الجسد.. مكان حيث ينبت البشر ويحبّون

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

الجسد.. المذنب التاريخى، أول من يُدفع به إلى المشنقة والنيران ويُطلق عليه الرصاص، كأنه عار، لكنه ولحسن الحظ، العار الذى نحمله جميعًا، أو يحملنا، ولا يمكن التخلص منه، هو يحب ما يفعله: إذا كنت أنا جالب اللعنة، فأنا أيضًا جالب المتعة.

هو ليس جالب اللعنة وفقط كما يُشاع عنه، ولا جالب المتعة وفقط كما يشيع عن نفسه.

بدون الجسد يظل الإنسان مجرد فكرة غير واقعية لا وجود لها، روح حبيسة الفراغ، فى الوقت نفسه فإن الجسد مخلوق فان، والروح هى من تضمن بقاءه، هكذا يعمل كلٌ من الروح والجسد معًا ليكون “الإنسان”: الجسد يضمن تحقق “فكرة” الإنسان على الأرض، والروح تضمن بقاء “الفكرة” حتى بعد فناء الجسد، وأقصد بالفناء هنا، هذا الانتهاء الظاهرى الذى لا ندرك حقيقته بالفعل.

الروح سرّ، والجسد أحد الطرق المهمة للتعرف عليها، هى تطل من كل ذرة فيه، تنظر إلى العالم وينظر إليها العالمُ من خلاله، تطلّ من عينى الجسد، كلماته، ضحكاته، بكائه، ابتسامته، مشيته، نومه، ضعفه، قوته، حضوره المادى ومجاله الحيوى، الروح فى جزء كبير ومهم من حقيقتها أنها: “كيف يفعل الجسد الأشياء”، كل الأشياء البسيطة والمعقدة، كيف ينظر، يغضب، يقع، يجرى، يصعد، يحنو، يقسو، كيف يمارس الحب والجنس والسعادة والحزنواللعب، لذا نتذكر من أحببناهم بالطريقة التى كانوا يفعلون بها الأشياء، كيف كانوا يتكلمون، وكلماتهم الغالية الأثيرة، دفئهم ورائحتهم على كل ما لمسوه، والأماكن التى مروا بها، وهذه كلها أفعال تنبع من الروح وتمر عبر الجسد، فتأخذ منه ويمنحها قبل أن يترجمها للعالم، فلا تقتصر مهمته على ترجمتها وإنما المشاركة فى تشكيلها أيضًا.. من نحبهم يرحلون بأجسادهم، وتبقى أرواحهم حاضرة معنا وفينا وحولنا من خلال أفعال جسدية فى معظمها.

 تظهر الروح وتتكشّف فى ردود أفعال الجسد التلقائية، التى لا يمكن تزييفها أو ترتيبها والادعاء فيها، لولا الجسد لظلت الروح هائمة فى الفراغ، حائرة بلا بيت أو اسم، بلا طريقة تعبّر بها عن نفسها، يُمكن تخيّل هذا العالم مزدحمًا بأرواح هائمة، حتمًا ستتقاتل كلها على أىّ جسد تصادفه، كانت لتتحول كلها إلى أرواح شريرة، والأرواح الشريرة أكثر شرًا ومكرًا من الأجساد الشريرة.  

يمكنك بمجرد النظر أن تعرف أن هذا الجسد/ الشخص الآخر يحبك، يمكنك أن تحب جسدًا آخر حتى يصير بشكل ما قطعة منك، قطعة تحبها، تتحرك حولك أو بعيدًا عنك/ قريبًا منك، فتظل مشتاقًا لهذا الجسد، وتحمل لأجله هذا الحب، الحنين، النبض المختلف، واللهفة الغامضة التى تعرفها وحدك، وتظل تحبه فى جميع أحواله، لأنه صار أكبر من جالب لعنة أو متعة، العلاقة بينكما لا تبدأ وتنتهى هنا، لا يهمك كيف وإلى أية درجة يتغيّر هذا الجسد، حتى عندما يضطرب ويرتبك أو أسوأ من ذلك، سيظل جميلاً ومحبوبًا على طريقته وطريقتك، وتظل أنت تنبض له وتشتاقه بارتباكه وعيوبه القديمة والجديدة، ويكون جماله الحقيقى هو ذلك التاريخ من الحب، الحنين، الاشتياق والنبض المختلف، واللهفة الغامضة المحببة بينكما، والتى تبدو فى الوقت نفسه مفهومة بطريقة لا يمكن تفسيرها، فى واحدة من الحالات القليلة التى يكون فيها الشىء مفهومًا وغامضًا معًا.

