محمد رزيق
المقام العشريني وحديث ذاكرة!
عن المقام العشريني، ومن أجل فكّ طلاسيمه؛ انزويْتُ إلى رفوف خزانتي الورقية والرقمية، أُقلِّب في الذي احتوته من كتب عن الموسيقا. قلّبْت رسائل الكندي السبعة في الموسيقا، كما قلبت ما سطّره الفارابي في كتاب الموسيقا الكبير، وفتّشت في استخبارات الموْصليّ ومواويل زرياب، لعلّيَ أعثُر على المقام العشريني الذي نُسِجت عليه «الحركة»؛ لكن من دون جدوى تُرْتَجى. عُدت إلى الرواية فأوحت لي إشارة على ظهرها الأحمر مفادُها أن «الحركة» نصٌّ سرديٌّ يستوحي أحداثَه من حركة «عشرين فبراير» الشبابية الاجتماعية المغربية.
ساعتئذ، استنهضَتْ ذاكرتي ذكرى حرَّكت المركون داخلي والمطمور من الماضي القريب؛ ذكرى آبَتْ بي إلى ثمانينيات القرن المنصرم، جعلتني أشتمُّ رائحة قد أزكمت الأنوف، ما عرَّفني بها قوّة شمّي أو سعة مناخري؛ لكنّه العشرون رقم محفور في الذاكرة البيضاوية. مسافة زمنية ربطت بين العشرينَيْنِ على طول عقود ثلاثة. يومها، انطلق المسير ثم توقّف على صليل الحديد وأزيز الرصاص، وهو يُخرس هتاف الشباب ونحيب الأمهات على مَن خرج ولم يعد إلى الديار. عَطْبٌ وقَتْل وسَحْل وسَجْن ثم طَمْرٌ وإخفاء لأثر الجريمة؛ لكن الأرض الطيبة ضاقت بالمطمور فحدّثت عن بعض أحداثها فلفظت الحقيقة وألقت ما فيها بعد ما مرّ الزمان وَوُوريَ الثّرى مَن أتَت عليه سياط العذاب قيد حياته. يوم العشرين من حزيران أشهده شاعر البيضاء* على البيضاء ومن نزل من أبناء البيضاء؛ سجلت قصيدة الشاعر ذكراه وذكرى من مرّ وشارك في الاحتجاج أو ساهم رشقاً بالحجارة ردّاً على من سدّد فوهات البنادق وسمح بالخنق في المخافر. لم ينسَ الشاعر «المهدي» ولم ينس «عمر»، كما لم ينسَ غيرهما الكثير ممن نزل من البشر والحجر… تعقب ذلك سنواتٌ، والسير لم يتوقّف حتى وصل العشرين من فبراير، عندها، توسّع الفضاء واتّسع فارتجّ يستنكر ويندّد. تسلّل إلى الميدان على حين غفلة مَن همُّه افتراش بساط الشعارات ليقطع الطريق على من أوقدوا فتيل الحراك وكبحوا جماح من واصلواْ؛ في حين بقيَ آخرون ينتظرون حظّهم من الكعكة؛ أمّا النظام فقد تغيرت سياسته في التعاطي مع الوضع، فلا تسأل الفرحة من يتيمٍ.
