التّواصُل مع العزلة , ومُصَافَحةُ الذّات للفراغِ في ديوان : “مجرَّة النّهاياتِ” ، للشّاعر شريف رزق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شريف الشافعي

يرتضي الشاعر شريف رزق ، في ديوانه الأخير : "مجرة النهايات" ، لنفسه مسلكًا منفردًا ؛ يقود إلى نهايةٍ انهياريَّةٍ تامَّةٍ ، تعادل البدايةَ "الانفجاريَّةَ" ؛ التي انطلقَ منها في بدء التَّجربةِ المكثَّفةِ ؛التي تؤسِّسُ للوحدة والانعزال, والشَّاعرُ ذاتُهُ يختصرُ توصيفَ رحلتِهِ بقوله:

” ابدءوا بي

 مِنْ هُنا..

, بي ،

 بانفجاري ,

 بالانهيارِ الذي يتعثَّرُ في سردِهِ على أنقاضه

, بي

 مِنْ هُنا ,

 مِنْ جنازةٍ تستندُ على عظامي

               شاردة..” (ص : 6)

” عَمَّا قليلٍ سيبتدِىءُ الفَرَاغُ

، وَينْتَهِي الوقتُ

       ( ولا أعْنِي بِذلِكَ مَجَازَاتٍ مُحْتَمَلَةً

        أوْ نُبُؤاتٍ مَا )                                              

وَالهَوَاءُ الذي تَعَلَّقَ بِالنَّافِذَةِ

– أيضًا – سَيَنْهَارُ

، على المَدِينةِ الَّتي عَبَرَتْ

سَأَسْكُبُ ُأحْشَائِي على المَشْهَدِ العَاتي

مَائِلاً

      وَأَسْتَدْرِجُ العَاصِفَاتْ  …”  (ص : 7)

الشَّاعر يُراهنُ على إمكانيَّةِ استقلالِ الذَّاتِ بذاتها ، واستغنائها التَّامِ عن الآخرين ، مادامَ التَّواصلُ قد باتَ حلمًا صعبَ المنالِ , ولا بأسَ أن يُهدي الشَّاعرُ تجربتَه إلى ذاته, وأنْ يقولَ في تصديرهِ لها ، مُستعيرًا صوتَ حافظٍ الشِّيرازيِّ :

“وارتضيتُ عزلتي

كما ارتضاها الفرجارُ

يدورُ حولَ محيطهِ

ولكنَّ القدرَ جعلني في النِّهايةِ كالنُّقطةِ

في وسطِ الدَّائرةِ “

والشَّاعر ُيتمسَّكُ بالذَّاكرةِ لحظةَ أنْ يسودَ الخرابُ ، وتذهبُ العقولُ , وهو يطلبُ من نفسِهِ أن ينسى الهزائم َكلَّها ، وألا ينسى رأسَه في الزِّحامِ الهادرِ.., ولا يكتفي الشَّاعرُ بنجاته الفرديَّةِ منْ طوفانِ الجنونِ ؛ بلْ يأملُ في أكثر من ذلكَ ، فيقولُ في لحظةٍ إشراقيَّةٍ نادرةِ التَّحقُّقِ في التَّجربةِ الضَّبابيَّةِ :

“خُذ الهياكلَ كلَّها

خذْهَا وراءَكَ..,

مزّقْ الهواءَ بهديركِ النُّحاسيِّ ,

بظفركَ المعدنيِّ.. حُكّ الصَّهيل ” (ص: 12)

 

الخروجُ منْ الجثَّةِ

ورغم الجليديَّةِ المطبقةِ ، والجاثمةِ على صدرِ الكونِ ، حتَّى لتكاد أنفاسُهُ تبدو متجمِّدةً على طولِ الخطِّ .., فإنَّ الذَّاتَ الشَّاعرةَ ؛ المكتفيةَ بذاتها في ذاتها ، تأبى استمرارَ فعْلِ السُّكونِ إلى ما لا نهايةِ ؛ فتتحرَّكُ قدرَ ما تستطيعُ , ولكنَّها الحركةُ الدَّائريَّةُ حولَ محورِ الثَّباتِ في حقيقةِ الأمرِ , وتبقى مُحصِّلةُ الوضعِ النِّهائيَّةُ كما هيَ . إنَّها حالةُ النُّشورِ ، المشكوك في استمراره ؛ حيثُ يخرجُ المرءُ منْ جثَّته عاريًا ؛ فيجدُ ” المذبحةَ في طريقهِ “، أو يجد ” الضَّياعَ”, يقولُ في موضعٍ :

 “سأخرجُ من هذه الجثّة, كما جئتُها, عاريًا , ووحيدًا بهوائي وأضرحتي وأشعاري المُريعةِ , ضاريًا , إلى المذبحَةِ .” 

. ويقول في موضعٍ آخر :

 “سأخرجُ من هذه الجثّةِ مُتّجهًا إلى ضَياعي .”

محطَّاتٌ متلاحقةٌ للتَّعبِ ، هيَ تلكَ التي يتنقّلُ بينها الشَّاعر شريف رزق ، بدونِ وصولٍ حقيقيٍّ إلى مُرفأ واضحٍ , سوى مرافئ الوحدةِ والوجومِ .

أمّا الأسئلةُ فليسَ لها وجودٌ في الرّحلةِ المُضنيةِ ؛ فهيَ أسئلةٌ من نارٍ , وإجابتُها الوحيدةُ هيَ التوهة والنُّكرانِ ؛ غيرَ أنَّ  الذّاتُ الشّاعرةُ مطمئنةٌ إلى حقيقتِها المستقرّةِ داخلها, وإلى إجاباتِها الخاصَّةِ عن كلِّ تفاعُلاتِ الكونِ والبشرِ والوجودِ , في حين لا تنتظرُ تلكَ الذّاتُ أحدًا .. يقولُ :

 “الأسئلةُ التي حرَّقتْنا 

 سحقناهَا بالنِّعالِ 

, وابتردْنا على المَداخِلِ 

على المَداخِلِ التي لم تتَّسعْ لِسِوانا 

, ولمْ ننتظرْ أحدًا  

 عبرْنا على بقايا كلامٍ

وشَواظٍ أنكرْتنا   

فازْدردْنا غَمامًا وأبخرةً ,

 وارْتحلنا واجِمينْ .” (ص ـ 67)

 

المرأةُ والجحيمُ

ووسطَ هذه الحالاتِ من الاكتفاءِ بالذّات، والاكتواءِ بالسَّعير حينًا ، وبالجليدِ حينًا, تأتي الأخرى أو المرأةُ ؛ لتكونَ بمثابةِ مُحاولةٍ للخلاصِ ، أو لإعادةِ الصِّياغةِ على نحو أفضل ؛ ولكنّ الذّات الشّاعرة لا يُرضيها احتمالُ التَّوحُّدِ بهذه الأخرى , وتُؤثرُ أنْ تذهبَ إلى يقينِ الفراغِ ؛ لأنَّه مفهومٌ أكثر رسوخًا من الاحْتمالاتِ , يقول :

“هكذا جاءتْ المرأةُ الأخرَى

وفكَّتْ لي ضلوعي

فجمعتُها في جيوبي

ونثرتُها في جحيمٍ

وهكذا جئتُ

للفراغِ الّذي لا ينتهي .” (صفحة 48)

الجديرُ بالذِّكرِ  ـ وهكذا يرى الكاتبُ خيري شلبي ـ أنَّ للشَّاعر شريف رزق مذاقه الخاصّ بين الشُّعراءِ المصريينَ , وهذا المذاقُ ينبعُ منْ طبيعةِ الثَّمرةِ التي ينتمي إلى فصيلتِها ، أو تنتمي هيَ إليه ؛ وهيَ ثمرةٌ لا شكَّ ذاتُ نكهةٍ رصينةٍ أقرب إلى لذعةِ ثمرَةِ الكولا , أو ثمرَةِ الكرْزِ النَّاضجةِ , سرعانَ ما تنجابُ لذعتُها عنْ شعورٍ بالانتعاشِ ، وَمِنْ أهَمِّ المَلامِحِ الَّتي وَشَتْ بِهَا قَصَائِدُهُ الأولى أنَّهُ شَاعِرٌ يَمْضِي على طَرِيقٍ يَعْرِفُهَا جَيِّدًا ، وَيَحْفَظُ سِكَكَهَا وَدرُوبَهَا وَيَعِي مَا يُريدُ أنْ يَصِلَ إليْهِ مِنْ أهْدَافٍ بَعِيدَةٍ ؛ أيْ أنَّهُ شَاعِرٌ طَمُوحٌ جِدًّا ، وَأظُنُّ أنَّ لَدَيْهِ مِنْ الاسْتِعَدَادَاتِ الذَّاتيَّةِ وَالأدَوَاتِ مَا سَوْفَ يُسَاعِدُهُ على بِلوغِ طُمُوحَاتِهِ في أوْقَاتٍ مُبَكِّرَةٍ ، وَمِنْ هَذِهِ المَلامِحِ أيْضًا أنَّهُ شَاعِرُ “الطَّبخَةِ” الوَاحِدَةِ – إنْ صَحَّتْ الاسْتِعَارَةُ – أعْنِي أنَّ كُلَّ تَجْربَةٍ شِعريَّةٍ عِنْدَهُ تَجِيءُ مِنْ نَسِيجٍ وَاحِدٍ لأنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْهُ في الوَاقِعِ غيْرِ مُحَمَّلَةٍ بِأنْفَاسِ غَيْرِهِ أوْ ظِلالِهِمْ أوْ مُنْجَزَاتِهِمْ  .”  

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم