الجُثَّةُ الأُولى لشريف رزق، وحَيَواتُهُ المَفقُودَة (استشرافُ تجليَّاتِ التَّجربة، ومدخلٌ للتَّأويل)

شريف رزق: الدولة المصرية غير معنية بالثقافة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.أحمد منصور

 منْ غيرِ المُمكنِ في مثلِ هذه الدِّراسةِ المُوجَزَةِ؛ بحُكْمِ المسَاحَةِ المُتاحَةِ للنَّشرِ، أنْ نتمكَّنَ منْ إجمالِ مُجْمَلِ مَا نَرَى وجوبَ التَّنويْهِ إليْهِ، ونحنُ نتحدَّثُ عنْ الشَّاعرِ المِصْريِّ المُبدعِ شريف رزق، مِمَّا يكتنزُهُ خِطابُهُ الشِّعريُّ إجْمَالاً، كمَا لا يُمْكِنُ- في مِثلِ هَذَا الموقفِ المُتعجِّلِ- اسْتيفاء تجلِّياتِهِ الإبداعيَّةِ المُتنوِّعَةِ الخَصِيبَةِ بالشِّعرِ واللُّغةِ والدِّلالاتِ، وقَضَايا الإنسَانِ والوجُودِ.

وعلى ذلكَ نتركُ للقلمِ أنْ يفيضَ فلا يستفيضُ ببعضِ الإشَارَاتِ القليلةِ، الَّتي تُشرِفُ على آفاقِ هذه الشِّعريَّةِ الباذِخةِ، دونَ أنْ تذهبَ لأعماقِ الاسْتكشَافِ، والَّتي تتطلَّبُ دِرَاسَةً مُطوَّلةً تُعْنَى بالتَّفاصِيلِ، وتستقصِي مَحَاورَ التَّجلِّياتِ وأبعادِهَا، وتبحُثُ عنْ تجلِّياتِ البِنَى الشِّعريَّةِ التَّشكيليَّةِ، واللغويَّةِ، والإيقاعيَّةِ، ومَسَاراتِهَا الدّلاليَّةِ، بما تكتنزُهُ منْ فلسَفَاتٍ صوفيَّةٍ وجوديَّةٍ غايَةٍ في التَّعقيدِ والثَّرَاءِ، حَوْلَ أسئلةِ الإنسَانِ وتجلِّياتِهِ الكونيَّةِ في الزَّمانِ والمَكَانِ، وبمَا ينفتَّحُ العالمُ الشِّعريُّ لشريف رزق على المُطلَقِ واللانِهائيِّ، تنفتحُ آفاقُ البحْثِ- كذلكَ- على اللانهائيِّ الَّذي اسْتغرَقَ فيه شاعرُنَا؛ فذهبَ ولم يَعُد، وَأصَابَ أقلامَنا بالرَّهبةِ مِنْ الوُلوجِ إلى عالَمِهِ مِنْ خلفِهِ، فآثرْنَا السَّلامَةَ بالاسْتِشرَافِ دُونَ الاسْتِكشَافِ.

وشريف رزق بالأصَالةِ شاعرٌ كبيرٌ مُتحقِّقٌ، ومُخلِصٌ لشِعرِيَّتِه ولِعالَمِهِ، على أنَّهُ بَرَزَ- في الأوسَاطِ الثَّقافيَّةِ – ناقدًا أكثرَ مِمَّا برَزَ شاعرًا؛ مِمَّا يُعَدُّ ظُلْمًا كبيرًا لشَاعريَّتِهِ الأصِيلَةِ المُتدفِّقةِ الخَصِيبَةِ والمُتمَيِّزَةِ، فلعلَهُ يُنْشِد في صَمْتٍ، أو قُلْ هو يكتُبُ ولا يُنْشِدُ؛ حيثُ لا نجدُهُ في المُلتقيَاتِ والمُنتديَاتِ إلاَّ ناقدًا فاعِلاً ناشِطًا مُبرَّزًا، بينَمَا لا يَعْرِضُ شِعْرَهُ على منصَّاتِ الإنشادِ؛ حتَّى لَيظُنَّ الكثيرونَ أنَّه أمْيَلُ للنَّقد منْهُ إلى الشِّعرِ؛ وذَلكَ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ اسْتغرَاقَهُ في الشِّعرِ لا يُعادلُهُ اسْتغرَاقٌ؛ حيثُ يفنَى فيه بالكُلِّيَّةِ، ولا يبقى فيْهِ شيءٌ لشيءٍ سِوَى الشِّعرِ.

