وكانت بداية المواجهة المباشرة الثقافية فيما بين القوتين الجديدتين فى العالم.

تم إنشاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتحقيق مشروع مارشال وتطبيق مبدأ ترومان. وكان هدفها التنسيق بين أجهزة المخابرات المختلفة بالدولة الأمريكية.  وتجدد شعار “إنقاذ الغرب من الظلام الشيوعي”.  وقد أضيفت مهمة الحرب السرية بالإضافة الى الحرب النفسية، أما الحرب السرية فهي تلك الإجراءات أو العمليات التى تهدف الى التأثير على الحكومات أو المنظمات أو الأفراد لمساعدة أهداف سياسة الحكومة الأمريكية.  وربما يعد محاربة الحزب الشيوعي الأمريكي وانخفاض عدد المشتركين فيه من أهم الإنجازات الداخلية للجهاز الجديد..  مع تقوية اليسار غير الشيوعي.  وربما أهم منجز معلن خلال تلك الفترة المبكرة هي “مانيفستو الحرية” وهو بمثابة الدستور المنظم للحرية الثقافية واعلان للحرب الثقافية الجديدة..  عام 1952م.  

فى عام 1950م أعلن “ترومان” مقولته الشهيرة:”لابد من أن نجعل أنفسنا مسموعين فى العالم عن طريق حملة ضخمة من أجل الحقيقة، وهذا الواجب ليس منبت الصلة بغيره من عناصر سياستنا الخارجية”.. فكانت الخطة القضاء على أضداد السياسة الأمريكية وأيدلوجيتها، وهو أمر هين فى مقابل هؤلاء المترددين.  فكان تحدى الأساس الثقافي للحيادية هو أحد الأهداف الرئيسية لسياسة الحرب الباردة الأمريكية.  

فكانت قناعة بضرورة أن تكون اللهجة معتدلة لكي تتمكن منظمة الحرية الثقافية من تحقيق أهدافها.. فتم التخلص من الرجل الذي وضع مانيفستو الحرية الفكرية “كويستلر”!

عموما كان إنشاء المجلات الثقافية، والاتحاد الإيطالي للحرية الثقافية، والجمعية البريطانية للحرية الثقافية وغيرها من الوسائل المشروعة وغير المباشرة.   قال أحد قادة المخابرات:”كانت مؤسسة فارفيلد هي إحدى مؤسسات المخابرات، وهناك كثير غيرها، كنا نستخدم أسماء المؤسسات لأغراض كثيرة، ولم يكن لها وجود سوى على الورق”!

بعد سبع عشرة سنة من البداية بعد الحرب العالمية أعلن المسؤولون نجاح المهمة وتحقق أهداف الحرية الثقافية..  أعلنها “دالاس” السياسي الأمريكي المشهور.  وتتحقق إذن الفكرة التي عبر عنها “ايزنهاور” الرئيس الأمريكي رقم 34 فى المؤتمر الصحفي: ” هدفنا فى الحرب الباردة ليس الاستيلاء على أرض أو إخضاع الآخرين بالقوة،…  نحن نحاول أن نجعل العالم يصدق الحقيقة بالوسائل السلمية،…. هذه الحقيقة تسمى عادة بالوسيلة النفسية،…. الحرب النفسية هي الصراع من أجل عقول وارادات البشر”

هل يمكن لنا أن نشير الى بعض الإجراءات والملامح الثقافية وغيرها، خلال فترة الحرب الباردة، والتى صدرت الى بقية دول العالم ؟ (خلال فترة هيمنة مكارثى )

إلصاق التهم بالبعض، وضع أسماء البعض على القوائم السوداء، المزيد من عرض مظاهر الرفاهية على صفحات المجلات الأمريكية فى المقابل أو فى الخفاء يعتبر اقتناء اسطوانة لأحد المطربين المعارضين عملا تخريبيا، تلقين الأطفال بالمدارس ضرورة الوشاية بأي فرد يشك فى انتمائه، إنتاج أفلام جيمس بوند، إصدار الكتب، إعداد الندوات واللقاءات، فى مقابل إعدام الكتب المشكوك فيها !، راجت حملة التطهير بين المثقفين…  

أما الظواهر اللافتة فى مجمل أعمال المخابرات الأمريكية من خلال “الثقافة”:

