التناص في «ديوان الرمل» للشاعر عادل سعد يوسف

Rbsh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

زياد محمد مبارك

 ▪️ مُشبَّك كمدخل.

تعرَّضت ظاهرة التناص لدراسات كثيرة خصوصاً لدى النقاد العرب القدامى، أمثال قدامة بن جعفر، وابن قتيبة، وسلامة بن الجمحي. قبل أن تبلور الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا ظاهرة التناص في ستينيات القرن الماضي متمثلة في قاعدة: «النفي التام لوجود نص مستقل بذاته أو غير متداخل مع نصوص أخرى». منطلقة من دراسات الروسي ميخائيل باختين الذي نظَّر في فترة العشرينيات للتناص – رغم أنه لم يطلق عليه هذا المسمى – بقوله إن الكلمات التي نستخدمها دائماً مسكونة بأصوات أخرى.

وقبل باختين وجوليا كان السبق لعبد القاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة حيث سطَّر في كتابه «الوساطة بين المتنبئ وخصومه» أن المعنى مشترك لا ينفرد فيه أحد بسهم. ولابن الأثير سبق كبير – أيضاً – للنقد الحديث في تصنيفه للتناص وآلياته في ١٤ نوعاً بذل شرحها في كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر».

أما النصّ عند رولان بارت فهو «نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء الثقافية السابقة أو المعاصرة التي تخترقه بكامله». أي أنه يعرِّف النصّ عبر التناص بصورة مباشرة. ومع أنني لست بصدد تحرير مصطلح التناص، أو عرض تعريفاته المتعددة – بعبارة أُخرى – لكن أجدني منحازاً لتعريف الناقد الفرنسي جيرار جنيت؛ إن التناص: «علاقة المشاركة بين نصين أو أكثر، إنه الحضور الفعلي لنص في آخر».

▪️ عن ديوان «الرمل».

ديوان الشاعر السوداني عادل سعد يوسف المُعلَّقِ بعنوانٍ مثير: «الرمل». تتسربُّ دفقاته النثريَّة بلغةٍ نسيج وحدها لتكوَّنَ كثيباً من عالَمٍ شعريٍّ خاص، وخاص جداً.. تساوقت فيه غابةٌ من رؤى متشابكة بأسلوبية خطابية مكثَّفة، مقطعيَّة ومتنامية؛ وزَّعَت ضمائرها ونداءاتها للحبيبة، وللرمل، في قصيدة واحدة امتدت في اثني عشر مقطعاً شكّل المبتدأ في كافَّةِ عناوينها/ «بكِ..». بحيث تضمنت المقاطع توظيفاً متنوعاً من حيث الدلالة لنثريات الرمل في رسائله إليها، علائق مبتكرة بين الرمل، وبينها، والذاتِ الرائِية، والأساطير، والحفر الحضاري.. الخ، في ملحمة شعرية مائزة.    

وظّف الشاعر الرمل كثيمة رئيسة، وفضفاضة، في توليد تشظيَّات دلالية كثيفة التفتَ إليها الشاعر والناقد المصري أمجد محمد سعيد في تعبيره عن هذا التوظيف – في تقديمه للديوان – بقوله: «يتفجَّر رمز الرمل إلى ما لا نهاية له من التشظيَّات المقترحَة تأويلياً وفق سياق المقاطع والجمل والإشارات، بكل ظلاله الممكنة أيضاً، وسيكون من العبث أن نحصي عدد المرات التي وردت فيها  كلمة الرمل أو تفريعاتها أو اشتقاقاتها، مما يؤكد ويوضح سعي الشاعر أن لا يعطينا مفتاحاً واحداً لتحليل الرمز، إنما يترك لنا تأويلات نقترحها نحن إزاء مقترحه الغامض السري الخاص به وبتجربته ومقاصده».

ورغم وصف الشاعر أمجد محاولة تقصِّي مدلولات الرمل في الديوان بالعبث، فنثر الشعر رملاً هيأ أنسجةً شعرية تعدَّدت طرق تفنينها في مقاطع الديوان؛ بمناويل احتكمت إلى معجم لفظي امتاز بالسعةِ من جانبٍ، وبالتقاط مجموعة مفردات مُهمَلةٍ للتدبيجِ بما لا يردُ إلى الآذانِ كثيراً؛ مما يمدّ للتأويلاتِ أمديةً تُحدُّ بقدرِ بحثِ القارئ عن اكتشافات معجمية لمعاني هذه الألفاظ.. لأجل كل ذلك كانت للمحاولة، العبثية، لذة القراءة لديوان يقدِّم فواكه التخييل والمعاني والصور والدلالات واستنتاجها الأشهى.. هي محاولة البحث عن نصوص غائبة في نصوص حاضرة، أو هي محاولة القراءة المُطابِقة أو الأشبه بورطة التحديق التي وصفها الشاعر السوداني الطيب برير يوسف:

«الشّعرُ مسئولٌ إذن

عن ورطةِ التّحديقِ في الأشياءِ

نسجاً للعمومِ

وقدرةَ الإشراقِ

في معنى الخواصْ».