يمكنك أن تحب حتى تحب أن تشرب عرقَ من تحبه، وتستمتع وأنت تفعل ذلك، وفقط عندما تشتاق لأن تتذوق عرَق هذا الجسد، هنا فقط، ليس قبل ذلك ولا أقل منه فأنت بالفعل تحب.

الحب فى واحدة من أجمل وأرقى حالاته: رجل وامرأة يحب كل منهما رائحة عرَق الآخر. 

الجسد مكان حيث ينبت البشر، فى حالة المرأة الحُبلى سيحمل الجسد بداخله أجسادًا وأرواحًا أخرى، فتسكنه أكثر من حياة، علاقة بسيطة تدعو لإعادة النظر والإحساس: البشر جميعًا ينبتون من بعضهم بعضًا بالطريقة نفسها طوال الوقت، بالتأكيد ليست مصادفة، مؤكد أنها علامة.

دائمًا ما يكون الجسد بالمواجهة أو على الأقل مشارك فيها، لا يتوقف عن دخول التجربة، عليه أن يؤدى كل الأدوار، الطفولة والصبا والشباب والشيخوخة، هذا إن كان متاحًا له الوقت الكافى ليفعل، ثم عليه أن يمارس الموت، وقبله يمارس الحياة، كما ستمارسه هى أيضًا، بالطبع سيفعل كل شىء، ويُفعل به كل شىء، لأنه دائمًا بالمواجهة، حتى إن الجسد الواحد له أكثر من رائحة، وبالطبع أكثر من مهمة يؤديها فى العالم، وأكثر من طريقة يؤدى بها المهمة الواحدة، والجسد الذى يُطلق رائحة المومس فى مكان ما لأجل شخص ما، هو نفسه الذى يُطلق رائحة الأمومة فى مكان آخر لأجل شخص آخر، الجسد يجلب المتعة والجموح وذروة النشوة، وأيضًا يجلب لنا ذروة الضعف والألم، ليُذكّرنا بأننا لسنا “مُطلق”، فنحن نحتاج لحظة الضعف بنفس الدرجة من الأهمية التى نحتاج بها لحظة القوة، لنكون أكثر إنسانية.

الجسد فى كثير من أحواله لا يحتاج أكثر من تربيتة على قلبه، أو حضن حنون أو نظرة فيها هذا الحب، واحدة فقط من هذه الأشياء كثيرًا ما ترضيه، مثل مُطارَد مُتعَب لا يحتاج إلا لظل شجرة، أو متشرّد ليلىّ سيكون ممتنًا لو جلس أحدهم بجواره ليتبادلا بعض الحكايات والدفء القليل المتاح، هو ليس السفّاح الذى يدور ليلاً بحثًا عن فريسة، لكنه المتشرد المسافر العاشق المحب التائه المتناقض الوحيد.

عندما يكفّ الجسد أو تكفّ الروح عن الرغبة يموتان معًا، أقصد هنا الرغبة بمعناها الكبير، حتى مجرد الرغبة فى رؤية المطر أو الشارع، أو التطلع فى وجه طفل، يموتان لو توقف أحدهما تمامًا عن الرغبة فى الحياة، وكلاهما يعرف هذه الحقيقة، لذا يتشاركان فى كل شىء، فلا أحد يغادر الآخر أو يذهب إلى مكان بدونه، وعندما يمارس الجسد الجنس لا يمكن تصوّر أن الروح ستغادر لمكان آخر حتى ينتهى، هى هنا حاضرة، ترغب، وتمارس بكامل طاقتها وسعادتها، الجنس فى أجمل حالاته طريقة للتعبير عن الحب، الجسد أيضًا سيشارك الروح لذتها التى تعيشها عندما تُحلّق، فإذا كان من الممكن للروح غير المرئية أن تتعكّر وتثقُل، فللجسد المرئى أن يصفو ويخفّ.

كم من المرات أحسستَ بأن روحك ثقيلة كأنك تغرق؟ وكم من المرات أحسست بأن جسدك خفيف كأنك تطير؟

كل الأفعال التى تُنسب تجاوزًا إلى الجسد بالدرجة الأولى كالجنس واللعب لا يمكن ممارستها إلا بحضور الروح، كذلك الأفعال التى تُنسب تجاوزًا إلى الروح بالدرجة الاولى كالصلاة بجميع أحوالها، والتأمل، لا يمكن ممارستها إلا بحضور الجسد، فى رأيى أن أحدهما لا يسبق الآخر فى شىء منها، ودوره فيها ليس أصغر ولا أكبر من دور الآخر، حتى إنهما لا يتشاركان فيها مناصفة، وإنما يمتزجان فى فِعلها وممارستها، كأنما تأتى أنت بالليل والنهار معًا فى كوب واحد وترجّهما، عندها لا يمكنك أن تعرف الليل من النهار، أين يبدأ أحدهما أو ينتهى، حتى إنهما سيصنعان مزيجًا جديدًا، هكذا الروح والجسد فى فِعل الأشياء، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر أو معرفة أين يبدأ دور أحدهما وينتهى، الأمر ليس مشاركة، ولا توزيع أدوار، وإنما حالة وتجربة أعمق من ذلك وأكثر ذكاء وإبداعًا.

ستظل الروح تُعبّر عن نفسها وتطلّ على العالم من خلال الجسد، والجسد فى لحظة لاحقة يتماهى معها بكل ما فيه بأن يفنى، إلا أن الأمر يبدو كما لو أن الجسد يُكمل “الفكرة” بطريقة أخرى، فلا يفنى ولا يتلاشى بالفعل، وإنما يمكن تصوّره فى تشكيلات وحالات أخرى، فربما حفنة من تراب جسدك هى من تُثبّت شجرة ما بالأرض، أو هى من سيعبئها الأطفال فى قراطيس ورقيّة بعد عدة سنوات ويرمونها بوجوه بعضهم بعضًا فى لعبة ما، ربما يمر نهر من هنا بعد سنوات أخرى، ويحمل جسدك/ ترابك كله ليجعل منه طميًا يغذى أشجار فاكهة أو حقول أرز يأكل منها بشر وطيور وحيوانات، الغبار الذى يعلق بأهداب عينيك أو شعرك أو جلدك أو ملابسك أو نافذتك ربما يكون أجساد آخرين، وأنت نفسك ربما تعلق يومًا بأهداب غيرك أو ملابسه أو نافذته، تلك هى “الفكرة”: لا أحد ولا شىء يدخل الحياة ويخرج منها، هو فقط يكمل حياته فى مكان آخر بطريقة أخرى، ذلك ما يحدث لكل جسد وروح يدخلان الحياة، هذا على ما أفكر وأحب طبعًا، فليست “الحياة” هى ما نراه هنا فقط، ولكنها لفظ يُطلق على الكثير من أشكال “الوجود” المختلفة، ومن بينها تلك الحياة القصيرة التى نعيشها ونراها حولنا، فكأنما الحياة التى نعيشها هنا هى جزء من حياة أكبر، والحياة هى الأساس وليس الموت، ففى النهاية، أقصد النهاية البعيدة الحقيقية، هناك ستكون حياة وليس موتًا، وبالتالى فإنه فى الحقيقة لا توجد نهاية.

أؤمن أن كل روح إنسانية فيها نصيب للآخرين، وكل جسد إنسانى يجب أن يُبذل منه للغير، هذا الجسد، يمكنك أن تبذل منه لآخرين، للعالم، وهنا، فقط هنا، يكون الجسد حرًا، تلك هى حرية الجسد، أن يكون قادرًا على البذل، يمكنك أن تبنى بيوتًا لأشخاص لا تعرفهم، تحفر معهم آبار مياه وقنوات، تحمل لهم طعامًا، أو تطبخه لهم، تزرع وتحصد، أو فقط تمشى مع أحدهم فى متاهته ولو لبعض الوقت، فلا تتركه وحيدًا، يمكنك أن تنام به وسط أجساد لا تعرفها فتشكّلون معًا لوحة إنسانية ممتدة، أو حتى تفعل أشياء أقل من ذلك، كل جسد يبذل شيئًا لغيره هو جسد جميل، نابض، حىّ، وبالطبع معه روح تشبهه، الجسد، هذا الطيّب، يمكنه أن يضم إليه شخصًا يعانى البرد، فيمنحه حرارته ودفئه، يمكنه أن يُشعر غيره بالأمان والراحة، يمكنه أن يَشفى، الجسد برائحته وعرقه، التى يشمّها شخص آخر فيطمئن لأن شريكًا له فى هذا العالم على مقربة منه، يمكنه أن يمنح الطمأنينة والأمان والشعور بالسكينة والألفة، الجسد عندما يكون شهمًا، ومستعدًا للفناء على طريقة العطاء، فإنه لا يفنى فى الحقيقة، ويساعد الروح أن تبقى روحًا، عندما يتصرف بهذه الطريقة، يمكنه دومًا أن يفعل أشياء رائعة فى هذا العالم.

 

مقالات من نفس القسم