  • ظاهرة الكاتب الجاسوس أو الجاسوس الكاتب (سومرست موم الفرنسى استغل مكانته الأدبية كغطاء لأعمال المخابرات.. وغيره من أمثال “جرهام جرين”).
  • طباعة كتابات أدبية خصوصا (من أمثال دعم دار تشيكوف الروسية لطباعة أعمال تشيكوف).
  • احتقار المحدثين فى الفن التشكيلي حتى أن لوحات الفن التجريدي ليست إلا خرائط لمواقع التحصينات الدفاعية لأمريكا (مقولة لعضو كونجرس). إلا أن المخطط عدل فيما بعد وأصبح دعم الفنانين التشكيليين الشبان والفن الحديث هدفا مدعما بالمال وكل الوسائل..  لأسباب سياسية وليست فنية.
  • الغطاء الأخلاقي والديني خلف كل سلوكيات السلطة والمخابرات، قال “الرئيس ازينهاور”:”نحن نثق فى الرب” وطبعت على العملات الورقية.. وكتب “دالاس” على مدخل مبنى المخابرات” ولسوف تعرف الحقيقة، ولسوف تجعلك الحقيقة حرا”.

وكان تلقين المتدربين فى المخابرات يؤكد:”أن الأديان كلها وعلى مدار التاريخ تمجد من يقومون بتدمير العدو.. القرآن، الميثولوجيا الإغريقية، العهد القديم… “.

  • السينما مثل الدعاية تتعامل مع الخيال، هذا الخيال إذا قدم ببراعة سوف تعتبره الناس

        حقيقة..  إنتاج الأفلام المضادة للشيوعية صراحة (الستار الحديدي، الكابوس الأحمر   ثم تحسين صورة الزنجي الأسود أمام العالم.    

  • قال أحد خبرائهم:” لم تكن المسألة هي شراء ذمم وافساد كتاب وباحثين، وانما هي إرساء نظام قيم كيفي مصطنع يقدم من خلال الأكاديميين، ويعين محررو المجلات، ويدعم الدارسون، وتنشر أعمالهم، ليس بسبب أنهم جديرون، وانما بسبب ولائهم.
  • تحت عباءة مجلس المجلات الأدبية تم تمويل بعد المجلات فى العالم منها مجلة “شعر” اللبنانية لدعمها.. ومجلة “حوار” أيضا، فضلا عن مجلات أجنبية أخرى.
  • رفض بعض الأقلام، كما حدث مع الشاعر الشيلى”بابلو نير ودا” المرشح لجائزة نوبل، وقد وقفت المنظمات المخابراتية ضده، وعندما نالها قتل بعد عامين.
  • الاختفاء خلف أحد المنظمات الدولية الرائجة، مثل “نادى القلم الدولي”.. وهو 77 فرعا فى 55دولة من دول العالم.

يقول أحد رجال المخابرات معبرا عن خبراته فى مجال الحرب الباردة الثقافية :” يبدو أن العالم مقسم بين الشيوعية والديمقراطية، وأن أى شئ فى المنتصف بينهما يعد خيانة!!”.

أما وقد فقد “الاتحاد الدولي للحرية الثقافية” اهتمام من كانوا يدعمونه، صوت الاتحاد على نفسه فى يناير عام 1979م.

وقد عبر أحد المتمرسين على أعمال المخابرات معبرا عما جرى للكثير من المؤسسات التى أنشئت تحت هيمنة المخابرات الأمريكية.. وهويصف رجالها المنهارين : “كانوا يريدون القيام بالدورين معا.. السير مع الشيطان فى الظلام، والسير فى ضوء الشمس”.. وهو ما يعد أمرا مستحيلا.

لعل هذا الكتاب الكاشف الهام “الحرب الباردة الثقافية” هو أحد أسباب استحالة تلك اللعبة الخطرة على الدوام.

 

رواية “العملية هيبرون” للروائي “أريك جوردان”

قليلة هي تلك الأعمال الروائية التي سرعان ما تلفت الانتباه وتصبح من محاور اهتمام القارئ العادى و المتخصص، و قد لا يكون الفن وحده مبررا لتلك الانتباهه.  من تلك الأعمال الروائية، هي رواية “العملية هيبرون” للكاتب الأمريكي “أريك جوردان” وترجمة “شاكر عبد الفتاح” عن “دار الهلال ” بالقاهرة.

صدرت الرواية عام 2000م بالإنجليزية، ثم ترجمت و نشرت بالعربية بدار الهلال المصرية، وربما ما كتبه عنها الكاتب السياسي “محمد حسنين هيكل” سببا مباشرا في لفت الانتباه إليها وترجمتها فيما بعد.  

من ذلك المدخل يتضح أن الرؤية السياسية المتمثلة في رأى هيكل، ثم تأكد الأمر فور القراءة الأولى لها..  أما وقد حدث ما حدث في سبتمبر 2001م بمدينة نيويورك الأمريكية، وهو ما ضاعف من أهمية تلك الرواية.  وبالتالي نالت اهتمام الجميع بعد أثارت من الأسئلة أكثر مما أجابت كرواية فنية.  وهو ما يجيب أو يوضح المقولة بأن هناك بعض الروايات التي تثير الرأي العام واهتمام الخاصة على الرغم  أن المدخل اليها ليس الفن وحده.

تقع الرواية في حوالي 300صفحة من القطع المتوسط، مقسمة إلى خمس وعشرين فصلا، كل فصل فيها يغطى مكان معين في زمان محدد من أحداث الرواية التى تقع أحداثها زمنيا في حدود سنة ميلادية..  ومكانيا تتردد بين واشنطن والقدس و بعض العواصم الأوروبية.

أما كاتب الرواية “أريك جوردان” فهو أحد الذين عملوا لسنوات طويلة في أجهزة الاستخبارات الأمريكية، منذ الخمسينيات حتى أوائل الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي.  وقد عمل في ليبيا ولبنان وإيران وإسرائيل، كما عمل في العديد من الدول الأفريقية و الأوروبية.  وبحكم عمله السري علم من خبايا الأحداث الكثير، حتى أنه كان بمكتب الاتصال الخاص بعمليات الشرق الأوسط، عندما عمل بواشنطن.

أننا إذن أمام كاتب غير تقليدي، ليس لكونه أديبا فذا، بل لكونه من هؤلاء الكتاب الذين يعمدون إلى صياغة تجربتهم الحياتية الخاصة، بكل أسرارها و تفاصيلها إلى رواية فنية للعامة بعد الإحالة الى المعاش.  وهذا النموذج شائع بالذات في مجال الكتابة الروائية في أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية.

وموضوع الرواية يمكن الإشارة إليه بالظر إلى عناوين الفصول ال25 :الفصل الأول”واشنطن/ السابع من نوفمبر ليلة الانتخابات”، الفصل الثاني ” القدس / في وقت سابق من العام نفسه إلحادي عشر من أبريل”.. وحتى الفصل الأخير”القدس / الثامن من نوفمبر”.

وهناك أربعة فصول بعنوان القدس أو تل أبيب، وهو ما يشير ضمنا إلى الموضوع، حيث كانت الأحداث المتعلقة بإسرائيل ومن خلالها تحتل المرتبة الثانية بعد الفصول المعنونة بواشنطن، وأكثر من بقية كل العواصم الأخرى مثل باريس و جنيف وموسكو.

 تبدأ الرواية مع سنة انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد، حيث التوتر والصراعات، وهنا يأتي دور إسرائيل وقد قررت اللجنة العليا للأمن فيها أن تتدخل الموساد ليس من أجل التأثير على صاحب القرار الأمريكي، بل من أجل صناعة صاحب القرار، وبالتالي التدخل لصالح سيناتور معين بدلا من المرشح الآخر للرئاسة الأمريكية..  وهذا هو الخط الأول من الرواية.  والذي يكشف عن الجانب المثير في التدخلات السياسية المباشرة في الأحداث التي تبدو أحيانا بعيدا عن إسرائيل.

الخط الآخر هو حادثة مقتل السفير الأمريكي في الاتحاد الأوروبي، ولسبب يخص إسرائيل، قررت الموساد التخلص من السفير.  فقد نشط الرجل وتقابل مع رجلين من السفارة الليبية أكثر من مرة، وهو ما آثار الريبة في إسرائيل.

تتابع الأحداث بحيث يتم قتل الرجل بمعرفة قاتلة محترفة (داعرة)، وتطاردها الإجراءات البوليسية والتحقيقات بمعرفة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي.  لينجح المكتب في التخلص من القاتلة بتفجير زورقها في مياه البحر وهى داخله.