ولكنْ يبدو منْ الوَاضِحِ أنَّ شِعْرَهُ الغريقَ في أعْمَاقِ الفلسَفَةِ لا يُناسِبُ مَنَصَّاتِ الإنشَادِ، كأنَّ شِعرِيَّاتِ الأحْوَالِ والمَقَامَاتِ العُلويَّةِ التأمُّليَّةِ لا ينبغي أنْ تُقالَ على عُمومِ الأشْهَادِ؛ فلعلَّهُ لذلكَ اكتفى بتوثيقِهَا في دواوينِهِ الشِّعريَّةِ، المُتواشِجَةِ المُتماشِجَةِ في إطارِ تجربَةٍ فِكريَّةٍ شِعريَّةٍ فنيَّةٍ مُتَّسقةٍ، ما يعني أنَّ هذا التوجُّهَ الفلسفيَّ الوجوديَّ هو مشروعُهُ الفِكريُّ والفنيُّ الَّذي يطرحُهُ بامتيازٍ وتميُّزٍ، ولا يكادُ يُشاركُهُ فيْه أحدٌ منْ الشُّعرَاءِ المُعَاصِريْنَ في مَوَاقِعِ نُجومِه، وبُرُوجِ سماواتِه، بمَا له منْ خُصوصِيَّةِ في البرازِخِ الأشَدِّ وَحْشةً وهَوْلاً مِن الشِّعرِ الكونيِّ؛ الذي يتطوَّحُ في أعماقِ الهُيُولِ الصَّمَديِّ، كأنَّهُ ينشأُ في النُّقطَةِ الصَّمَّاءِ الَّتي لا بَدْءَ فيْهَا ولا انْتهَاءَ، وكلُّ شيءٍ فيْهَا ولا أشْيَاءَ، غموضًا مُكثَّفًا في الغموضِ، حيثُ لا حَياةَ ولا مَوْتَ، ولا زَمَن، ولا شَيءَ غيرُ تجليَّاتِ الأرْوَاحِ في أقانِيمها الحَيَّةِ؛ التي تتجلَّى على مقادِيرِهَا قبلَ أنْ تكونَ، وقبلَ أنْ يكونَ شيءٌ.

هذا الغموضُ سببُهُ الغَوْصُ في حَدٍّ كونِيٍّ يسبقُ الحُدودَ، يتجاوزُ المادةَ والزَّمنَ ومَنطِقَ الوُجودِ الكونِيِّ؛ إنْ كانَ لهُ مَنطِقٌ، ويبتكِرُ طريقَةً مُدْهِشَةً في اسْتبطَانِ الذَّاتِ الإنسانيَّةِ في تجليَّاتِ النُّشُوءِ والوُجُود والفَنَاءِ، مِن قَبْلِ القَبْلِ، إلى بَعْدِ البَعْدِ، في مُغامَرَةٍ تأمُّليَّةٍ قاسِيَةٍ، قادَتْ إلى ذلكَ التَّهشُّمِ والانْسِحاقِ المُروِّعِ للشَّاعِرِ والإنسَانِ، شريف رزق.

وهو مُدْرِكٌ لوحشِيَّةِ عالَمِهِ؛ بَيْدَ أنَّهُ يُدينُ بكلِّ شِعْرِه لهذِهِ الوحشِيَّةِ والوَحْشَةِ القاسِيَةِ المدمِّرة، كمَا يُدينُ لهما بفكرِهِ وتجلياتِهِ النَّفسيَّةِ والرُّوحيَّةِ، وبنجاحِهِ شاعرًا مَسْمُوتًا، وبِفلاحِهِ إنسَانًا مُتصوِّفًا مُسبِّحًا ومتأمِّلاً في عَجَائِبِ الخَالقِ والمَخْلُوقِ؛ وعلى ذلكَ فإنَّ مَا يَدينُ بهِ منْ ذلكَ سيكونُ منْ مثاقيلِ أعْمَالِهِ على مَوَازيْنِ الجَزَاءِ، ومنْ عَلامَاتِ مَجَازاتِهِ في رحْلَةِ الخلودِ الَّتي يشتهيهَا للخَلاصِ، بريئًا منْ خُسُوفاتِهِ الدَّهرِيَّةِ السَّحيقةِ والسَّاحقةِ.

وليسَ لمِثْلِ هذا الشَّاعرِ المُتصوِّفِ العَليمِ الزَّاهِدِ أنْ ينظُرَ لِمَنَصَّاتِ البُروزِ وأضْوَاءِ الشُّهرَةِ والتَّكريمِ البَشَريِّ لمُنجَزِهِ الفنِّيِّ الخَلاَّقِ؛ فهو شاعرٌ زاهدٌ، عَلِمَ أنَّ هذه الشِّعريَّةَ الغارقةَ في الفلسَفةِ والتَّأمُّلِ الكونيِّ الحارقِ، لن تجِدَ في زمانِنَا مَنْ يحتفِيَ بها حقَّ الاحتفاءِ، أو ينتَبِهَ لهَا كمَا ينبغِي؛ فآثرَ عُزلَتَه شاعرًا، وداوَى جراحاتِهِ باحْترَافِ النَّقدِ؛ ليبقى حيًّا في رحبةٍ منْ رِحَابِ الإبداعِ، وإلا قُتِلَ مَجْهولاً مَجْحُودًا.