عناوين القصائد لوحدها قصائد وامضة في سطرٍ واحد، مارس الشاعر في سبكها تقنيات الانزياح والتكثيف بما أبرزها كومضات شعرية ذات دلالات ثرية، لافتة، جاذبة، تمَّ إسقاطها على المقاطع. ابتداء العناوين الفرعية بالخطاب «بكِ..» لخّص المزيج الذي يمثل مدار الديوان عن الرمل وعنها كحقلٍ حشد الشاعر فيه، أو وظفَه كقنطرةٍ تمرُّ عبرها محمولات ثرَّة من حقول احتشدت بدلالات قد تبدو بلا رابطة تربطها بالرمل – المحسوس – بيد أن عدم احتكار، أو تقييد، دلالةٍ ما للرمل؛ أسْهَمَ الرملَ في الدلالات المتنوّعِةِ الموزَعَةِ في طولِ المقاطعِ وعرضها.

ولو جدوَّلنَا جُمل الاستعارات الغزيرة التي لم يخلُو منها سطر في طول الديوان لحُزْنَا على تفريغٍ لمتشابكات تُبدِي براعة النظمِ للبناء الاستعاري، الغرائبي، حيث لا ناظم إلا التخييل الفسيحِ في الشعر المبتكر للمُستعاراتِ، والمُستعاراتِ منها، والمُستعاراتِ لها، وقرائنها.. وهذه الكثافة الثرية في الألفاظ والمعاني ما وقّعَ عليه الشاعر أمجد محمد سعيد بأنه “النجاح في سبر أعماق المعادلةِ الجماليّةِ في تركيب كيمائية القصيدة لتخليقِ لغةٍ جديدةٍ؛ ما هي إلا خلطة عجيبة من الكلماتِ والمعاني، وتلك الروابط والعلاقاتِ المدهشةِ بين ألفاظٍ لا يبدو أن بين بعضها وبين البعضِ الآخر أيةِ وشيجةٍ أو قرابة”. والرمل؛ باحتماله التحميل بكثافة دلالية لا يمكن بحال وضعها بين حاصرتين، لعلَّها – هذه الغزارة – ما لمسَ الشاعر السوداني د. محمد عبد الحي توصيفها ببهجة الخمر:

«الرمل يرسبُ في قرارةِ بهجةِ الخمرةْ

لذعٌ وأوراقٌ ميبَّسة

تُخشخشُ حين يدفعُها الهواء».

افترعَ الشاعر – في الغلاف – بجانب عنوانه «الرمل» مساحة خصَّصَها لعنوانِ المقطعِ الأول: «بكِ.. أثقلُ الحدائقَ حتى ثمارَها»، فاتحة الديوان التي فضحَ فيها كثيراً من المفاتيح الدلالية لرؤاه عن الرمل، وحمَّل هذه المفاتيح بإيحائيةٍ في تركيبات فارهِة البيانِ توالَت متصاعدة في هيئةِ فسيفساءٍ من المقاطعِ الشعريةِ الحافلة بصدماتِ تلقِّي حمَّالةٍ للدهشةِ.. أنسب ما يُقال من وصف عن أسلوبية الشاعر عادل هو التشجير والتثمير للغة والرمز كما وصفهُ الشاعر عصام ترشحاني – في تقريظهِ للديوانِ – لكتابةِ نصوصٍ تغردُ خارج نصوص الأجناسِ، بمتوالياتٍ هارمونيَّة جماليِّة متفرِّدة.. وهذه نظرات لتتبع تناص الرمل في ديوان الشاعر عادل، أو كما قال محمود درويش:

 «إنَّه الرملُ

مساحاتٌ من الأفكار والمرأةِ،

فلنذهب مع الإيقاع حتى حتفنا».

▪️ التناص في ديوان «الرمل».