تغيرت رائحة المكان، تلك الرائحة التي ما تزال تحتلُّ حيّزاً في الذاكرة. كنت قد استيقظتُ باكراً، صباح العشرين من حزيران، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وأنا ما زلت حدثاً أتلمّس زغب شاربي يُخرِج أولى بذوره. أخذت حماماً بارداً، ثمّ حزمت سِيرَ حذائي الرياضي، بعدما تسرْوَلْتُ سروالاً واسعاً يسمح بالكرّ والفرّ، ولبست قميصاً قصير الكُمَّيْن؛ وكأنّي توقعت شراسة النّزال. خرجت من دون أن أودع أحداً حتى لا يُحال بيني وبين ما جمعت عليه القصد، ثم التحقت بالجموع التي خرجت، بموعد قد بيّتته، إلى الشارع الرئيس بسيدي البرنوصي؛ شارع أبي ذر الغفاري والمعروف لدى الساكنة اليوم بشارع «شوفوني». خرجَتِ الجموع تردّد شعارات وتحمل يافطات تندّد بالزيادة في الأسعار وما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
كان يوم العشرين من حزيران يومَ إضراب وطني عام؛ التأمت الحشود وصدحت الحناجر تهتف بما اتُّفِقَ عليه من شعارات، وكلّها انضباط وامتثال. في العدوة الأخرى، قرب المحجر الصحي بالحي، الذي تحوّل إلى مقاطعة إدارية، ثم ارتقى إلى عمالة إقليمية اليوم، تربض قوات الردع قلقةً، تراقب انسياب سيل المتظاهرين الذي أمطر بشراً وراح يكبر ويتزايد بفضل الإمدادات البشرية التي يتلقاها من مسارب الحي وطرقاته؛ لم تتوقف سيول المشاركين عن التدفّق إلى الشارع من كل زقاق ودرب اتسع عرضه أو ضاق. من المفروض يومها، ألاّ يُفتح دكان أو تتحرّك حافلة أو سيارة أجرة على قلّتها.
غصّ الشارع عن آخره بمن نزلوا، لتلوح حافلة زرقاء للنقل الحضري، فتؤجِّج غضب المحتجين. يحدث التلاسن ويزداد حِدّة ثمّ يعقبه الرشق بالحجارة، ويكون الإقبال والتفوق للجموع التي لم ينفع معها تدخل الوقاية المدنية ولا هراوى المخزن المتنقل. ساعتها تداول المتظاهرون أخباراً مفادها أن القيامة قامت بكل أحياء البيضاء؛ بعدما كانت الانطلاقة من حي البرنوصي العُمّاليّ بامتياز. تقوَّت العزائم وصرخت الحناجر بأقصى ما في جَهدها، خالج الجموع إحساس بأنّ النصر قد تحقّق أو هكذا قدّرت فبدأت تنتشي؛ بيْد أنّ قوات الردع توارت مُتمَتْرسةً وراء آلياتها تراقب من كثب غليان الجموع وعليها تبدو العصبية والاضطراب، وتترقّب كلّ شيء بحِذْر وتحفّز متحسّبة لمفاجآت قد تقع. لعلّها ثورة أبطال بلا أمجاد[2]، ثورة الأيام الأربعة[3] التي اندلعت من «مولاي بوعزّة» بالأطلس المتوسط، أتَت بلا موعد أو اتفاق كما تلاقى الشاعر بغادته بلا وعد في موسم الورد*!
لن أخوض في الذي خلّفه إضراب العشرين من حزيران من مآسي ومقابر جماعية طُمِر فيها من طُمِر ومعه طُمِر حلم بالنصر كان يراه من كثب. لقد انعطفت الشمس غرباً، ومعها مالت كفة النزال جهة المخزن، حين وصلت أخبار بأن كتيبة من ثُكنة المُشاة «بعين حرّودة» المجاورة لحي سيدي البرنوصي شرق الدار البيضاء، قد زحفت بمُعدّاتها وعسكرت على مشارف الحي. لقد صدرت لها الأوامر بالتحرك داخل الحي بمصفّحاتها، حتى لا يتوسّع التمرّد والعصيان. اعتقدنا أنّها جاءت للتخويف والإفزاع، وقد تُغيِّر رأيها في أيّ لحظة فتنضمّ إلى الجموع، ما توقعنا ولا صدّقنا أنّ عناصرها ستسدّد سلاحها نحو المتظاهرين العزّل، وتفتك بعشرات الأبرياء؛ منهم من خرج لينتشل ابنه أو أخاه أو قريباً خوفاً عليه مما صارت إليه الحال؛ فأصابته أفواه البنادق في مقتل، وحتى من سلم منهم لطّخت خراطيم المياه العادمة لباسه على جسمه. هدأت العاصفة ليلاً، لكن مراجلها بقيت تغلي في صدور الأمهات اللائي انتظرن عودة ابنٍ وما عاد منذئذ، ولم يمت منهم إلّا من كان جنانه ميتاً. وأخيراً اطمأنّت حال بعض الأُسر بمعرفة مكان طمر أبنائهم، لكن أُسراً أخرى لمْ يبرحها الاكتواء بحرّ الاختفاء والمصير المجهول، ولم تجد طريقاً إلى التشطيب على الفقيد المُغَيّب من سجلات الحالة المدنية.