ولعلَّ هذِهِ الإشَارَة بعضًا من التشظيَّاتِ الرَّهيبَةِ؛ الَّتي تفصِمُ العُرَى الكونيَّةَ لشريف رزق، والمَجَالُ- كمَا أشرْنَا- لا يتَّسعُ للاسْتشهَادِ مِنْ شِعْرِهِ بمَا يكفِي؛ ولكنْ تكفِي الإشارَةُ بخطفةٍ جامِعَةٍ لنقولَ بكلِّ ثقةٍ أنَّ شريف رزق مَا هُو إلا التشظِّي والانسحاق، وأنَّ كلَّ شِعرِهِ إنَّمَا يُؤكِّدُ هذِهِ الحقيقَةَ، ولعلَّ منْ قبيلِ الامْتثالِ لضَرورَاتِ التَّطبيقِ ورَبْطِ النَّظريَّةِ بالاسْتدلالِ، أنْ نُشيرَ- مثلاً- لقولِهِ بشِعْرِ النَّثرِ، منْ ديوانِهِ: “حَيَوَاتٌ مَفْقُودَةٌ “:

“…/ وَلمْ أزَلْ، فيمَا أُواصِلُ أدَاءَ الدَّورِ المُحَتَّمِ بِنفْسِ الهدوءِ، في كلِّ مَكَانٍ، والحَقيقَةُ الَّتي لا لَبْسَ فيْهَا هيَ أنَّني الآنَ لا أحدَ، الـ لا أحدُ الأكيدُ، وأنَّني أتقبَّلُ بمُنتهَى الآليَّةِ والاسْتسلامِ، هذَا الوَضْعَ الأليْمَ، وأنَّ عليَّ، إلى النِّهايَةِ، مُوَاصَلةَ أدَاءِ الدَّورِ باقتدار..”(1)

ففي ديوانِهِ “حَيَوَات مَفْقُودَة”، يصِلُ شريف رزق إلى ذِروَةِ الإبداعِ الفنيِّ عن التشظِّي الإنسَانيِّ في الهُيُولِ الوجوديِّ الجبَّارِ؛ لكنَّهُ هو الَّذي ألقى بنفسِهِ في التَّهلُكَةِ، حينَ اخْترَقَ حُجُبَ الزَّمانِ والرُّؤيا؛ ليصِلَ إلى لا زمكانيَّتِهِ، ولا تجلِّيهِ البشريِّ؛ ليصِلَ إلى كُنْهِهِ، قبلَ أن يكونَ هنا الآنَ كيفَمَا يكونُ ونكونُ؛ لذلكَ وَصَلَ إلى العدميَّةِ في الوجودِ، وتشظَّى بين تناقضَاتِهِ وأقانِيمِهِ الَّتي كانتْ، وتكونُ، وستكونُ، فضاعَتْ أحَدِيَّتُهُ، فَشُبِّهَ لَهُ أنَّهُ لا أحَدَ؛ كمَا قالَ في المقطَعِ السَّابقِ، وكمَا يبدو لنَا في كلِّ شِعْرِهِ القاسِي، والبديعِ.

لذلكَ لا نستغرِبُ منْهُ غُيُوماتِ غموضِهِ؛ فنكشِفُهَا وَاضِحَاتٍ جليَّاتٍ، ونحنُ نتوسَّلُ تأويلَها بِمَنطِقِها، ونحنُ نتجشَّمُ استشرَافَ هذِهِ العَوَالمِ ، لعلَّنا نجدُ شريف رزق، الَّذي لا يستطيعُ ولنْ يستطيعَ أنْ يسترجعَ نفسَهُ، مِن حرائقِهِ الَّتي تتطوَّرُ؛ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ مِن أجوازِ هُيامِهِ، أوْ كمَا يقولُ بذاتِ الدِّيوانِ:

