الفارق بين أن تكون مهموما بأن يصبح الإبداع الروائى منطلقا لإبداع سينمائى مواز، وبين أن تكون مهموما فقط بالإختصار والحذف ، أما الذين شاهدوا الفيلم ولم يقرأوا الرواية، فلا شك أنهم أخذوا فكرة عن ( حكاية) الحب فى زمن الكوليرا ، وعرفوا بعض شخصياتها التى لا تنسى ، ولكنهم بالتأكيد لم يعيشوا العالم الذى أبدعه ” ماركيز ” ، وافتقدوا كثيرا من المشاعر والأحاسيس والمواقف التى سحقتها النظرة السطحية، والوقوع فى أسر الحكاية دون التعمق فى أسرار ما تعبر عنه . إنه فيلم يذكرك بما تفعله “هوليوود” فى الأعمال المأخوذة عن روائع الرواية العالمية، وليس بما تقدمه السينما الأوربية من معادل سينمائى، وفهم أعمق لنفس الروائع.
يجب فى البداية أن نعذر كاتب السيناريو ” رونالد هاروود ” لأن تحويل ” الحب فى زمن الكوليرا ” الى السينما ليس سهلا ، ولكنه أيضا ليس شيئا مستحيلا ..صحيح أن الرواية مثل أعمال ماركيز ( ولد عام 1928فى أركاتاكا فى كولومبيا وحصل على نوبل عام1982وتوفى عام ) تزدحم بالشخصيات ، كما أن مؤلفها من أعظم الحكائين على مر العصور ، ولذلك يسترسل فى السرد بسلاسة، وننتقل معه من صفحة الى أخرى لنكتشف فى النهاية أننا عشنا عشرات السنوات ، وصحيح أن ” ماركيز ” – وهو كاتب سيناريو أيضا – كان يعارض تحويل رواياته الى أفلام لأن ذلك يحصر الخيال المحلق الذى تقدمه ، ولكن الصحيح أيضا أن أعمال “ماركيز ” – مثل كل روائع الرواية العالمية – تعطى فنان السينما الحقيقى مادة درامية وإنسانية لا حدود لها ، والمشكلة تبدأ عندما يعتقد هذا الفنان أن دوره يقتصر على التلخيص والنقل، وليس التفاعل الخلاق مع الرواية والتعبير عنها، والتأمل فى أفكارها ومشاعرها ، وإذا كانت المسألة فى أمانة نقل الأحداث والحكايات فإن الأكثر أهمية فى رأييى أن تنقل روح هذا العالم اللاتينى الصاخب والملون الذى يجمع ببساطة ، وبدون أدنى شعور بتأنيب الضمير، بين إشباع مطالب الجسد، والفناء فى أسرار الروح ، والذى يجمع أيضا بين التدين المسيحى ، والإحتفاظ بتقاليد وثنية وبدائية .
روعة” الحب فى زمن الكوليرا “تحديدا فى أنها لا تشبه أبدا الأعمال الرومانسية التى تهرب من الواقع ، ولكنها تحكى عن أشخاص من لحم ودم وبكل نقاط ضعفهم وأمراضهم . الحدوتة فى الرواية والفيلم لا تتغير معالمها ، بل إن الفيلم يبدأ – مع الإختصار والتلخيص فى الحوار – بمشهد وفاة د خوفينال آربينو العبثى عندما يصعد الى الشجرة لإحضار الببغاء الخاص به، فيسقط على ظهره ليموت ، ثم ننتقل – مثل الرواية – للإستعدادات الخاصة بجنازة الطبيب الشهير بحضور أرملته العجوز فرمنيا داثا ، وعندما يسمع فلورنتينو آرثيا بوفاة د خوفينال يذهب الى أرملته لكى يكشف لها عن حبه ، وعن انتظاره للحظة وفاة زوجها من51عاما ، ولكنها تطرده بقسوة ، ثم تسمح لنفسها بالعودة الى خطابات فلورنتينو لتتذكر حكاية حبهما فى المراهقة . لا بأس من هذه البداية كحيلة لسرد وقائع الحكاية الغريبة المعقدة بين الأبطال الثلاثة : الزوج د خوفينال والزوجة فرمنيا والعاشق الأبدى فلورنتينو ، ولكن المشكلة أن كاتب السيناريو ” هاروود ” سيقوم تقريبا بتلخيص أحداث الرواية دون أن ينجح فى ” تضفير ” الوقائع ، ودون أن ينجح فى خلق بناء مواز لعالم ” فرمنيا ” وعالم “فلورنتينو ” ، ولذلك سيتحول الفيلم فى فترات طويلة منه الى ما يشبه الفلاشات السريعة وقصاقيص المشاعر والعواطف ، وسيهبط الإيقاع فى مناطق كثيرة ، وسيفشل المخرج فى اكتشاف العلاقة بين الأحداث المتوازية ، لذلك سيكتفى بالعرض المحايد ، باستثناءات قليلة مثل توظيفه الجيد لأغنيات بصوت ” شاكيرا ” الباكى ، وبكلمات عذبة وألحان مثيرة للشجن استخدمت فيها آلة الجيتار ، ومن أمثلة تلك الأغنيات ( آه ياحب .. أريد أن أذوب فيك ) ، وأغنية ( إننى أفكر فيك كل يوم ) . أسوأ ما فى هذا السرد التلخيصى للأحداث أنه جعل الإحساس بالزمن شديد الإفتعال، ولولا الشعر الأبيض وانحناءة الظهر، لما شعرنا أننا نستعرض حكاية حب طويلة عمرها نصف قرن بين سنوات القرن التاسع عشر ، وبدايات القرن العشرين .