الطريف أنه يتأكد للعميلة الداعرة “حاكى” وهى القاتلة المحترفة، أن الموساد الإسرائيلي لم يضع في البنك لحسابها بقية المبلغ المتفق عليه أجرا مقابل إتمام تنفيذ العملية !

الآن يمكن التأكيد على أن أهمية تلك الرواية يرجع لسببين : أولهما بسبب الكاتب، الذي هو من العاملين بالمخابرات الأمريكية.  وثانيهما بسبب موضوعها الصريح الواضح، حتى أنه أحيانا يخال للقارئ أن الرأي أو الحوار المنشور أمامه هو نفسه الحوار و الرأي الذي قد يردده مع أصدقائه أثناء جلسات السمر العادية في أي مقهى بمصر أو أية مدينة عربية أخرى..  !!سواء بالنسبة لإسرائيل وعلاقتها بالمؤسسات الحاكمة في أمريكا، أو بالنسبة للنظرة إلى الصهيونية كتعبير واقعي للعنصرية والإرهاب الفكري و الجسدي بالنسبة للعرب، وربما لغير العرب.

ولا يفوتنا الإشارة إلى أن “هيبرون” بالعبرية تعنى الخليل، وكأن الكاتب عمد إلى مقصده مع عنوان الرواية قبل كتابة التفاصيل.

كما لا يمكن أن نغفل هنا، أن ما حدث في نيويورك من إرهاب، وقياسا لما قرأناه، يمكن أن نتهم الموساد بتدبير تلك العملية الإرهابية، ثم التمويه ولصق التهم لغيرهم.  فقد حرصت العميلة (المحترفة ) أن تترك قصاصات ورق جريدة عراقية بغرفة السفير المقتول، بهدف لفت الأنظار بعيدا عن الموساد وإلصاق التهمة بالعراق، وقد كانت العلاقات في ذروة الصراع بين أمريكا و العراق في تلك الفترة.  

 

مع ذلك ماذا عن الفن ؟!

ما سبق يوضح الجانب الواقعي، والرؤية الموضوعية في الرواية..  ماذا لو اقتربنا من الملامح الفنية وتناول الجوانب التقنية فيها.. ؟

ربما يمكن أن نطلق على تلك الرواية لقب “رواية بيضة الديك”، فهي الوحيدة لكاتبها، ولعلها الأخيرة.  ذلك العمل الوحيد الشائع في أمريكا غالبا، له ملامح عامة، أهمها: غلبة الخبرة الخاصة من خلال تجربة متميزة،وقد تكون تجربة غير مألوفة.  كما في روايتنا التي تعالج خصوصية غير تقليدية لأحد العاملين بالمخابرات، فضلا على حساسية وجرأة الموضوع.

الأمر ليس إلى هذه الدرجة مباشرا بحيث يمكننا إصدار الأحكام العامة حول موضوع الرواية الوحيدة لكاتب ما، وهو ما أطلقنا عليه لقب “رواية بيضة الديك”.

فرواية “ذهب مع الريح” للكاتبة الأمريكية “مر جريت ميتشل” وهى الوحيدة لها، فيها من المقومات الفنية والجمال، ما يجعلنا نتساءل عن غيرها.  كذلك رواية “موبى ديك” للكاتب “هنرى ميلفيل” حيث ترصد الرواية عملية صيد لحوت أبيض.  وفيها من الاسقاطات والبعد الفنى  الجميل ما جعلها من الروايات الخالدة في الأدب العالمي..  وغيرهما.

إذن فالرواية التي نطلق عليها “بيضة الديك” فيها الجيد وغير ذلك، ربما بحسب الموهبة التي يمتلكها الكاتب، مهما كان الموضوع مثيرا وربما نادرا.

يمكن قراءة الرواية على مستويين، الأول مستوى قراءة الموضوع أو ما يمكن أن نطلق عليه بالمستوى الواقعي أو الموضوع السياسي الذي أشرنا إليه من قبل.

أما المستوى الفنى فيضعنا أمام عدة ملامح منها:

: تعتمد الرواية على السرد المحايد  والراوي الخفي، الذي نعلم أنه العالم بأسرار الأمور.