هجست الذاكرة بهذا النّزر القليل مما علق بها، والحقّ أنّ المقارنة تصعب بين الأحداث الدموية: أحداث العشرين من حزيران أو أحداث الثالث من مارس من سبعينيات القرن الماضي، أو أحداث الطلبة في منتصف الستينيات؛ وبين أحداث الياسمين: حراك العشرين من فبراير. هدفت كلّ هذه الحركات إلى محاربة الفساد وتحقيق العدالة والمساواة. يكفي القول إنّ أحداث حزيران في مطلع الثمانينيات جاءت ردّاً على ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وكان من وراء الدعوة إلى إضراب عام قوى وطنية من الداخل ترغب في الإصلاح والتغيير ودفع الفساد الذي استشرى في البلاد. إنّ غاية الإصلاح والتغيير ذاتهما هي ما حَدَتْ بحركة العشرين من فبراير إلى التظاهر؛ لكن حينما خبت جذوة الأحزاب والنقابات، وانحازت إلى النظام القائم طمعاً في عطائه أو استجداءً لإكرامياته، فإنّ ما أشعل قبس الحركة هو تأثير حراك الجوار بالعالم العربي؛ يقول أحدهم: «الثورة وحدها، في تونس ومصر، رمت بي في المعترك»[4]. دفع حراك الجوار بنشطاء التنظيم إلى الاعتقاد القوي بأنّ الحركة قادرة «أيضاً، [على تحويل] بابْ الْحَدْ إلى ميدان التحرير»[5]. وبذلك يضعون الحجر الأساس لإقامة صرح التغيير. أوّل شرارة كانت شعلة البوزيدي التي انتظرنا لحظتها طويلاً حتى هرمنا؛ وثانيه، ميدان التحرير الذي وحّد أغلب الفصائل المصرية على اختلاف توجّهاتها، ما يجمع بينها غير الاكتواء بمرارة الوضع في البلاد. انخلع رئيسا البلديْن، وفرّا إلى الربع الخالي، ليُزهر العالم العربي ياسميناً سرعان ما انقلب إلى رمضاء جاءت على الأخضر واليابس. حين قامت الحركة عرّفها أحد نشطائها وهو يقدّمها لبعض الشباب المعجب بها، إنّ «الحركة ليست تنظيماً حزبياً يحصل فيه الراغبون في الانتماء على بطاقة العضوية، وإنّما هي حركة شعبية نضالية مفتوحة لانتماء الناس جميعاً»[6]. يعني أن الانتماء إلى الحركة كفيل بمدى مشاركة المرء في أنشطتها والنضال ضِمن صفوفها مع الانضباط لمقرراتها التنظيمية. إنّها «حركة جماهيرية ينتسب إليها جميع من آمن بمبادئها في الحرية والديمقراطية»[7]. بل إنّ الحركة خليط من المناضلين على اختلاف مشاربهم «تسع الجميع: الراديكالي والمعتدل الواقعي والرومانسي…، ويَسَع الجميع أن يقول رأيه فيها بحرية. وأنها إن تخلّت عن هذه الروحية، فقَدَت مبرر وجودها، وتحوّلت إلى حزب عقائدي مغلق، يشبه بعض حلفائها من الأحزاب والجماعات، بل إلى رديف للمخزن الذي تعرّض به في كلامها السياسي»[8].