كان ” فلورنتينو ” عامل تلغراف فقير يكتب الشعر . عندما كان فى سن الثامنة عشرة وقع فى غرام الجميلة فيرمنيا ابنة أحد تجار البغال الشرسين . كتب لها رسائل حب تبدأ بعبارة ” إلهتى المتوجة ” ، وعزف له الموسيقى على آلة الكمان أسفل منزلها ، وبدأت هى فى الإستجابة له بتشجيع من عمتها التى لم تتزوج . كان حبا أقرب الى المرض استمر أربع سنوات ، ولكن الأب الشرس رفض أن يكون عامل التلغراف زوجا لابنته، التى يطمح أن ترتبط بمن هو أكثر ثراء ومكانة . اختار الأب أن يصطحب ابنته الى أقاربهم فى مدينة بعيدة لمدة عام ، ولكن فلورنتينو كان يتبادل مع فيرمنيا برقيات الحب ، وبعد عودتها كانت نظرتها اليه قد تغيرت . قالت له فى قسوة :” لم يكن حبا.. كان وهما “. وكانت صدمة عمره .
أقسم فلورنتينو على أن يُخلص ل فيرمنيا الى الأبد ، وصمم على أن تكون قدره ، وأراد أن يصبح ثريا ليكون جديرا بها . فى الرواية سيحاول أن يستأجر أحد الغواصين النصابين ليبحث له عن ذهب السفن الغارقة ، وستحاول أمه أن تشغله بأن يعمل فى البواخر التى يمتلكها عمه ” ليو” ، وفى أولى رحلاته الطويلة ستتغير حياته ، وسيعرف لأول مرة الحب الجسدى ، وبعد أن كان يكتب رسائله الغرامية فى أحد بيوت الدعارة، دون أن يلمس واحدة من العاهرات ، أصبح يجد عزاءه فى الحب الجسدى ، وقرر أن يكتب أسماء عشيقاته حتى وصل عددهن الى 622إمرأة وفتاة ، ولكن كل ذلك لم يستطع أن ينسيه حبه الأول فيرمنيا . كان يتابع أخبارها ، وعرف أنها تزوجت من د خوفينال الطبيب العائد بعد دراسته فى باريس ، وعرف أنها أيضا أنجبت من زوجها، الذى أصبح من مشاهير المدينة لجهوده فى الرعاية الصحية ، وفى تنظيف المدينة الملوثة التى تهدد حياة السكان بالإصابة بالكوليرا، فى الوقت الذى يطاردهم فيه شبح الحرب الأهلية على فترات متقاربة . فيرمنيا – من ناحيتها – ستظل خمسين عاما غير متأكدة هل أحبت فلورنتينو أم أنه مجرد وهم كما قال لها والدها . زوجها الطبيب منظم، حياته العلمية تنتقل معه الى المنزل، فى مرحلة تالية سيخونها مع إحدى مريضاته، ثم يعتذرويبتعد عن العشيقة، سيتسرب الملل الى حياتها ، ستكلمه عن الحب فيحدثها عن الإستقرار . فى مرحلة الشيخوخة سيتشاجران لأتفه الأسباب ، ولكنها ستحزن عليه بشدة عند وفاته ، ثم سيظهر فلورنتينو، العجوز فى حياتها، ولكن بعد أن أصبح رئيسا لشركة ملاحة بحرية عملاقة، ورثها عن عمه .
فى الجزء الأخير من الفيلم والرواية أيضا ، سيصطحب فلورنتينو حبيية العمر فى رحلة بحرية ، وستتجاوب معه لأول مرة ليمارس معها الحب الجسدى، رغم أنهما تجاوزا سن السبعين ، وسيقترح هو على قائد الباخرة ألا يعودا الى المدينة ، ويكون الحل بأن يرفع البحار العلم الأصفر والعلم الأسود دلالة على وجود مريض بالكوليرا معهم، ترفض السلطات دخولهم فتعود السفينة بهم . تقول له فيرمنيا: “الى متى سنظل نذهب ونعود بالباخرة” ؟ ، فيرد عليها فلورنتينو: “مدى الحياة “. وهكذا يفتح موت الزوج الباب أمام حياة جديدة لكل من فيرمنيا وفلورنتينو، وهكذا يحمى علم الموت رحلة حب تأخرت أكثر من نصف قرن ، وهكذا أيضا يعبر الحب القرن التاسع عشر الى القرن العشرين عصر التقدم العلمى وثورة الحياة المادية . يقول ماركيز فى رائعته : “لقد عاشا معا ما يكفى ليعرفا أن الحب هو أن نحب فى أى وقت وفى أى مكان ، وأن الحب يكون أكثر زخما كلما كان أقرب الى الموت “. ولكن الحب لدى ماركيز لا يحلق فى الفراغ ، إنه حب يليق بالإنسان كما نعرفه، حب الروح وحب الجسد أيضا .
لقد تاهت المشاعر والأحاسيس التى جسدتها الرواية ، وسط تلك القفزات والأحداث المختزلة والحوارات المبتورة والشخصيات غير المكتملة التى قدمها الفيلم ، واحتلت قصص فلورنتينو مع عشيقاته مكانا بارزا، فبدا كما لو كان ملتمسا للعربدة وليس باحثا عن العزاء ، ولولا الأداء المتميز للنجم الأسبانى خافيير بارديم الذى لعب دور فلورنتينو فى كل مراحله باستثناء سنوات شبابه الأولى ، لما كان هناك شئ يمكن الحديث عنه، رغم الإمكانيات الضخمة المتوافرة ، ولكن من الذى قال إن الإمكانيات تستطيع وحدها أن تصنع عملا فنيا عظيما ؟!