في قصيدته «الرمل» يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش – شاعر الثورة والوطن – عن علاقة متخيّلة بين الرمل والبرتقال:

«البداياتُ أنا

والنهاياتُ أنا

.

.

والرمل شكل واحتمال

برتقال يتناسى شهوتي الأولى».

فالرمل عند محمود درويش مرتبط بالنسيان، والضياع. أما في متخيَّل الشاعر عادل سعد فالبرتقال غيمٌ يحرس الرمل؛ في قصيدته «بكِ.. الأنثى التي هيأت رملها»:

«البُرتقالاتُ غيماتٌ تحرُسُ الرملَ بتراتيلِ النُسَّاكِ في نُزهَةِ الفجرِ، أجراسُ كعبيكِ الساهرين من جذوةِ الموسيقى في سُلَّمِ الآحادِ، وينظِمنَ خَرَزَ الثرثراتِ في بُرُنزِ الخوارِسِ، يلتفِتنَ بصمتٍ سماويٍّ لملائكةِ الصباحِ، يدْهُنَّ شعراتِكَ البِيضَ بِراتنجِ السفرجلاتِ، ويُلبِسنَكَ أيُّهَا الرملُ أعيادَ هديلِهِنَّ الثمِلِ».

وبين عادل سعد ومحمود درويش مفارقة في نزوع الأول للمحبوبة والثاني لقضيته القومية التي سكب فيها قصيدته «الرمل»، فالرمل غيمٌ أيضاً عند محمود درويش، لكنه يشبه البلدان، كما قال:

«والرمل جسم الشجر الآتي،

غيومٌ تشبه البلدانَ

لونٌ واحدٌ للبحر والنومِ

وللعشاق وجهٌ واحدٌ،

وسنعتاد على القرآن في تفسير ما يجري،

سنرمي ألفَ نهرٍ في مجاري الماء

والماضي هو الماضي، سيأتي في انتخابات المرايا

سيِّدَ الأيّامِ».

الرمل عند محمود درويش كالبلدان العربية الهشّة مثل الغمام، بينما تحمل رؤية عادل سعد منظوراً مغايراً، فالرمل دال في غيمة الشعر والكتابة الفسيحة بالجمال. يقول في قصيدته «بكِ.. الأُنثى التي هيأت رملها»:

«يُشيرُ الرملُ

أن كُنْ سقيفةً صباحيَّةً لغيمةِ الشعرِ

تاريخَ نومِهَا الجمالِيِّ

لتَكتُبَ شيئاً

فسيحاً

عنِ الخلقِ والصلواتِ النسيمةِ».

ويخرج محمود دروش عبر رموزه إلى الإشارة إلى حالة النسيان للهمِّ العام وقضايا المصير العربية:

«أرى في ما أرى النسيانَ، قد يفترسُ الأزهارَ والدهشةَ،

والرملُ هو الرملُ. أرى عصراً من الرمل يغطينا،

ويرمينا من الأيام».

وبينما في قصيدة عادل سعد فالرمل أيقونة للقِطاف وإيناع الثمر؛ البرتقال والأنثى:

«الرملُ تأويلُ القِطافِ، مُحصَّنٌ بِنُضُوجِ ثمرةِ الأُنثى

الأُنثى التي هيأت رملَها بقارعةِ الجسدِ».

أما في مدونة محمود درويش لا يعدو الرمان كونه دماً للشاعر، ولا يعدو الرمل كونه رمزاً لحالة إحباط من إثقال الهمِّ العام المنتسب للقضية لذاته الشاعرة:

«أمشي إلى حائط إعدامي كعصفورٍ غبيٍّ،

وأظن السهمَ ضلعي

ودمي أغنيةَ الرمّان. أمشي

وأغيب الآن في عاصفة الرمل،

سيأتي الرمل رملياً

وتأتين إلى الشاعر في الليل، فلا

تجدين الباب والأزرق

.

.

ضاعت لفظتي وامرأتي ضاعتْ..

سيأتي… سوف يأتي عاشقان

يأخذان الزنبق الهارب من أيامنا

ويقولان أمام النهر:

كم كان قصيراً زمن الرمل

ولا يفترقان».

ويفارق عادل سعد سوداوية الرمز عند محمود درويش من خلال عرضه للرمز – الرمل، الثمار – كدوال لليقظة لا للنسيان؛ في قصيدته «بكِ.. أثقلُ الحدائقَ حتى ثمارها»:

«يا لثماركِ

وأنا ألبسُ رصانةَ العارفين

ألبسُ يقظتكِ المضيئةَ

يا لثماركِ

على الرملِ في آخرِ اللُهاةِ تكونين وبكفيكِ تقومُ الرغبات إلى هيكلها

وبكِ أُثقلُ الحدائقَ حتى ثمارها».