الديموقراطية وطبيخ الحصى
تعالج رواية «الحركة» موضوع الأحزاب والتنظيمات السياسية بالمغرب من حيث الأعطاب التي ألمّت بها وحالت من دون أن تحقّق الأهداف التي كانت من وراء تشكّلها، والتي تؤثث خطاباتها حتى الإسهال: الحرية، العدالة، المساواة، الديمقراطية، محاربة الفساد… بل إنّ من هذه التنظيمات مَنْ يرغب في تغيير النظام إلى ملكية برلمانية أو جمهورية أو دولة خلافة… تنشأ الأحزاب وتتشكّل بناءً على أهداف وردية تضعها نصب عينها على أمل تحقيقها وبلوغها. وحيث أنّ أساس هذه التنظيمات يقوم على علاقات بشرية يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، والشخصي بالعام من جهة. ومن جهة ثانية، تضع نفسها في مواجهة نظامٍ عمّر طويلاً وراكَمَ من التجارب ما يمنحه القدرة على التعامل وردع كلّ تحرُّك أو عصيان يشوّش عليه؛ فإنّ الرواية وقفت على جزئيات، أو قل على نقط قوية ذات تأثير بليغ على عمل هذه التنظيمات؛ إمّا أن تدفع بالفعل السياسي إلى النجاح أو تَنْخره من الداخل فتُبدّد جهوده وتُعرِّضه للرياح تذروه.
لم تخرج حركة العشرين من فبراير عن السياق العام لتكوّن الأحزاب السياسية أو التنظيمات ذات الطابع السياسي والاجتماعي. لقد اتخذ الكاتب من روايته مطيةً للإتيان على ذكر أغلب التشكيلات الحزبية بالمغرب، يمينها ويسارها، المعتدلة منها والمتشدّدة، الشرعية منها والإدارية وغيرها، وحتى غير المعترف بها؛ لكنّه أوردها بما يدل عليها من دون أن يصرّح بأسمائها الحقيقية. تُرى: هل تعمّد الكاتب ذلك تحاشياً للقيل والقال، ونأى بنفسه عن تسميتها ليظلّ في عالم التخييل والإبداع الفني، أم أنّه تقصّد التشهير والتعريض بما تحمله أسماؤها من رمزية وقيم لم تعرف طريقها إلى التحقّق؟ على سبيل المثال لا الحصر، أذكر منها: حزب التحرير، الطريق القويم، حزب المقدمة، حزب المساواة والإصلاح، حزب الماضي والحاضر، البر والإقساط… فلا شيء حقّقت هذه التنظيمات من هذه الشعارات التي رفعتها وتعمل تحت ألْويَتِها؛ على مستوى الهياكل والأنظمة الداخلية، جلّ أمناء الأحزاب شغلوا منصب الأمانة مدى الحياة ومنهم من ورّثها لأولاده؛ وعلى المستوى الواقعي حين شاركت في تدبير سياسة البلاد، فأصبحوا من «خدّام الدولة» الذين استفادوا من الريع وتخلوْا عن مواقفهم مساهمين في تكريس الفساد الذي ناهضوه بالأمس وردّدوه في شعاراتهم وخطاباتهم، فما كان من شباب الحركة إلّا أن يقتلواْ زعماء هذه الأحزاب قتلاً رمزياً إلى الحدّ الذي خيّل فيه لأحد شباب الحركة «أنّه يمشي في موكب تشييع حاشد […] لِجنازة الاستبداد والفساد. وهؤلاء الذين ترفع صورهم مشطوباً عليها هم الموتى. لكن الذين يشيعونهم لا يلتمسون لهم الرحمة والغفران، ولا يذكرون موتاهم بخير، بل ينكرون عليهم ما نسبوه إليهم من قبيح الفعال، ويشتدّون في النكير […] لا شكّ في أنّ من بين رفاقه من يوسّع دائرة الموتى، في هذه الجنازة، وأعدادهم، فيضيف إليهم زعماء الأحزاب والمنظمات السياسية، الذين جثمت أسماؤهم وصورهم على الصدور طويلاً»[9]. يأتي هذا الموقف المتشدّد من هؤلاء الساسة والزعماء من اعتبارهم عملاء للنظام؛ لأنّ الأحزاب السياسية خانت الوطن في قضاياه الداخلية، هذا ما تُؤكِّده إيمان، «تفوّقت على السلطة في الكيد للحركة وفي إشاعة الاعتقاد بأنّها انتهت أو هي إلى أفول»[10]؛ ولم يفتها التنبيه أنّ هذه الظاهرة التي باتت تطبع حال الأحزاب السياسية هي ما يجعل «في نظرها، أنّ الحركة تعبير عن إرادة شعب ملّ من هذه الدكاكين السياسية، التي لم تنفعه يوماً في قضايا الخبز والحرية والعدالة، وكان همّها دائماً تحسين حصّتها من السلطة والمنافع»[11]. وليست الحركة ببعيد عن تلك الأحزاب والمنظمات في تشكّلها الأولي.