“لا شَكَّ أنَّ كثيرينَ، مِن قَبْلِي، عَاشُوا، في هذا الجَسَدِ، وأنَّني، بالتَّأكيدِ، عِشتُ قبلَ هذا الجَسَدِ فِي كائِناتٍ أخْرَى، مِنْ قبلُ، صَحيحٌ أنَّني لا أسْتطيعُ أنْ أتذكَّرَ مِنْ حَيَواتِي المفقُودةِ، على وَجْهِ الدَّقَّةِ، أشياءَ، ولكِنَّني على يقيْنٍ بأنَّ عديديْنَ مِنِّي ذهبُوا، على التَّوالي، وبقيتُ وَحْدِي، وأنَّهم يتوافَدونَ عليَّ ولا أرَاهُمْ، وَمَعَ هذا فلمْ أزَلْ قادرًا على الحَيَاةِ، وَأحْيانًا أتطلَّعُ إلى صورٍ قديمةٍ لي، في مُنَاسَباتٍ مُخْتلفةٍ، وَأسْتغرِبُها، مُتأكِّدًا مِنْ أنَّها لأشْخَاصٍ وهميِّينَ، ويُخيَّلُ إليَّ في كثيرٍ أنَّني لمْ أظهَرْ فِي أيِّ صورةٍ لي، والغريبُ أنَّي كُلَّمَا عثرتُ على كِتابةٍ لشريفٍ مِنِّي، تأكَّدتُ أكثَرَ أنَّ حَرَائِقِي لمْ تَزَلْ هِيَ هِيَ، وأنَّ حَرَائِقِي الحَاليَّةَ تتطوَّرُ، تدريجيًّا، صُعودًا إلى مَا بدَّدنِي، مِرَارًا، مِن عُهُودٍ، بائدةٍ، شَريفًا، بعدَ شَريف.”(2)

وهذِهِ اللغةُ الشِّعريَّةُ النَّازفةُ، توسَّلَتْ بإيقاعِ وَاسْترسَالِ النَّثرِ، بديلاً عنْ آليَّاتِ النَّظمِ والإنشادِ، والتَّرتيلِ والتَّبتيْلِ، وموسيقى الشِّعرِ النَّظيمِ أو التفعيليِّ، قرينِهِ الأكثرِ انْدِفاقًا وانطِلاقًا خَارجَ الأُطُر، إنَّ توسُّلَ النَّثرِ هُنَا نابعٌ – باقتدارٍ- منْ طبيعَةِ التَّجربَةِ؛ الَّتي خَرَجَتْ عنْ منطقِ كلِّ شيءٍ، فمَا لهَا أنْ تلتزِمَ منطقَ الشِّعرِ المَوْرُوثِ، أوْ المُسْتحدَثِ، أبنيَةً وَرُوحًا فنيَّةً ؛ لهَا منْ آثارِ موروثِهَا جماليَّاتٌ يُعرَفُ بهَا الشِّعرُ منْ مبانيْهِ، قبلَ مَعَانيْهِ؟.

ولكن شريف رزق ماهرٌ بأشكالِ الشِّعرِ المُختلفةِ، وله تجاربُ شِعريَّةٌ سَابقةٌ خَضَعَتْ للإيقاعَاتِ التَّفاعيليَّةِ، كمَا في ديوانِهِ: “الجُثَّةُ الأُوْلَى”؛ الَّذي جَاءَ نصًّا شِعرِيًّا مُطوَّلاً على دَفَقَاتٍ تطولُ وتقصُرُ على إيقاعَاتِ بحْرِ الكامَلِ، في تجربةٍ مُغايرةٍ لتجربةِ حَيَواتِهِ المَفْقُودَةِ؛ ففي الأخيرةِ تمامُ الانشِطَارِ، وتمام التَّشظِّي، حتَّى الفَنَاءِ، وفيها زَاوَجَ بينَ ضَرُورَاتِ الدِّلالةِ وبيْنَ آليَّاتِ التَّشكيْلِ؛ فجَاءَ الدِّيوانُ عَجِيبًا وَمُثيرًا في أبنيتِهِ الكُلِّيَّةِ والجُزئيَّةِ.

أمَّا ديوانُهُ: “الجُثَّةُ الأُوْلَى” فهو- فيمَا أتصوَّرُ- نصٌّ وَاحِدٌ مُطوَّلٌ، يتكوَّنُ منْ دفقاتٍ مُتتابعَةٍ، ومُتناميةٍ، كتبهَا على مَدَارِ شهورٍ؛ بينَ (يونيه2001م ، وأغسطس 2002م)، لكنَّهُ هشَّمَ البِنيَةَ الكُلِّيَّةَ للنَّصِّ تهشيمًا يُقابِل تَشَظِّيه هُوَ، وتَشظِّي أوقاتِ كتاباتِه، وتشظِّي حالاتِه وأحوالِه، وكانَ منْ المُمْكنِ أنْ يبتَنِيَ الدِّيوانَ بالبِنَى المُعتادَةِ في مثلِ هذِهِ النُّصوصِ، بهيئَةِ المقاطِعِ المُتواليَاتِ، سُلسِلَتْ أمْ لَمْ تُسَلسَلْ، ولكنَّهُ حَوَّلهَا إلى شَظَيَاتٍ مُتناثرَاتٍ، لكلٍّ مِنها شَكلُ تدوينِهَا؛ فبعضُهَا لوحَاتٌ، ومُربَّعاتٌ، وبعضُهَا مقاطِعُ نثريَّةٌ تمامًا، أو سطورٌ يتيمَةٌ في فضَاءِ البياضِ، وبعضُهَا سُطورٌ مائلةٌ، وبعضُهَا مَمْحُوٌّ في فراغِ الصَّفحَةِ أوْ فرَاغِ أحَدِ أو بعضِ المُربَّعاتِ أوْ المُسْتطيلاتِ، تلكَ الأشْكالُ الهندسيَّةُ الَّتي لابُدَّ أنَّهَا تُشِيْرُ للأُطُرِ، والنِّظامِ، والحُدودِ، كجزءٍ لا يتجزَّأُ منْ هندسَةِ الكونِ، رَغْمَ هَذَا الهُيُولِ التَّشَوشِيِّ؛ البعيدِ تمامًا عنْ مظهريَّة النظام، بيدَ أنَّهُ وكلّ شيءٍ بِحُسْبَان.

ولا أعْلَمُ منْ تجارِبِ الشِّعرِ التَّشكيليِّ المِصْريِّ تجارِبَ بهذَا العُمْقِ، رُبَّما يتَّضحُ هذا الملمحُ عندَ الشَّاعِرِ حسن طِلب؛ إلاَّ أنَّ شريف رزق يُعَدُّ هو الأكْثرُ إيغالاً في إبدَاعَاتِ الشِّعرِ التِّشكيليِّ المِصْريِّ، ويستحقُّ بهَذَا الدِّيوانِ أنْ يكونَ وَاحِدًا منْ أهمِّ أسَاتذةِ هذِهِ الطَّريقَةِ؛ كونَهُ نفَّذَهَا بنجاحٍ وبأشكالٍ تتَّفِقُ وماهيَّة الشِّعرِ، ومنطقِهِ السَّوِيِّ والجَامِحِ مَعًا.

ولعلَّ ديوان: “حَيَوات مَفْقُودَة”؛ المُغْرقِ في أجْواءِ الحَدَاثِةِ حتَّى مَا وَرَاءَ جنونِ الإبداعِ الجَامِحِ، في سَعيْهِ الحَمِيْمِ للاكتشَافِ وَالمُفارقَةِ؛ لَيدلُّ على عُمْقِ ثقافةِ الشَّاعرِ بيْنَ القديمِ والجديدِ، والشَّرقيِّ والغَربيِّ، واطِّلاعِهِ الوَاسِعِ على جديْدِ الغَرْبِ، إلى جانِبِ جديْدِ العَرَبِ وقديمِهِمْ، واسْتيعَابِهِ وهَضْمِهِ، قبْلَ أنْ يقدِّمَ نتاجَهُ الإبداعيَّ نقيَّ الصَّوتِ، صَافيًا خَالِصًا بالرُّوحِ الشِّعريَّةِ لشريف رزق، بعيدًا عنْ مجرَّدِ الافتتانِ بالتَّجارِبِ الجديدَةِ ومُحَاولةِ تمثُّلها لمجرَّدِ المُغايرَةِ أوْ المُسَايرَةِ، ولقدْ كَتَبَ شريف رزق منْ قبلُ دِيوَانًا تفاعيليًّا فخيمَ اللغةِ والإيقاعِ، كانَ يُرشِّحَهُ لأنْ يكونَ منْ سَدَنَةِ اللغَةِ الإيقاعيَّةِ المُخصَّبَةِ بعَبَقِ التُّرَاثِ وتجلِّيَاتِ الصُّوفيَّةِ العربيَّةِ، ولو استمرَّ على هذَا الأدَاء لكانَ له شَأنٌ في ذلكَ؛ كأربابِ هذِهِ الطَّريقةِ الكِبارِ، ومنهم محمَّد عفيفي مطر، على سبيلِ المِثالِ، بمَا بينهُمَا منْ تماثلِ بكارَةِ اللغَةِ الَّتي كأنَّهَا لمْ تُسْتَعْمَلْ قبلَهُمَا، والإيقاعَاتِ الَّتي تلتحِمُ بحَالاتِهِمَا.