: تنقسم الرواية إلى فصول تعتمد على فكرة الزمان المستقيم، بحيث بدا كل فصل محددا لمكان ما، وزمان محدد و متسلسل.

: الحكائية المباشرة هي السمة الغالبة.

: دخول وخروج الشخصيات غير مرتبط بعامل فني ما، يعتمد على الدور الحكائى أساسي، دون النظر إلى أهمية تلك الشخصية، ولعل كل الشخصيات لا يمكننا أن نصفها بالشخصية المحورية أو البطلة.. فالموضوع هو البطل.

: المحرك الأساسي للشخصيات وقائع خارجة عن الشخصية.

: الشخصيات وحيدة البعد، فلا هي صاحبة ماضي واضح أو مستقبل منتظر.

: التناول الأسلوبي مباشر، والمعالجة لا تعتمد على تقنيات عالية من فنون القص.  سواء استخدام المونولوج الداخلي، أو استخدام الفلاش باك أو غيرها من التقنيات الحرفية المعروفة لكل كاتب قصة.

: الطريف أن معظم الشخصيات بلا ملامح أو خصائص نفسية، كما هو شائع ومطلوب في القص.. وان علمنا معلومة وحيدة عن العميلة “حاكى” وكيف أنها تحولت إلى عالم الإجرام بسبب اغتصابها وهى صغيرة.

: الرواية بلا صراع بالمعنى الدرامي في تقنيات الرواية، لسنا أمام فكرتي الخير والشر، أو القوى المتصارعة على وجهي نقيض.

 

بماذا نصنف تلك الرواية الهامة إذن؟

هل هي رواية جاسوسية؟..  

لقد شاعت رواية الجاسوسية خلال فترة الحرب الباردة بين القوتين الأعظم في العالم.  وان اتسمت ببعض السمات التجارية و الفنية، وذلك نظرا لشيوع توظيفها في مجال السينما، واقترابها من الرواية البوليسية.

فبطل الرواية التي تصنف على أنها رواية تجسس، هو الرجل الوسيم، السوبر مان، القادر إلى حد الإعجاز على تجاوز المشاكل الطارئة و الأخطار، مع قدر وافر من الجنس المكشوف.

ويمكن تلخيص موضوع تلك الأعمال في وجود معلومة ما أو مشكلة ما، يطلب إلى شخص محدد إنجاز المهمة، يتقدم لها، وينجزها بعبقرية فردية وإنجاز شخصي خرافي.

أما رواية “العملية هيبرون” فهي بلا بطل وسيم، وبلا خوارق.. على الرغم من أن موضوعها ومن السطر الأول نعرف أنها تتعامل مع عالم الجاسوسية و المخابرات.

هل هي رواية تسجيلية ؟

يبدو أنه من الأفضل أن نجزم بداية أنها ليست تسجيلية !

على الرغم من وجود الحوارات الدقيقة والخفية للمطلع العادي أو حتى الكاتب المتخصص، وعلى الرغم من وجود أسماء أماكن وشخصيات مشار اليها بالوظيفة والعمل، أي حرص الكاتب على الإيهام بالحقيقة الكاملة وقصديته في ذلك.. إلا خصائص الرواية التسجيلية غير متوافرة إلا من بند القصدية في رصد  الحقيقة.

مع ذلك ورطنا الكاتب بسبب أساسي، ألا وهو “المعلوماتية”، ذلك القدر الوافر من المعلومات الخفية، والمثيرة، والطريفة.. فضلا عن كونها سياسية. تلك المعلوماتية هي السمة الهامة في الرواية والتي أكسبتها عنصر التشويق الضروري في أي عمل فنى.

الرواية “العملية هيبرون” بحق، رواية هامة وان اختلفت حولها الآراء من الناحية الفنية.

   

التهديد الاسلامى.. حقيقة أم خيال؟

ربما نال الإسلام والمسلمين – وهو حق- اهتماما من الجانب الغربي (أوروبا/ أمريكا) لم يكن هكذا مكثفا وجليا، إلا بعد أحداث سبتمبر عام 2001م.

وقد صدر مؤخرا كتاب “التهديد الإسلامي..  خرافة أم حقيقة” للباحث الأمريكي الشهير “جون اسبوزيتو”، ترجمة “د. قاسم عبده قاسم”، عن “دار الشروق” للنشر.