تتعاقب أحداث الرواية وتتوالى مشاهدها عبر خطّ زمني يتصاعد مع نضج وتطوّر الحركة، وخلال هذا التطوّر تعرِض لموضوع السياسة، وقد شطَرته إلى شطريْن اثنيْن: الأول عرضت له من خلال ما وصل إليه أمر الأحزاب السياسية في المغرب من تفاهة وإفلاس؛ الشيء الذي ساهم بقدر كبير في عزوف العامّة لدرجة إهمال السياسة وما يسير في فلكها. لقد صدّواْ صدوداً عنها وعزفواْ عن كلّ أشكالها بحيث باتواْ يرون فيها موضوعاً مستغلَقاً عن الفهم ومصدر كل الشرور. حين انشغل «حسن» (بطل الرواية) بالسياسة وأراد «أحمد» (الوالد) أن يصرفه عنها، فكّر أن يستعين بالجدّة علّها تقدر على ذلك فاستدرك يائساً: «لكنّ جدّة الابن لا تفهم في السياسة حتى تصرفه عنها، ثمّ إنّها مريضة وكبيرة في السن، ولا مصلحة له في إفزاعها بخبر ابتلاء حفيدها بالسياسة، وخطورة ذلك عليه وعلى سلامته»[12]. والجدّة ترى أنّ السياسة مصدر كل البلايا في الدنيا وهي التي «كانت تحذره، وهو صغير، منها، وتقول له إنّه بالسياسة نجح إبليس في إغواء سيّدنا آدم وحواء، والتسبّب لهما في الخروج من الجنة، وإنّ السياسيين جميعاً من نسل الشيطان، يحتالون على الناس ويسرقون أصواتهم في الانتخابات، بعد أن يصدقهم هؤلاء، لكي يغتنواْ»[13]. في نفس السياق، يرى «أحمد» أن السياسة تلعب بعقول الشباب وتغرّر بهم، فهو «لم يعد يشكّ في أنّ ابنه حسن مسحور. أحدٌ أطعمه شيئاً خطف لُبّه، وجعله ينقاد له، وإلّا ما معنى أن يخيّره بين السياسة والبقاء مع أهله في البيت فيختار السياسة؟! «عديم المروءة» يتحدّاه»[14]. فهو يعتقد، قطعاً، أنّ للسياسة مفعول السحر والمخدر، وهذا قد يلقي بولده إلى حتفه وإنْ لطفت به الأقدار ينتهي به الأمر في دهاليز المخزن وسراديبه؛ إذ «لا يستغرب أن يصيبه من السياسة سحر، فأكبر السحرة في الدنيا من رجال السياسة. كم من بيت عصفت به، ففرّقت بين الأخ وأخيه، وكم من حيّ أشعلت النزاع بين سكانه، وقد كانوا متساكنين، وكم من حرب قامت بين دولة وأخرى بسببها»[15]. نخلص أن السياسة، من هذه الزاوية، مصدر كل الشرور والآفات وإنْ كانت العنصر الأساس في تحريك الشعوب إلى التغيير والتجديد عبر التاريخ.
الشطر الثاني، يعرض فيه لرأي نشطاء الحركة من الشباب ومَن آزرهم من كبار السن الذين ما تزال لديهم بارقة أمل في التغيير، اقتناعهم بحقوقهم لا يتعارض مع القيم الأسْرية كطاعة الوالدين مثلاً كما يُؤكّد ذلك «حسن» «إنّني، إذ أفعل ما أفعل، لا أعصي أمره كما يتصوّر، بل أمارس حقّاً من حقوقي كمواطن»[16]. إذا كان هؤلاء النشطاء يروْن أنّ ما يترتّب عن الفعل السياسي من نجاحات أو إخفاقات لا ينبغي أن تحُدّ من عزمهم، فأيّ «سياسة أشرف من أن نرى حياتنا تنعم بالحرية واحترام كرامة الإنسان، فلا يخشى المرءُ على نفسه من رأي رآه وعبّر عنه، ولا من حقّ مدني أو سياسي مارسه»[17]؛ فإنّ والد حسن يرى أن السياسة والمشاركة في الحركة قد مكّنت ابنه من اكتساب مهارة المرافعة والدفاع عن اختياراته وقراراته؛ لقد حسب ابنه غِرّاً، فإذا به صار «يعرف كيف يتحدّث، وكيف يردّ على الفكرة بالفكرة. لا يهتاب، ولا يتلعثم، وكأنّه يؤدي دوراً مسرحياً حفظ نصّه بإحكام. فاجأه ذلك القدر من الجرأة لديه، بمثل ما فاجأته كفاءته في الجدل. أين تعلّم ذلك كلّه ومن علّمه؟»[18]؛ حتى أنّه لمّا خُيّر بين السياسة والبيت اختار السياسة وردّ «يقول له: كلّ المغاربة أهلي، وكلّ الوطن بيتي»[19]. على التحقيق، أنّ صداقاته الجديدة في العمل الجمعوي والحركي داخل الجامعة فتّقت وعيَه وأنضجَتْه ليهتمّ بقضايا العباد والبلاد وينخرط في صفوف حراك لم يفكر يوماً أنّه سيكون من نشطائه. ثمّ «إنّ جاذبية السياسة والشأن العام أقوى من كلّ الحيطان والأسوار، التي قد يضعها المجتمع والأسرة في وجهها: «حماية» للناشئة منها»[20]. إنْ اختارَ حركة العشرين من فبراير فلأنّه مقتنع أنّ عصرنا هو عصر مؤسسات المجتمع المدني، وليست هذه المؤسسات ببعيدة عن السياسة إنْ لم تكن في معمعتها، «ماذا يكون العمل لفضح انتهاكات السلطة لحقوق الإنسان، وكشف أوضاع المعتقلين السياسيين في السجون، ومصير المخطوفين الغامض حتى اليوم، والاحتجاج على محاكمات الصحفيين، وتغريم الصحف، وختم مَقرّات بعضها بالشمع الأحمر، وفضّ اعتصامات حمَلة الشهادات العاطلين عن العمل بالقوة…! إن لم يكن هو السياسة ذاتها؟»[21]. أكيد، إنّها السياسة وتلك أسئلتها التي ترافع من أجلها. قضايا السياسة تلك هي ما يجذب ويستهوي الشباب الطموح والطامع في التغيير والتجديد. تنفث القضايا الإنسانيةُ الروحَ في صدور الشباب المقتنع بضرورة الذود عن الحرية والعدالة فينفلتون من عقال اللامبالاة والتقاعس كمن لا يُكلّف نفسه التفكير في الأمور البسيطة فما بالك بالأمور التي تستحقّ التفكير؛ أولئك الذين يعشقون تعطيل الدماغ عن التفكير وإن كان الدماغ «يعقد [معهم] هدنة في النهار، وينقضّ [عليهم] كالفريسة في الليل!»[22].
يبحث نشطاء الحركة عن ديموقراطية يفتقدونها بينهم كغيرهم من التنظيمات والأحزاب السياسية. يعلن بعضهم أنّ مطالبهم ليست عزيزة ولا مستحيلة؛ «نريد إصلاحاً ديمقراطياً ينهي عهد الاستبداد والفساد، ويتيح إمكانية قيام نظام ملكيّ برلمانيّ، ولن نغادر الساحات إلا حين يستجاب لنا. هذه فرصة تاريخية لا تعوض»[23]. وآخرون منهم لا يراهنون على إصلاح ديموقراطي؛ بل يحسبون الحركة تلك القشّة التي يمكن أنْ تُفجّر ثورة شعبية تُنال بها الحقوق. هما رأيان من آراء أخرى داخل الحركة، مع العلم أنّ الاختلاف في الرأي لا يفسد للقضية وداً؛ بل إنّ الاختلاف في الرأي هو ما يمنح للتنظيم الحياة والحيوية داخلياً ومع الأغيار. حين يبادر النظام إلى ضرب الحركة في مقتل واحتواء الوضع، يَخرُج بخطاب مضمونه تنظيم استفتاء في شأن إصلاح دستور البلاد. لقد جيّشت الدولة كل إمكانياتها لتبدأ مشاورات مع الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية والحقوقية في شأن التعديلات الممكنة، وجعلت على رأس اللجنة الاستشارية خبيراً في القانون الدستوري له خبرة في الموضوع وارتباط بالاتحاد الوطني لطلبة المغرب ذي التوجه اليساري، بهذا الإجراء أحرجت اليسار داخل الحركة وخارجها. نزل هذا الإجراء على الحركة كرجّة تكتونية امتحنت صلابة القبول بالرأي الآخر؛ الأمر الذي أخرج المُضمَر في النفوس من أنانيات فردية أو عقدية تأخذها العِزّة في التفرّد بالرأي وتعمل على إقصاء المخالف لها وإن كان من نواة التنظيم، ناهيك عمّن هو من خارجه أو مخالفٍ في التوجّه أو متسلّل من النظام. حدث هذا في حقّ أمجد حين أدلى برأيه في المشاورات الدستورية، والأمر ذاته حدث في حق المنتمين لأحزاب وتيارات أخرى.
وداعاً أيها الوهم الجميل العابر!
يتشكّل المجتمع من خليط متباين ايديولوجياً، الشيء الذي يكسبه غنىً وثراءً وتنوّعاً، وضرورة التساكن والتعايش تفرض نوعاً من التوافق. وما دامت الحركة بحراً واسعاً تسبح فيه كل أطياف المجتمع يمكنه أن يسع الجميع، كان لا بد من أجل هذا التوافق، الدعوة من داخل الحركة إلى التأكيد على ضرورة «التزام الاحتراز من إطلاق الأحكام السائبة في السياسة، وتحرّي التواضع والنسبية، والاعتراف بمساهمات الآخرين وأدوارهم، والتحرّر من أوهام التجاوز والتمثيل الحصري للقضية»[24]، إلى جانب الدعوة إلى إشراك الآخرين وتثمين مساهماتهم وعدم إقصائهم؛ لإنّ «الجماهير التي تنزل في مسيرات الحركة متنوعة المشارب والخيارات، وليست مبرمجة على موجة واحدة»[25]؛ ثم هو ردّ على المنتمين إلى بعض التيارات السياسية الذين يعدّون أنفسهم أصحاب حقّ من دون سواهم؛ وبالتالي فعلى كلٍّ «أن يسأل نفسه: ماذا يريد الآخرون، وكيف يفكّرون، وما الذي يستطيعونه، وماذا يمثلون، وأين ينبغي التقاطع معهم وأين ينبغي الافتراق؟»[26]؛ تساؤل يضع القاعدة الأساس للتوافق قصد المضيّ في الحراك الناجع. تبقى هذه نظرة موضوعية إن لم تكن وردية، والعمل المؤسَّسي أحوجُ إليها باعتبارها عتبة نهضة وتغيير. ثمّ «كلما [توسَّعتْ] دائرة العلاقات مع القوى الديمقراطية [توفّر] للحركة حزام أمانٍ أمْتن، و[صانتْ] استقلالية قرارها أكثر»[27].
يظهر للوهلة الأولى أن الأطياف التي تحضر التظاهرات عبر ربوع الوطن تشي بنوع من التوافق؛ لكن للواقع رأي ثانٍ، إذ التحالفات الحزبية لا تقوم على أساس المبادئ المرجعية للحزب أكثر وإنّما تقوم على ما يجنيه كل طرف من فوائد لصالحه أو لأمينه وخاصّته. فحين تقوم العلاقة بين التنظيمات على الغشّ المتبادل، أكيد أنّ العلاقة بين التّئِق والمَئِق لا ينجم عنها اتفاق. من ذلك قبول التحالف مع «الإقساط والبر» وهم على النقيض من الحركة. صحيح أنّ نشطاء هذه الجماعة يقومون «بدور فعّال. ومع أنّها ليست من اليسار، فلا أحد في الحركة يتحسّس منها»[28] لأنها تشارك الحركة نشاطاتها وتتقاطع معها في المواقف، من جهة. ومن جهة ثانية، فإنّ الحركة في حاجة إلى أنصارها للاستقواء بأعدادهم؛ فكان الموقف منها متأرجحاً «مرة تقول إنهم يريدون صهوة الحركة يعتلونها للوصول إلى المبتغى، وأخرى تقول إننا نريد جمهورهم نستقوي به!»[29]. أضف إلى ذلك، ترى الحركة أنّ «الجماعة لا تؤمن بالديمقراطية، عكس ما تدعيه، وتعتبرها لائيكية. ولديها منزع إلى احتكار التمثيل والحديث باسم الشعب، وتهاجم من يخالفوها وتتهمهم بموالاة المخزن. أما تيارات اليسار، وإن كانت هي أيضاً إقصائية، فلا خوف منها، ربما لأنها ضعيفة النفوذ. والأهم من هذا كلّه أن الجماعة لا تريد من الحركة أن تكون أداة ضغط لتحقيق التغيير والإصلاح الديمقراطي، بل تتوسّلها لتغيير نظام الحكم»[30].
أخلص إلى أنّ الحركات الاجتماعية هي خروج عن المألوف وتمرّد على السائد من الأوضاع الموبوءة رغبة في تغييرها ومحاربة الفساد، وهي بذلك تصبح في حوزة كل شرائح المجتمع من أقصاه إلى أدناه. لكن خنقها داخل إطار مؤسسي يصيبها بالشلل والفشل المحقّق، «إنّ مقتل هذه الحركات هو إقفالها في خيار سياسي من لون واحد، هو تخريبها. وكم من حركة في عالمنا المعاصر قضت تحت أنقاض هذا النوع من التفكير المغلق»[31]. وبالتالي «في وسعنا أن نصنع حركة أضخم جماهيرياً، وآمن سياسياً، لو اتسع صدرنا لخيارات أخرى داخل الحركة التقدمية والديمقراطية في البلاد»[32]. وعليه فإنّ «هذه اللوحة الخصبة من المواقف والخيارات هي ما يمنح الحركة ألقها، ويجعلها حركة لجميع الشعب، ويحمي حصة كل واحد فيها من احتكار أو استئثار مَن يبتغي احتكار الحركة، وفرض عقيدة سياسية واحدة عليها»[33].
……………………….
[1] صدرت رواية «الحركة» عن منتدى المعارف ببيروت في العام 2012، للمفكر والروائي المغربي عبد الإله بلقزيز. تتدثَّر، هذه الرواية، بغلاف أحمر اللون تتوسّطه صورة فتوغرافية معدلة لمتظاهرين في ساحة عمومية، كما تتألف من مائتين وأربعَ عشْرةَ صفحةً من القطع الصغير، وتتوزّع على أربعة فصول كما هي مرتبة في صفحة المحتويات:
- تقاسيم على مقام عشريني؛
- جدل؛
- أصداء وثرثرات؛
- رحلة الألف ميل.
* علال تباث شاعر من الدار البيضاء، نظم قصيدة: «اشهد يا حزيران في يومك العشرين» والتي ظلت تتغنى بها حناجر الجماهير في كل تظاهرة.
[2] إشارة إلى رواية المهدي بنونة: «أبطال بلا مجد: فشل ثورة 1963/1973)». ترجمة: على أيت احماد. (الرباط: منشورات طارق، 2005).
[3] إشارة إلى رواية لعبد الكريم جويطي، ثورة الأيام الأربعة. (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2021).
* مطلع قصيدة «في موسم الورد» للشاعر السوري عمر أبو ريشة (1910/1990).
[4] عبد الإله بلقزيز، الحركة. (بيروت: منتدى المعارف، 2012)، ص 196.
[5] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 17.
[6] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 72.
[7] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 72.
[8] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 200.
[9] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 16.
[10] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 36.
[11] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 36.
[12] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 12.
[13] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 12.
[14] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 28.
[15] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 29.
[16] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 19.
[17] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 25.
[18] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 29.
[19] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 28.
[20] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 24.
[21] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 25.
[22] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 10.
[23] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 17.
[24] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 50.
[25] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 101.
[26] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 50/51.
[27] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 60.
[28] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 58.
[29] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 157.
[30] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 159/160.
[31] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 102.
[32] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 102.
[33] عبد الإله بلقزيز، الحركة. ص 102.