وقبلَ أنْ أتحدَّثَ عنْ دِيوانِ: “الجُثَّة الأُولى”، أودُّ أنْ أبدأَ هذِهِ المرَّةَ باسْتشهادٍ يفتحُ أمَامَنا مَا نُجمِلُه نظريًّا دُونَ التَّحليْلِ والتَّفصِيْلِ؛ لِضِيْقِ الفُرْصَةِ للبيانِ الكافِي، فمِمَّا يقولُهُ شريف رزق في: “الجُثَّة الأُولى”، منْ مقطَعٍ بعنوَانِ: “جَسَد الغائِبِ”:

“وَرَأيْتُ نَهْرًا نازِلاً منْ نُقطَةِ النُّونِ المُضيئةِ في المَدَى،

وَرَأيْتُ وَجْهَكِ دَائرًا في غَيْبَتِي، صِحْتُ: امْنَحِيْنِي بُرْهَةً،

لأجِيءَ منْ طُرُقِ الفَنَاءِ، أصِيْرُ جِسْمِي، وَامْنَحِيْنِي بُرْهَةً،

لأَجِيءَ منْ شَجَرِ الخَفاءِ، أنَا المَحَطَّاتُ البَعِيْدَةُ، في دِمَاءِ أبي المُوَزَّعِ في مَتَاهَاتِ الهَوَاءِ، تجَوَّلِي فيْه، اسْمَعِي شَجَرِي، انْظُرينِي حَيْث لا أنَا طالِعٌ، وَتمهَّلِي، ثمَّ اتبَعِي شِيْنِي وَرَائِي، وَارْحَلِي فَوْقَ الهَوَاءِ، وَجَمِّعِي صَدْرِي، المُبَعْثَرِ في سَمَاوَاتِ اخْتِفَائِي، لَمْلِمِي يائِي، اصْنَعِي فائِي بِمَائِي، طَالِعِي في نُقْطةِ النوُّنِ احْتِرَاقِي، وَارْكُضِي نَحْوِي وَرَائِي.”(3)

لقدْ اسْتطَاعَ شريف رزق في هذا الدِّيوانِ أنْ يُلملِمَ شِينَ الشِّعرِ وَرَاءَهُ، وهُو يبحَثُ عنْ شِينِهِ وَرَائِهِ في شَظَايَاه الكونيَّةِ، ولكنَّهُ كانَ في هذا الدِّيوانِ مَأخوذًا بحالٍ غيْرِ أحْوَالِ حَيوَاتِهِ المَفْقُودَةِ، وإنْ كانَ الدِّيوانَانِ في حالِ الإطْلاقِ، أما حالُهُ المختلِفةُ حيْنَ حدَّثنا عنْ الجُثَّةِ الأُولى، فكانتِ انْدِفاقًا جاريًا في مَسَارِبِ البَحْث عنْ يَائِهِ وفَائِهِ، على خَفَقَاتِ النُّونِ الدَّافِقِ؛ فجاءَتْ التَّجربَةُ مُوفَّقةً في جَرَيَانِهَا على إيقاعِ بحْرِ الكامِلِ، الفخيم السَّلسِ الجَارِي، المُتناغِمِ حِينًا، والمُتوتِّرِ حينًا، بيْدَ أنَّ ذِروَةَ التوتُّرِ الشِّعريِّ حلَّتْ في تشكيْلِ البِنَى التَّركيبيَّةِ والمَجَازيَّةِ، والتَّهويْم الدّلاليِّ الخَلاَّقِ؛ الَّذي يُشْبِهُ الهَذَيَانَ عِنْدَ مَنْ لا يعلمونَ، ولكنَّهَا لغةُ الجَذْبَةِ الصُّوفيَّةِ في مَهَامِهِ الفَنَاءِ.

ولعلَّ عوالمَ هَذَا الشَّاعرِ، وطاقاتِهِ الشِّعريةَ البَاذِخَةَ، تتبيَّنُ لنا مُنْذُ الوَهْلَةِ الأُولى، ونحنُ نتهيَّأُ للاسْتشرافِ، فإذَا بنا ننزلقُ إلى مَهَاويهِ؛ لنستغرِقَ في أتونِ الوَجْدِ الحَارِقِ؛ ففي أوَّلِ مقاطِعِ الدِّيوَانِ، بعنوانِ: “مِنِّي خَرَجْتُ، وفِيَّ أمْضِي، نَحْوَ أعْضائِي، وَحِيْدًا”، يقول:

“هذَا أنَا، لا أنتمِي لِسِوَايَ، لي جَسَدٌ وَحِيْدٌ، في صَبَاحِ المَوْتِ، مَوفُورٌ، على الأشْهَادِ، يبزُغُ، طاعِنًا في الحُلْمِ، مَوْفُورَ الشَّظايَا، إنَّني جَسَدُ المَفاوِزِ والكنوزِ، هَتَكْتُ سِرِّي لِي، وَأشعَلْتُ الفَضَاءَ بصَرخَتِي، وعبَرتُ مِنِّي، شَاهِقًا، كقذِيفَةِ الأعْمَاقِ، بيْنَ مُمَرَّدَيْنِ، وَلا شَبيهًا لِي، أنَا بَدءُ السُّلالةِ، وَانتهاءُ الدَّهرِ، أشْرِعَتِي مُواتِيَةٌ، ولِي مَجْدُ الغُبَارِ، وَشَهْوةُ الجَبَلِ المُضَوَّإِ في انْفِجَارِ الحُلمِ، مُخْتالٌ، وَلِي شِعْرُ الضَّوَارِي، وَانْتِفاضُ أوابِدِ الأطْيَارِ في حَلَكِ المَدَى، مِنِّي خَرَجْتُ، وفِيَّ أمْضِي، نَحْوَ أعْضَائِي، وَحِيْدًا، فَاسْتَفِيضِي يا مِيَاهَ البَحْرِ، وَازْدَردِي البَلاقِعَ، إنَّ عَرْشِي بازِغٌ، وَالمَاءُ أوَّلُ مَا يكونُ.”(4)

تِلكَ هيَ اللغَةُ في بكورتِهَا، مُضَمَّخَةً مُخَصَّبةً بعَبَقِ الوجودِ، تبدو كأنَّهَا اللغَةُ الخَامُّ الَّتي لمْ يمسسْهَا إنسٌ منْ الشُّعرَاءِ أوْ جَانٌّ، مكتنِزَةٌ بكلِّ رِيْحِهَا وأريجِها، تفوحُ بأمْشَاجِهَا الرَّكِيمَةِ ثريَّةً بالمَعَانِي الفخيمَةِ، وبمَا ارْتَصَفَتْ فيْهِ منْ المَبَاني والتَّراكِيْبِ الَّتي لهَا سِمَاتُها كَذلكَ.

إنَّهَا تراكيبُ ومباني سَهلةٌ سَلِسَةٌ، لا تَرَى فيْهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا، ولا تعقيد ولا تقعير، على ما فيْهَا منْ التَّشابُكِ والتَّماشُجِ بيْنَ البِنَى الصُّغرَى الثَّانويَّةِ، والبِنَى الكُبرَى الكُلِّيَّةِ؛ حيثُ المَقْطَعُ الشِّعريُّ كلُّهُ – وبمنطِقِ التَّماسُكِ النَّحْوِيِّ التَّركيبيِّ- كلُّهُ جملةٌ واحدِةٌ كُبرَى تامَّةٌ، لا يُمْكِنُ الوقوفُ عند أيِّ جزءٍ فيها، حتَّى تتمَّ مَبنًى ومعنًى عِندَ آخِرِ المقطَعِ؛ فهيَ جُمْلةٌ شِعريَّةٌ وَاحِدةٌ، يصِحُّ أنْ نُسمِّيَهَا “الجُمْلَة المَقْطَع”، أوْ “الجُمْلَة النَّصّ”، على أنَّهَا تتكوَّنُ منْ عددٍ منْ الجُمُلِ الصُّغرَى البَسِيطَةِ السَّهلَةِ، وَاضِحَةِ المَعَالمِ، لا لبْسَ في التَّعرُّفِ على مَوَاقِعِ الكَلمَاتِ فيْهَا؛ فالجُمْلةُ قصِيرَةٌ وَمُباشِرَةٌ، ومَحْدودَةٌ ومُحدَّدةُ العناصِرِ، كأنَّهَا الجُمَلُ الخَامُّ، كالألفاظِ الخَامِّ، وعلى ذلكَ نجِدُ الجُمْلةَ الإسميَّةَ المُقتصِرَةَ على عُنْصُريْ الإسْنَادِ: (المُبْتدأ، والخَبَر)، وإنْ زادَ فقليْلٌ، نحْوَ:(هَذَا أنَا)، و: (وَلا شَبيهًا لِي)، و: (أشْرِعَتِي مُوَاتِيَةٌ)، و: (وَلِي مجدُ الغُبَارِ)، كذلكَ في الجُمْلةِ الفِعليَّةِ؛ حيثُ تقتصِرُ على عُنْصُريْ الإسْنَادِ (الفِعْل والفَاعِل)، وإنْ زِيْدَتْ فقليلاً بالمُكَمِّلاتِ الضَّروريَّةِ (كالمفعولِ بِهِ، أو شبه الجملة الظرفية)، نحو: (لا أنتمي لسوايَ)، (هَتَكْتُ سِرِّي لِي)، (مِنِّي خَرَجتُ)، (وفِيَّ أمضِي، نحوَ أعضائِي، وحيدًا).

وعلى ذَلكَ كلُّ شِعْرِهِ، حيثُ الجُمَل القَصِيرَة البسِيطة التَّركيب، الوَاضِحة التَّأويل النَّحويِّ، تُناسِبُ مَقامَ الشِّعرِ الصُّوفيِّ والوجوديِّ، حتَّى لا تكونَ عائقًا وحَاجِزًا باتِّجاهِ التَّأويلِ الدّلاليِّ في مَتَاهَاتِ السَّبَحَاتِ والشَّطحاتِ المُغْرقَةِ في الصّورِ والمَوَاقفِ والأحْوَالِ العَجيبَةِ المُدْهِشَةِ، والمُفارقاتِ للمَنْطِقِ الأرضِيِّ والمَاديِّ السَّاذَجِ.