بالنسبة لمحمود درويش فالرمل ضياعٌ متعدد الأوجه، وقحط لا أمل فيه أو مفر من تجرُّع كأس المنية والحتف:

«إنَّه الرملُ

مساحاتٌ من الأفكار والمرأةِ،

فلنذهب مع الإيقاع حتى حتفنا

ضاعت فكرتي وامرأتي ضاعتْ

وضاع الرمل في الرملِ.. ».

وتتمثل المفارقة في تمنِّي محمود درويش أن ينتهي عصر الرمل الذي يرى فيه الضياع، وأن يأتي عاشقان بعد ذلك في جو متخيّل مُتمنَّى، وبالمقابل يخاطب عادل سعد الرمل ممثلاً نفسه ومحبوبته بوردتين؛ ويسلِّم على الرمل:

«أيها الرملُ

أنا الغريبُ/ أسرابُ يديكَ وتاريخُ القطا

اِسمي

سلامٌ من الرملِ

منكَ

كوردتين من ظمأٍ

تشتبكان بالعشقِ

فناءً

في دمي».

وإذ يهبُّ عادل سعد ليلقي سلامه على الرمل، فمحمود درويش لم يعلِّق برمزه إلا الوداع:

«ووداعاً… للمسافات

وداعاً… للمساحات

وداعاً للمغنين الذين استبدلوا القانون بالقانون كي

يلتحموا بالرمل…

مرحى للمصابين برؤياي، ومرحى للسيولْ».

أشار الناقد محمد مساعدي إلى الرمل في قراءته لديوان «الرمل» للشاعر أحمد القاطي بقوله: «هذا العنوان يفتح توقعات القراء على مدلولات شتى يتسع لها دال الرمل، صوتياً على الأمل فهذا الدال يدعونا إلى استحضار فضاءين متباينين إلى حد التعارض هما فضاء الصحراء وفضاء البحر»… ونجد فضاء البحر متمثلاً كما في قصيدة «لو أن البحر يشيخ» لأدونيس:

«لا وقت للبحر لكي يتحدث مع الرمل:

مأخوذ دائمًا بتأليف الموج».

نجد في هذا السياق عادل سعد يتناص – بصورة مقارِبة – في قصيدته «بكِ.. طويلاً أساكنكِ القصيدة» مع ثيمة البحر:

«الرملُ اتساعُ البحر/ أسهانُ الحياةِ/ مملكة الأيائلِ التي تخرجُ في بياضِ الليلِ/ تحاصرها رحلةُ الروحِ في فراديسِ السبيلِ/ بها الأحلامُ باذخةُ المكوثِ على طُرقِ الضَّرامِ/ طيورٌ مزركشةٌ على قمصانها ودقٌ غيدقٌ من لغاتِ العارفين

كيف تشربني إذن؟».

لكن البحر عند عادل سعد دالٌ على الاتساع، فماء البحر غير سائغ للشرب. والفضاء الذي حيَّز الرمل في ديوانه هو الصحراء، بما ترامى عليها من بحيرات كما نثر في قصيدة «بكِ.. أثقلُ الحدائق حتى ثمارها»:

«أعرفُ أن للرملِ أشباه البحيراتِ كلوحةٍ مأهولةٍ بالحياةِ الرافلةِ وأن للرملِ سوسنةِ الهِباتِ الناضجة كقديسةٍ تتذكر أخطاءها».

وفي قصيدته «بكِ.. يختبرنَ عذرية البراكين»:

«سُهدُ البحيراتِ شباكٌ تمتدُّ في الرملِ

تمتدُّ كرخامٍ يُدشِّنُ غيوماً تُبللُ أعاصيرَ امرأةٍ تُبحرُ في جمرٍ».

ويجد عادل سعد رابطته الخاصة للرمل والبحر في مدلول الخلود. يقول في قصيدة «بكِ.. الأُنثى التي هيأت رملها»:

«بكِ يسكرُ الرملُ حتى احتراقِ العصافيرِ تحت سماءٍ من بياضِ النبيذِ

من خلودِ البحارِ في الرملِ

من جنونِ العشقِ على قدميكِ».

وعن ذاكرة الرمل يقول عادل سعد في قصيدة «بكِ.. طويلاً أُساكنكِ القصيدة»:

«الرملُ لا ينسى أقدامَ العابرين

لا يعودُ في الأساطيرِ

في النطقِ

بين تاريخه والقُبُراتِ

في براعمه

الوثيرة».

متناصاً مع الشاعر السعودي سلطان السبهان في قصيدة «ذكريات الرمل». وهو يحكي عن الطين:

«من قصة البدو أوحى الطينُ سُمْرَتَهُ

إليه فاشتاقت الأحزانُ تقطفه

يرعى الخيالاتِ

مُذ كان المدى لُعباً

وطفلةً من يد الألعاب تخطِفُهُ

يستنطقان الندى أسرارَ بهجتِهِ

وفيهما..

من شقاء الحبِّ ألطفُهُ

حنينُهُ،

ذكرياتُ الرمل في دمِهِ،

رضاهُ ، فلسفة الشكوى،

تَعَفُّفُهُ».

وفي نفس السياق التوظيفي للرمل في الذاكرة؛ يقول الشاعر البحريني قاسم حداد في قصيدته «ذاكرة الرمل»:

«للأرض تاريخها

مثلما للتراب التفاصيل والنخل والذاكرة

من يقرأ الرمل

مازال في نرجس البحر شوق

وياقوتة القلب تغوي الإشارات

فاستنهضوا سرها».

والشاعر قاسم حداد يدبج شعره بثيمة الرمل، بكثرة، بحيث لا يخلو ذكر للرمل في أشعاره من تناص يمكن قنصه في ديوان عادل سعد. وعن علاقة الرمل بالأساطير يتناص المقطع السابق لعادل سعد مع الشاعر السعودي محمد الثبيتي في قصيدته «التضاريس»:

«ترتيلة البدء:

جئتُ عرافاً لهذا الرملِ

استقصي احتمالات السوادْ

جئت ابتاع اساطيرَ

ووقتاً ورمادْ

بين عينيَّ وبين السبت

طقسٌ ومدينهْ..

خدر ينساب من ثدي السفينةْ

هذه أولى القراءاتِ

وهذا ورق التين يبوحْ

قل: هو الرعد يعرِّي جسد الموتِ

ويستثني تضاريس الخصوبهْ».

 

  • وإن كان محمد الثبيتي جاء عرَّافاً للرمل، فعادل سعد أسهم بطوالع العشاق في الرمل، في قصيدة «بكِ.. يختبرن عذرية البراكين»:

 

«ويحملنَ المواعيدَ عددَ أنفاسهنَّ الظامئاتِ

ويختبرنَ عُذريِّةَ البراكينِ بالتراتيلِ الطويلةِ

لتقرأهنَ طوالعَ العُشاقِ في الرملِ

كالأساطيرِ

المحفورةِ في كُهوفِ الأنبياءِ

كناصيةِ اليقينِ

أنساغُهَا».

 

  • وإن كان محمد الثبيتي جاء مبتاعاً للأساطير، فعادل سعد يختال بتصوير مبتكر مستلهماً أساطير الحضارة الأمهرية/ الحبشية، لأنثاه. في قصيدة «بكِ.. تقودني بوصلةٌ لفاتحةِ البلاغة»:

 

«الرملُ نكهةُ الزنجبيلِ والأنثى بُنُّهُ المُبلَّلُ بالأساطيرِ الأمهرِيَّةِ، يُغَسِّلُ أطرافَهَا بنُورِ أقاصيهِ، بأنفاسِ كَمِينِه المُحْكَمِ المُتألقِ بهذه الطريقِ التي بادلتْنِي دماً بدمٍ كَي أكُونَ رملاً يشتهي كفَّةً بأنفاسِها».

 

  • ويعلِّق عادل سعد قراءة الطالع بمشيئة الرمل، في قصيدة «بكِ.. امتدادُ طواسينه المبدعة»:

 

«على مشيئةِ الرملِ

يقرأُ العاشقُونَ الرملَ

يقرأُ الرملُ العاشقينَ

قلتُ:

الظمأُ يقينٌ

واليابساتُ شمسٌ تبريزيَّةُ الرُؤى

والجسدُ

انقداحُ قرنفلةٍ

في كرنفالِ المجراتِ».

 

  • وفي قصيدته «بكِ.. على عسلٍ عناقيد اشتهائي» يضع الأساطير ضمن رؤاه للرمل:

 

«الرملُ

إغماضُ التينِ في بُكاءِ الأُغنيةِ

نِداءُ الراحلينَ/ نواقيسُ الصحارى وهي ترفُو ما يخُطُّ العابرُونَ بأجنحةٍ النوى/ أساطيرُ من خَبَبِ الحُداةِ الرسوليين يُشعلُونَ بذرةَ الليلِ بأسماءِ العاشقاتِ/ يقولونَ: نحنُ رتقُ المشيئةِ لأحوالهِنَّ

مُذْ مسَّهُنَّ العِشقُ السماوِيُّ

يُسبَّحنَ

ظامئاتٍ

في

الصدى».

 

  • وعن القيام يقول محمد الثبيتي في قصيدته «الفرس» عن قيام ماء البحر:

 

«إن قام ماء البحرْ!

صاغ الرمل بين مقاطع الجوزاءِ

مُهراً عَيطموساً فاتحاً

من قمة الأعراف ممتدٌ…..

إلى ذات العمادْ».

 

  • متناصاً مع عادل سعد في صور شعرية ارتسمت فيها قيام/ النوايا، والكحل، ومكارم الفتنة، والمناجاة أعلى شاهق الماء. في قصيدة «بكِ.. أُثقل الحدائقَ حتى ثمارها»:

 

«الرملُ نواميسُ الحياةِ

على يمينه تقومُ النوايا

تقومُ قيامةُ الكُحلِ أسفلَ نُعاسِ العذارى

تقومُ مناجاةٌ أعلى شاهقِ الماءِ

تقومُ مكارمُ الفتنةِ الخالقةِ

كأنكِ في رُواءِ التجلِّي

خُبزُ سريرةٍ

ناصعةٍ

من الرملِ إلى الرملِ

صعودكِ

الأخيرُ

.

.

أنت القيام الوحيد في الرمل مشتبكٌ بالمنام في مجاهيلهنّ

ومذبوحاً بهنّ

كحالةِ الشعر الكريستالي بالظن».

 

  • وفي تقنية تقطيع أنيقة للحروف كتب محمد الثبيتي في قصيدته «موقف الرمال موقف الجناس» حروف اسمه مقطعَّة كتابةً لا رسماً:

 

«ثم أوقفني في الرمال

ودعاني:

بميم وحاء وميم ودال

واستوى ساطعاً في يقيني

وقال:

أنت والنخلُ فرعانِ».

 

  • ونفس التقنية نجدها في قصيدة «بكِ.. تقودني بوصلةٌ لفاتحةِ البلاغة». حيث قطَّع عادل سعد حروف الرمل:

 

«بتعويذةٍ في الرملِ تتبعُ خيطاً من الشوقِ/ أتبعُ طيراً غامضاً في البصيرةِ

مُرتبكاً

تقُودُنِي (الراء)  حيثُ مكامنِ الراءِ في مشاهِدِهَا

أتشبَّثُ بنبضةِ التنزيهِ

(بالميمِ)

بالأصابعِ

(باللَّامِ)

بالعناقِ».

 

  • ونفس الأسلوب في قصيدة «بكِ.. الأُنثى التي هيأت رملها» لكن بدون مراعاة لترتيب حروف الرمل «الراء، الميم، اللام»:

 

«الرملُ

يا عقيقُ الإلهِ

بالغامضِ في ثمارِ الإناثِ

الإناثُ المليئاتُ بالثمارِ الغامِضَةِ

برملِهنَّ

طَوَّبْنَكَ في طوافِ السُّكُونِ المُلَّثَمِ بشهوةٍ رقراقةٍ من أثداهِنَّ

ويصهَرْنَكَ

هُنَّ الوحيداتُ

الساكباتُ عليكَ في (الميمِ) (رَاءَ) شمسهِنَّ الظامئةِ

بأحلامِهِنَّ المُكَدَّسَةِ يُفَتِّقنَ ما تبرعَمَ من استتارِ عينيكَ بهِنَّ

يستتِرْنَ مِنَكَ بِكَ

فتبدُو أنيقاً على أجسادِهِنَّ

شفيفاً

كبَرِيَّةِ النهارِ الفسيحِ

إليهنَّ

في (اللامِ) تَخرُجُ

يا زُجَاجَ الزمانِ وحارسَ الكمنجاتِ في أذرُعِهِنَّ الزلالِ».

 

  • ويضعُ الشاعر الفلسطيني أحمد بشير العيلة حسرةً وأسىً كبيراً في رمز الرمل على قضية فلسطين؛ في قصيدة «رمل الأحاديث الشريفة»:

 

«الرملُ خارطةٌ بليدة

شربتْ معابرَنا الأنيقة فاختفتْ أقدامُنا

شربتْ نواصينا

ولم ينبتْ لنا خيلٌ طوال فجيعتي

إنني المسحوبُ من أقصى المدائن

من جذور بيوتنا

والمقيّد في قوائمهم

عاجزٌ جسدي

ذاهبٌ للرمل يومياً ليفنىَ

مفتّتٌ بالاحتمال

مُكَوَّمٌ في كل صوتٍ

هل أتاكَ حديثُهم؟

إنني رملُ الحديث وأغبرةُ الخطابة

إنني ريحُ السَّموم الباهظة

الآن تفركني الإجابةُ عن سؤال القمح

خُبزاً للصحابة.

.

.

يا ريحُ

خُذْ رملي بعيداً عن عيون القافلة

بدِّدْ مساحة قامتي في كل ساعات الرجوع

بين التروس أصابعي رمل ٌ

متعطلٌ هذا المدى

مُتَحَنِّطٌ وجهي على مرمى انكساري

وأصابعي ذَبُلَتْ صراعاً كاملاً،

.

.

إني رسول عاجز

أَكَلَ القوافلَ كلها قبل الوصول

وأتىَ على ظهر الذئاب

إني رسولٌ من رمال

لا جغرافيا به

مُكَيَّفٌ للدَّوْسِ والإِخبار عن كل المقاصد

مُتَفَنِّنٌ في الكشف عن آثارهم

لا تمروا من خلالي

ستأكلكم رمالي إن أتيتم

كل صحرائي عظام

.

.

هل كلما حاولتُ يافا

أنهكتني زهرةُ النَّرد اللئيمة

وانتصبتُ كخيمةٍ في الريح

احتمالاتٌ تُشَكِّلُنِي

ملامحي انقلبتْ مئات

عاريُ الرأس تماماً

جاهزٌ للقصف

مُتْعَبٌ.. مُتْعَب

يا إلهي

خلقتهم من طين

وخلقتني من رمل!!».

 

  • وإذ يتحسر أحمد بشير العيلة على حال موطنه بتمثيل نفسه كمخلوق من رمل؛ فعادل سعد في قصيدة «بكِ.. أثقلُ الحدائقَ حتى ثمارها» يرى في كينونة الرمل يخاضير الحياة:

 

«أكونُكَ

أيها الرمل

وبكَ

يذهبُ الظمأُ قريباً من يخاضيرِ الحياةِ

ولا يجئُ الهديلُ مثل جُمَّيزة المناخات

لا أجئُ عميقاً من كللِ الصباحِ الذاهبِ في نزهةٍ تليقُ بزنبقةٍ تلبسُ اشتهاءَ القلبِ، وتؤوي عصافيرَ المواعيدِ في معارجها نحو حاستنا الوحيدة».

 

  • تغازل الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت الرمل (بالمجازات) في قصيدة: «حفنةُ رملٍ تخصُّ المرءَ وحدَه»:

 

«سيكونُ بمقدورِهما اختزالُ الكورنيشْ

ورذاذِ المتوسطِ

في خمسِ ساعاتٍ،

واستبدالُ معطفٍ من الجينزِ الأزرقِ

وقبَّعةْ،

بمجازاتٍ أفلتتْ بكارتَها

فوق كومةِ رملٍ

داخلَ قنينةٍ من الزجاجِ،

زائفةٍ بوضوحْ،

وصغيرة».

ويخاطب عادل سعد الرمل (بالاستعارات) تارةً في قصيدة «بكِ.. طويلاً أُساكنكِ القصبوضوح

«كحديقةِ الفيروزِ في المكامنِ ترتمي بهنَّ

لكَ الآن

أن تلفهنَّ في استعاراتِكَ المشاكسةِ، وتوزعهنَّ على خرائطِ البلادِ كمشةً من اليواقيتِ وحريقاً من الولهِ المُصطفِ ببابكَ النُوريِّ، وتمشي على أكتافهنَّ بمكرِ الطقوسِ، تُعلمهُنَّ سرقةَ العاشقينَ

وفي كل نأمةٍ ينتحبنَ

ينتحبنَ

ينتحبنَ

يا عشيرةَ الإناثِ».

ويخاطب الحبيبة (بالمجازات) تارةً أُخرى في قصيدته «بكِ.. الرملُ بتلاتٌ ينتفضنَ»:

«هو الرملُ

مصابيحُ الحبيبة

الحبيبةُ فراديسُ المباهجِ/ جوهرةُ المرايا/ صولجانُ الجهاتِ/ أناشيدُ الكواكبِ على ستائرِ المياهِ واحتفالها بنهرينِ من نعاسِ ملكوتها

هي إدخالكَ في شرائعِ شهواتِها

في برزخياتِ أنوارِها.

.

.

يا حبيبةُ

يا قرينةُ المجازاتِ

أسكُنُكِ

واحداً في التعدُّدِ

أسكُنُكِ

مُتعدِّدَ المقامِ في النهارِ الملائكيِّ

أشتمُ حُسنكِ أبعدَ فراسخِ الروحِ

وأبكي من شعفِ رعشتكِ

في اكتمالِ البكاءِ».

يخاطب الشاعر الجزائري عثمان لوصيف محبوبته مستدعياً كوثرها في قصيدة «حورية الرمل»:

«حورية الرمل

آه!

يا كوثرها العاشقَ..

يا نهرَ الغزل

واللحون الصافية

رقرِق الخمرة فوق الرمل

رقرِقْها.. ودعني أغتسل

فيك».

وهو ما نجده عند عادل سعد مضمناً كتشبيهات متعددة في قصيدة «بكِ.. أثقلُ الحدائق حتى ثمارها»:

«هنا

بالمجازِ البسيط

سؤالُ الكفِّ للكفِّ/ كيانٌ باهرٌ/ شطحٌ نبيذيٌّ

ترنيمةُ الأجسادِ بالرملِ/ كوثرها».

أما الشاعر العراقي ماجد البلداوي ففي قصيدته «احتراقات الرمل» يعبر عن أوجاعه بالرمل:

«آه صبي يا كؤوس تأرقي وأساي

قد ضل المسافر دربه، المنفى

أيعشب أم يذوب؟

ذاب الجليد،

وخلف الرمل الممدد

خلف الوجع الخفي

فكيف تتحد الحجارة بالحجارة

كيف يشتعل الرماد،

ذي حبة ألقيتها في الرمل

واحترقت وأورق وجهها،

ذي غيمة في الصيف يابسة

ينزُّ.. ينزُّ من أجراسها مطر

وتنحسر السيول».

ويرى عادل سعد في الاحتراق رؤية مغايرة، خالية من الوجع، هاجسها الشعر؛ في قصيدته «بكِ.. أثقلُ الحدائقَ حتى ثمارها»:

«تقولُ الحياةُ لفعلِ الحياةِ انتساباً للجنوحِ:

حفَّني بالرملِ في الرملِ

حفَّني بالناي

حفَّني اِحتراقاً للقصيدة في شقائقها

واشعلني

مُشرداً على متاحفها/ الرؤى

كسوسنات الليل/ كعُصارة الترتيل/ كغنجٍ ساهرٍ على مِشاش الندِّ/ كسلالات مجهولة الرهبان أو الركبان تمضي إلى نجمٍ يزهر في المرايا مضارب في نسيج الروح

.

.

اشعلني

عاشقاً لمفاتنِ سُكرِها

ومخبوزاً من لذاذة خمرها

ومرصوفاً على مواقد وجدها

ومحفوراً بفطرةِ الأحياء للأحياءِ

كي أُحاورها اكتمالاً

في الندى».

تصف الشاعرة السورية بهيجة مصري إدلبي في قصيدة «محارة الرمل» حيرتها بحيرة محارة الرمل، وتجمع الأضداد مبيّنةً اختلاطها:

«رأيتُ خلف المدى ما كان يقلقني

محارة الرمل حيرى في حوافيها

فسرتُ حتى انتهى فيما انتهى بصري

ولامسَ الغيبُ روحي كي يوافيها

أنا هناك هنا في ظلِ بينهما

أنا الحقيقةُ والوهمُ الذي فيها».

ويرادف الأبيات السابقة ما دوّنه عادل سعد في قصيدة «بكِ.. اُثقلُ الحدائقَ حتى ثمارها» عن الأضداد:

«يا لهذا الثغرُ على الرمل غُلَّةٌ طليقةُ اللونِ

غِوايةٌ تُسمِّي أضدادَها».

وما زال في جعبة الرمل في ديوان عادل سعد كثير مما يقال عنه (من الشعر ما لم نقرأه بعد) ولعلّ خير فصل للخطاب ما قاله عادل سعد:

«شهدَ إيقاعِي خُيُولاً من مُهجةِ الماءِ

وبي

مملكةٌ تُضئُ شهوةَ البركانِ للرملِ»!

 

مقالات من نفس القسم