يعد الكاتب من المهتمين بتاريخ الإسلام والمسلمين، وعلى دراية بأحداث المنطقة العربية  ومتغيرات الدول الإسلامية  السياسية والثقافية وغيرها.  عمد الكاتب الى العرض التاريخي، والمسح الجغرافي، والتحليل التنظيمي لكل المنظمات والحركات الإسلامية.  يسعى الكاتب فى النهاية الى محاولة للإجابة على السؤال (عنوان الكتاب): التهديد الإسلامي.. خرافة أم حقيقة ؟

عرض الكاتب الإطار التاريخي فى العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، باعتبار أن المنطقة العربية هي قلب العالم الإسلامي، هذا الجوار الذي بذر بذور الصراع و التعاون معا طوال ثلاثة عشر قرنا مضت.

ثم انتقل الى بدايات الغزو الاستعماري للمنطقة العربية فى محاولاته للسيطرة على مناطق المواد الخام وفتح الأسواق لمنتجاته.   وما استتبع ذلك من حركات تحررية أتسم بعضها بالصبغة الإسلامية.  وقام المؤلف بتحليل الكثير من المنظمات الإسلامية (تاريخيا) وحتى الآن..  لينتهى بمناقشة السؤال: هل العلاقة بين الإسلام والغرب هي علاقة صدام فى إطار صدام الحضارات؟ أم يمكن بناء جسور للتفاهم فيما بينهما ؟

صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 1998م، وقد رصد الكاتب بعض الظواهر التى بدت مؤشرا لتغير ما (لاحظ أنها قبل أحداث سبتمبر 2001م بنيويورك، حيث أشار لكاتب فى اتصال تليفزيوني معه انه سوف يضيف جزءا آخر الى الكتاب ليتابع المستجدات)..  أما تلك الظاهرة التى لفتت انتباهه..  الحكومة التركية، بتأثير من العسكريين، أجبرت أول رئيس وزراء إسلامي على الاستقالة وحلت حزب الرفاه..  اجتاحت حركة طالبان ل90% من الأراضي الأفغانية..  انتشار العنف وعدم التسامح من البوسنة الى كوسوفو مع المذابح العرقية للألبان بيد القوات الصربية..  تعرضت القوات الأمريكية فى السعودية  وكذا سفارتي أمريكا فى كينيا وتنزانيا الى هجمات مسلحة..  وهبت على إيران رياح تغيير بانتخاب الرئيس خاتمي..  كما بدت مشاركات المسلمين أكثر وضوحا فى المجتمع الأمريكي.

وبالتالي فالحديث عن السياسي والثقافي بين المسلمين والغرب لا يخلو من مخاوف المواجهة، مع نظرة ذاتية للغرب على أن الإسلام يتعارض مع الديمقراطية الغربية.

 

بات السؤال: هل الإسلام والغرب على طريق التصادم الحتمي؟

يرى الكاتب أن آية الله الخميني و صدام حسين.. وعلى مدى عقدين من الزمان، كانت النظرة الغربية الى أن الإسلام لو وجه مقاتل ومهدد لمصالح الغرب.  فالخومينى وصف أمريكا ب”الشيطان الأكبر”، وقال صدام حسين فى غزو الكويت بأنه دعوة “للجهاد”.

وهو ماذكر الغرب بهزيمة البيزنطيين على أيدي المسلمين، وفظائع الحروب الصليبية بعدها، ثم طرد المسلمين من أسبانيا، والتهديد العثماني لأوروبا.. ثم كان التوسع الاستعماري الغربي بالمنطقة العربية وخلق دولة إسرائيل.

على الرغم من التحول الديمقراطي لدول شرق أوروبا، بعد انهيار الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي.. إلا أن الحقيقة التى تقلق الغرب : وجود الإسلام كديانة  عالمية وقوة أيديولوجية  تحتضن أكثر من خمس سكان العالم، فى عالم ممتد من أفريقيا حتى إندونيسيا.

مع بداية القرن الواحد والعشرين، لابد من ملء الفراغ الناجم عن انهيار الحرب الباردة بالمخاوف المبالغ فيها من الإسلام ( على حد قول الكاتب).

وقد أورد الكاتب عناوين بعض الكتابات الصحفية المعبرة عن هذا التخوف، منها:” مازالوا يحاربون الحملات الصليبية “، “الإسلام الصاعد ربما يهيمن على الغرب”…

بينما كان القادة الغربيون يحاولون تشكيل النظام العالمي الجديد، تصاعدت فكرة اعتبار “الإسلام” الأممى العدو العالمي الجديد المتكتل ضد الغرب.  وقد أورد الكاتب تلك الفقرة من مقال منشور بصحف أمريكية :” بالنسبة لبعض الأمريكيين، الذين يبحثون عن عدو جديد يختبرون ضده قوتهم وعزمهم، بعد موت الشيوعية، يعتبر الإسلام الخصم المفضل.  ولكن إعلان أن الإسلام عدو الولايات المتحدة سيكون بمثابة إعلان حرب باردة ثانية  ليس من المحتمل أن تنتهي بنفس النصر المدوي الذي انتهت به الحرب الأولى (ويعنى حربهم مع الاتحاد السوفيتي) “

فالخوف من الخطر الأخضر (وهو لون الإسلام) قد يحل محل الخطر الأحمر (وهو لون الشيوعية).

إن الموضوعات التى واجهت الإسلام والغرب خلال التسعينيات من القرن العشرين، كشف على قدر التحدى أو التهديد المحتمل  من جانب الإسلام ضد الغرب..  وضح ذلك فى ضوء قضية سلمان رشدي (الكاتب الإنجليزي الجنسية والمفترض أنه مسلم )، وكذلك حرب الخليج خلال عام 1990 – 1991م، وأيضا النظام العالمي الجديد، وتحدى الديمقراطية فى العالم الإسلامي (وهو تعبير الكاتب)..  وكلها أحداث أو مواقف كشفت عن وجهة نظر مخالفة للغرب.  

ومع ذلك (وحتى قبل أحداث سبتمبر 2001) كان السؤال الذي يعود الكاتب لترديده.. هل يمكن للغرب أن يتقاسم مصالح مشتركة مع العالم الإسلامي؟

لقد تبنى الكاتب فى النهاية وجهة النظر المتفائلة بإمكانية التصالح بين العالم الإسلامي والغرب، والنظر مصلحة الطرفين.  فهو يرى أن أغلب المسلمين يرون فى حركة الإحياء الإسلامي هي حركة اجتماعية، وليست حركة سياسية..  بهدف خلق مجتمع إسلامي صالح.  كما أنه ليس بالضرورة أن تكون كل عناصر الإحياء الإسلامي مناهضة للغرب.

يطالب الكاتب فى أخر سطور الكتاب بدراسة تاريخ الإسلام والعالم المسلم، مع الاعتراف بتنوع الإسلام وجوانبه  العديدة.. وهو الأمر الذي يقلل كثيرا من صدام الحضارات.

يبدو فى النهاية أنه يجب علينا الانتظار حتى طبعة جديدة من الكتاب لنرى وجهة نظر الكاتب بعد أحداث سبتمبر وفى ضوء الحرب المعلنة ضد الإرهاب الآن…

 

 رواية “الرجل والموت” للروائى “محمد الراوى”

ترى كيف يكون الحال عندما نفقد حريتنا؟

يقول الروائى “محمد الراوى” انه الموت.. الحرية أو الموت، بل فقد الحرية يساوى الموت.  خلال الصفحات الأولى، حيث الحصار والهلاك، يقول الراوى وهو يمر بين الأبنية المحطمة، والجثث المرئية وغير المرئية.. بين روائح العفن والمخلفات والدم المتخثر..  أما وقد أخذت الراوى سنة من النوم، فسمع من همس فى أذنه:

” قم.. قم..  أيها الرجل وألا قضى عليك الموت، وأنت فى مكانك، وأظن أنى أكلم نفسى، وأهمس حيث لا يسمعنى أحد ومرة ثانية أتانى الصوت كالهسيس فى أذنى صوت غريب على.. لم لا تتحرك أبق فى مكانك، ولا تقم أبدا حتى يأخذك الموت”

تعد تلك الرواية “النوفيلا” من الأعمال التجريبية، ومع خصوصية التجربة التى غالبا ما تكون الكتابة حولها.. واقعية، ألا وهى التجربة الحربية، حيث الحصار أو قيد الحرية.  الا أن الروائى استخدم التوثيق أو التسجيل الفنى، وهو القائم على الرصد الفنى.  لكنه –أى الروائى – شاء أن يستخدم تقنيات السينما والفنون الأخرى، بلا افتعالززوهو ما اضاف الى العمل اهمية خاصة.

أما التناول الخاص لمعنى الحرية، فهو ملمح أكيد وهام..  حيث فقد “الحرية” مساويا “للموت” بالمعنى المطلق..  الموت الفزيقى، والميتافيزيقى.

…………..

رواية “ذات” للروائى صنع الله ابراهيم

“ذات” فتاة مصرية عادية، نشأت وتم تربيتها وتشكلت كى تصبح الزوجة المخلصة الى زوجها، وبيتها.  ولا يعنينا الآن ما دلالة أو معنى الاخلاص.. يهمنا أن تحقق للأب ما أراده لابته وتزوجت “عبدالمجيد”.

لم ينكشف للقارىء شيئا عن معنى “الحرية” الذى نبحث.. الا عندما بدأت “ذات” وهو اسم الشخصية المحورية، بدأت فى التمرد.  يبدو أنها بدأت تبحث عن حريتها.

ببساطة المواطن العادى تمردت “ذات”.. رغبت فى وضع صورة “عبدالناصر ” على الحائط فى العمل، تقدم بشكوى ضد الغشاشين من الباعة والتجار.. الخ

وان بدى العمل أكثر تعقيدا بالعديد من التقنيات والحيل الفنية التى استخدمها الروائى، بحيث أضاف البعد التاريخى الى جانب البعد السردى أو الحكائى.

والسؤال الهام الآن: أية حرية تلك التى يبحث عنها الروائى، و”ذات” التى أضحت منا وفينا، تعاطفنا معها حتى أشفقنا عليها؟

ربما حرية الانفلات مما هو آنى، مكانى.. الى ما هو أبعد فى الزمان والمكان.

…………………..

سيظل هاجس “الحرية” مطروحا للبحث فى كتابات الكتاب، كل أجناس الأدب من شعر ونثر، وستظل “الحرية” نفسها..  الوسيلة والغاية عند الكاتب/ الفنان.. ولا تنتهى الكلمات، أو المقالات أو الدراسات، مهما طالت.

وسيظل موضوع “الحرية” تحديدا منقوصا مشوقا للمزيد من البحث والدرس.. ماذا عن المنافى والسجون؟ ماذا عن القهر الحياتى اليومى دون رحمة ودون أن ندرى ما يفعله الانسان فى أخيه؟ ماذا عن….. و…. ؟؟!!

أحيل القارىء الى بعض الأعمال الروائية واليوميات /المذكرات والتى أعتقد أنها من أهم الفنون فى موضوع أدب المقاومة عموما..  من تلك الأعمال:

رواية “تلك الرائحة” /صنع الله ابراهيم.. شرق المتوسط/ عبدالرحمن منيف..  السجن/ نبيل سليمان.. شيوعيون وناصريون/ فتحى عبدالفتاح.. الزنزانة/فتحى فضل…..

كما أشير الى العديد من الأعمال الشعرية لمحمود درويش، أمل دنقل، الكابتن غزالى.. وغيرهم.

ولا ينتهى الموضوع، ولا الأمل فى انجازه.

……………………….

المراجع:

1-“مواجهة الارهاب ” –جابر عصفور –هيئة الكتاب عام 2003م.

2-“قصف العقول.. الدعاية للحرب” –فيليب تايلور –ترجمة “سامى خشبة” – سلسلة عالم المعرفة –الكويت ابريل 2000م.

3-“الكتابة والحرية” –د. فوزي فهمي- هيئة الكتاب 1999م.

4-“جماليات الرواية المعاصرة”- مجاهد عبد المنعم مجاهد-دار الثقافة للنشر1998

    5-“الإبداع والحرية”- د. رمضان بسطويسى-هيئة قصور الثقافة 2002م

     6-“صراع الحضارات أو “العولمة” “- عبدالمنعم سعيد – هيئة الكتاب 2002م.

-النصوص الإبداعية المشار إليها.

الدوريات:

-“الثقافة العالمية ” – عدد خاص عام 2004.

-“عالم الفكر”- عددان خاصان.

-“مجلة فصول” – أعداد خاصة.

 

 

مقالات من نفس القسم