“وَقَفَزْتُ منْ جَسَدِي، وَأضْرَمْتُ الحَرَائِقَ في جُمُوعِ الخَيْلِ؛ فَانْفَطَرَ الظَّلامُ، وَدَوَّتْ الأشْبَاحُ، فَجَّرتُ البَوَارِجَ؛ فَاسْتَفَاضَتْ منْ عُروقِ المَوْجِ أمْشَاجٌ منْ الوَحْشِ الكَظِيْمِ، تَسَاقَطَتْ شُهُبٌ، وَضَمَّخَنِي لَهِيْبُ الغَيْمِ، وَانْفَجَرَتْ عُرُوقُ الأرْضِ بالأشْهَادِ، هذِي سَوْرَةُ الطُّوفَانِ تَجْرِفُ مَا تَنَاثَرَ منْ مَنَازِلَ في فَضَاءِ العَصْفِ، ليْسَ على البسِيْطَةِ غَيْرُ بارِجَتِي على مَاءٍ يفورُ.”(5)

على أنَّ بساطَةَ التَّراكِيبِ وسُهُولتَهَا، في مَا قرأناهُ منْ بعضِ شِعْرِهِ ، لَتُؤكِّدُ أنَّ البسَاطَةَ قد تبدو شَرَكًا كبيرًا، يبتلعُ المُتلقِّي غَيْرَ الوَاعِي، عِنْدَ التَّفاعُلِ مَعَ مِثلِ هذِهِ النُّصوصِ المِيْتَاكونيَّةِ، والمِيْتَافيزيقيَّةِ، والمِيْتَاشِعرِيَّة؛ فاللغَةُ البسِيطةُ لغةُ أخصِّ الخُصوصِ، وهُمْ فوقَ الخَاصَّةِ، وتحتاجُ للتَّعرُّفِ عليْهَا إلى طبقَةٍ منْ العَارِفيْنَ بأسْرَارِ مِثلِ هذِهِ الشِّعريَّةِ، وذَلكَ العَالَمِ الوجودِيِّ العَمِيقِ؛ الَّذي يبتلعُ العامَّةَ، وقد يسمحُ لبعضِ الخَوَاصِّ بالسِّبَاحَةِ، وقد يسمحُ لبعضِ خَوَاصِّ الخَوَاصِّ بالعُروجِ إلى بُطونِ الدِّلالاتِ، والفوزِ ببعضِ لآلِ ولآلئِ الغَوْصِ الرُّوحِيِّ فيْمَا وَرَاءَ الحُجُوب.

ويُخطئُ مَنْ يتصوَّرُ أنَّهَا رِحْلةٌ في المَعَارجِ العُليَا وَحْدَهَا، إنَّمَا هيَ رِحْلةٌ في حَلزونَاتِ الكَوْنِ المُطلَقِ، عَبْرَ الأزْمِنَةِ، وعَبْرَ الأمْكِنَةِ؛ الأرضِيَّةِ منْهَا والعُلويَّةِ، الأزليَّةِ منْهَا والأبديَّةِ، المَاضَويَّةِ والآنيَّةِ، والآتيَةِ المُسْتقبليَّةِ، مَعًا في آنٍ وَاحِدٍ، كأنَّمَا تحوَّلَ الكونُ كلُّهُ إلى نُقْطَةٍ، أو إلى حَيِّزٍ مُتتامٍّ، لا أوَّل له فينتهِي، ولا آخِرَ له فينعدِمَ، إنَّهَا رِحْلةٌ في الآنيِّ الحَالِيِّ، انطلاقًا منْ السَّحيْقِ الأزليِّ، وطِمَاحًا إلى المُسْتقبلِيِّ المَأمُولِ، وكلٌّ يُوحَى بِهِ بالإلهَامِ والرُّؤيَا.

 

الهَوَامِشُ

(1) شريف رزق – حَيَوَاتٌ مَفْقُودَةٌ – مكتبة الأسرة، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب – (طبعة ثانية) – 2011 – ص: 19.

(2) حَيَوَاتٌ مَفْقُودَة – سابق – ص: 39.

(3) شريف رزق – الجُثَّةُ الأُولى – الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – مارس 2001 (ويُشيْرُ الشَّاعرُ أنَّه أنْجَزَ هذا القَصِيدَ فيمَا بينَ: 1990 – 1991) – ص: 53.

(4) الجُثَّةُ الأُولى – سابق – ص: 9.

(5) الجُثَّة الأُولى – سابق – ص: 13.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم