التَّلقي وأبعاده الإبداعية والسردية في مجموعة “أصوات الألم”

أصوات الألم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد النبي بزاز

“أصوات الألم” هي باكورة الكاتب المغربي محسين الوميكي القصصية في جنس القصة القصيرة جدا، ولم يكن اختيار هذا اللون القصصي بمحض الصدفة والاتفاق بل اجترح عتباته، وخاض غمار أدغاله بعُدّة إبداعية ومعرفية وهو ما يؤكده مقدم المجموعة محمد فوزي الودغيري: “جاءت في عمومها ملبية للمعايير الخاصة بالجنس القصصي القصير جدا، حيث تراوحت النصوص إجمالا بين الإفصاح حينا والإضمار أحيانا، مع الأخذ بالخصائص المتوافق بشأنها في بناء السرد الوجيز جدا.. من عتبة عاضدة للقفلة ومن مكثف مضمر لقراءات موازية متعددة وقفلة منعطفة غرائبية أو غير متوقعة..” ص:5.

فنصوص المجموعة تُوَرِّط القارئ في الإسهام في تشكيلها: “السؤال الأول: اقترح عنوانا للنص. السؤال الثاني: اكتب نهاية وردية إن كنت تستطيع.” ص: 15 اعتمادا على قراءات وتأويلات تتأرجح بين التحريض والاستفزاز والتحدي… لرسم مسار ينم، بقصد، عن تحديد إواليات علاقة مختلفة نوعيا بين القاص والمتلقي، وما تعج به من طرائق غير مألوفة، ومسلكيات غير معهودة تروم تعليق أفق انتظار القارئ  على نهايات تشذ عن نمطية السرد وما يطفح به من إثارة وتشويق عبر خطية تخضع للتدرج والانتظام  في تبديلها بنهايات مفتوحة في وجه قارئ  يساهم في تصور آفاقها المسكونة بهوس الرفض  وقلق السؤال: ” أنت رفضت العمل فلماذا تحتجين؟” ص: 18، وهاجس البحث: “وهرولت مقتفية آثار أصبعها بحثا عن الأمل.” ص:27، متوغلة في غياهب مجهول مشرع  على الضياع كما في نص (تنازل): ” تركت مولودها جانبا وغادرت تحت جنح الظلام” ص: 91 بفتح باب التأويل، في تصور تبعات الحدث، وتوقع احتمالاته،وفي نص (فُرْجة) مؤاخذة لا تخلو من لوم وعتاب لقارئ غارق في اتكالية واستهلاك: ” أنتم فقط تحسنون التفرج ” ص: 78 بإثارة حفيظته، وتحريك رغبته في التحول من  تلقٍّ يركن للاستكانة والتراخي  إلى قراءة منتجة تتوخى الإسهام والمشاركة في إنتاج النص.

وتزخر قصص المجموعة ب”تيمات” تغني نسيجها الإبداعي والدلالي فتًصيِّره أكثر عمقا ورحابة وانفتاحا  ك “تيمة” التحول: “وقد أصبح للتلفاز لون أحمر داكن الكل يكرهه.” ص:  16 بعد أن تحول من نسخته الأولى: “يوم اشترى لنا أبي تلفازا لأول مرة بلونين الأبيض والأسود.” ص: 16، إلى نسخة جديدة بالألوان: “ولما اقتنى لنا تلفازا  بالألوان” ص: 16، والموضوع الاجتماعي في تمظهراته المتنوعة والمتعددة بما تعكسه من ضروب البؤس والضنك والمعاناة: ” خرجن من بيوت واطئة مبنية من جحيم  المعاناة… يدفعهن الجوع… إلى مصير لم يكن منتظرا. ” ص: 82، بتصوير تمرغهن  في حمأة الفاقة والحرمان  كفتيات منحدرات من أوساط يستفحل فيها العوز، وتستشري الحاجة أمام انسداد أفق تنعدم فيه أدنى فرص العيش والحياة الكفيلة بإنقاذهن من مخالب العوز، وسطوة الحرمان.

وفي ” تيمة ” الاجتماعي يتناول القاص ظاهرة الهجرة  في شتى تجلياتها، ومختلف تبعاتها وامتداداتها الاقتصادية والسوسيوثقافية: ” موت  أكثر من أربعين مواطناغرقا في البحر. ” ص: 23، وما يحدق بها من مخاطر، وما يكتنفها من عواقب إنسانية ووجودية قد تنجم عنها مخلفات مأساوية في موت مريع غرقا في مياه البحر. وتحضر، ضمن تيمات نصوص الأضمومة، الكتابة بانخراطها في صلب سيرورة السرد بتشعباته وانزياحاته، لما  تتبوؤه من قيمة اعتبارية وجمالية من خلال ما تمنحه لمجترح ضفافها وأدغالها من طقوس هيبة، وشعائر ريبة وتوجس: ” كل مرة كان يحاول فيها الكتابة  يتردد بقوة لأن الخوف كان يسكن ضلوعه. ” ص: 80، مما أفرز استعمالات لغوية ودلالية تنم عن جهد مضن يستنفد مقدرات الكاتب الذهنية والوجدانية، ويستنزف طاقاته الإبداعية في نحت نصوصه، ورسم أشكالها وأبعادها لتحظى بطابع مغاير ومختلف عن الأنماط  الشائعة سواء في الوصف: ” الظلمة المعجونة بأنين الحياة. ” ص: 56، أو في صيغ وتعابير تنتأ عن ثوابت صيغ الأشكال المألوفة: ” مزق وقته بحقد وشتم بلادته. ” ص: 59، كتابة تتوسل، في انزياحاتها وتبدلاتها إلى أنسنة الجماد: ” توسدت ركبة النافذة. ” ص: 56، بل تؤسس لعلاقة تواصل مع الإنسان في سياق من دعم ومؤازرة: ” كانت المرآة  تواسيها وتنصحها بالصبر. ” ص: 77، وتصدر عن شخوص المتن القصصي سلوكيات بطابع يرشح غرابة: ” تأبط جثته. ” ص: 66 في منحى يفتح آفاقا رحبة ومتعددة لمقاربة أبعاده ودلالاته عبر قراءات وتأويلات أكثرغورا  وإضاءة واستنباطا: ” أخذ منشارا وقطع قدمه اليمنى ثم وضعها في الصحن. طفق يأكل بنهم. ” ص: 92، مع تخصيص هامش أوسع لإشراك القارئ في صياغة نص تتعدد مراميه، وتتنوع مآلاته بانفتاحه على أفق انتظار مرهون لشتى التأويلات  والتوقعات: ” تناول ولاعة ومدلجة مملوءة عن آخرها بالبنزين قصد أكبر ساحة في المدينة. ” ص: 89. مما يكرس اختلاف النمط القصصي لدى الكاتب واختياراته الصادرة عن حس إبداعي يروم التأسيس لرؤية سردية بأشكال مغايرة. ومن “تيمات ” المتن موضوع القومية بحمولاتها التاريخية والإنسانية  والحضارية… وما تقوم عليه من إيمان راسخ من التحرر من نير الاستعمار، والانعتاق  من ربقته عبر آليات المقاومة  والكفاح: ” لما استفاق كان يردد: فلسطين عروس عروبتكم. ” ص: 90، قضية بزخمها الوجودي، وأفقها النضالي تغدو هاجسا يؤرق مخيلة حاملي مشعلها، والمنخرطين في أتون معركتها، وهما يلازمهم في كل وقت وحين.

تبقى ” أصوات الألم ” عملا سرديا بمواصفات إبداعية مغايرة صادرة عن تمثل لمقومات جنس قصصي ( قصة قصيرة جدا) ما زال في طور التبلور والتشكل، وما أضفاه عليه الكاتب من  بصمات نوعية كإشراك  للقارئ في صياغة النصوص بأدوات من قبيل التأويل والتوقع والافتراض.

 

ــ الكتاب: أصوات الألم

ــ الكاتب: محسين الوميكي

ــ المطبعة: بلال / فاس 2018

مقالات من نفس القسم