يقدم الروائي في آخر أعماله “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” معماراً سردياً: نفسياً،وفكرياً من شأنه امتلاكه مقومات الإبداع العميق،الإبداع الذي يطرح التساؤل والدهشة على المستوى الفني والفكري، يطرح التوجس والغرابة والخوف، يطرح الخروج من التابوه إلى عوالم التحرر الفني والفكري.ويبدو أن علاقة الفرد “النموذج”بالمكان أو “بالمدينة” لم يزل هاجس “إمام” ،ففي روايته “هدوء القتلة” لعب على علاقة جدلية بين مدينة “القاهرة” وقاتل شاعر، كيف يتفاعلا؟ كيف تنطبع وجوه المدينة على الوجوه النفسية والمادية لشخصية النص؟
في نص الحياة الثانية.. تظهر علامات استفهام أخرى شكلت علاقة “كفافيس” ببلاد متعددة تنقل بينها، مثل تركيا واليونان وإنجلترا وغيرها من الأماكن.كل منها كان له تأثير ما في ثقافة كفافيس، ولغته ،ومظهره، وتكوينه النفسي والجسدي, يتضمن النص محاور متعددة: علاقة المبدع بالكتابة، بالنص الشعري والروائي، فلسفة الشعر، كيف تولد النصوص، حيواتها، علاقتها بمبدعيها، اللغة ومستوياتها، ووعي الفنان بالتحولات التي تطرأ على الأساليب.
مشاهد متشظية
يتبدى واضحاً بالنص الكتابة عن فعل الكتابة والإبداع، ذلك لأن النص يتكون من أربعة نصوص متداخلة، يتضمن أحدها “الإطار”. الثلاثة الآخرين.يعبث “إمام” بالحبكة الكلاسيكية التقليدية للحكاية، ليسردها مشاهد متشظية،تتضمن نظامها في فوضاها،في بنائها المتعدد والمتداخل،في طريقة صوغ أساليب النص ولغته.يقدم طارق إمام الحياة ،من خلال هذا النموذج البشري، وهي في حالة اختلاطها،في حالة تلقي هذا المزيج بروح الشعر، انصهار معاني الحياة وطبائعها معاً بحيث لا يمكن الفصل بينها، الموت والحياة، الإحباط والتحقق، التسامي والغرائزية، الشذوذ والسواء، الحب والكراهية، الشعر والرواية، كل تلك المعاني وما قد تبدو ثنائيات لا يمكن الفصل بينهما أو اختيار جانب واحد منها. الحياة التي تختلط فيها المعاني والمتناقضات، لكن قُدر للإنسان أن يحياها هكذا، تكوين يشمل تجاوراته وفوضاه.
تبدأ الرواية من خلال محاولة “ألكسندر سنجوبوليس” كتابة مسودة رواية عن كفافيس في الخفاء، ألكسندر صديق الشاعر أو خادمه أو مساعده أو عشيقه، ويذكر الروائي “السارد الضمني” ،أن ألكسندر ربما لم يوجد من الأساسس 6 ومنذ البداية تبدأ رحلة التفكيك التي أشرت إليها.النص يحكي قصة مرض كفافيس وفقدانه لصوته بعد استئصال حنجرته لإصابته بالسرطان، وتبدأ رحلة السرد ما بين أحداث الحاضر التي يعاني فيها الشاعر النهاية واقتراب الموت، وانتقاءات من ذكريات ماضيه، تنقله بين الإسكندرية وانجلترا وغيرها من البلدان، علاقاته بمجموعة من الشخوص المعاصرين له، الذين عاشوا معه في الحقيقة في تلك الفترة، أو شخوص متخيلة يُخلِّقها الروائي لتجلية جوانب من الحياة الثانية لكفافيس، الحياة غير المعلنة، والتي نسج الروائي خيوطها من خلال استبطانه لشعره، ومن خلال جدل دائم مع المصادر المتعددة التي قرأها حوله ، جدل يقوم على الشك والتفكيك لكثير من المعلومات الواردة في المصادر، نظراً لتعدد التواريخ لنفس الأحداث، وبعض الإشارات التي ترد في بعض المصادر وتختفي في الأخرى، ونظراً إلي طبيعة كفافيس الشاذة التي خلقت مأزقاً آخر استنفر الروائي لنسج خيوط حياة ثانية غير معلن تفاصيلها في المصادر، حياة من الحتمي أن كفافيس ضرب عليها سياجاً من السرية النسبية، تعتيم خاص بعلاقاته مع بعض الرجال والنساء.كل هذه الخيوط تجمعت مع علاقة الشاعر بمدينة الإسكندرية بوجوهها المتعددة لتحكي عن رؤية تمتد من الخاص إلى العام، رؤية لذاته وللإنسان وللعالم والوجود من خلال المكان المتعدد الوجوه،والحضارات،ومظاهر الطبيعة.
يكتب ألكسندر الرواية عن كفافيس في الخفاء، ويقرأها الشاعر دون أن يعلم صديقه،بل يشارك الشاعر ألكسندر في تأليفها، بأن يترك له بعض الأوراق والخطابات ليوجهه إلى منحني سردي خاص، هناك أيضاً مذكرات ألكسندر أو قصاصاته التي توظف من أجل تنمية جوانب من حيوات كفافيس، كما أن هناك تعدد أصوات لشخوص حول الشاعر، كل صوت منهم يلقي الضوء على وجه من وجوه كفافيس وأقنعته المتعددة، فيبدو العمل متعدد الطوابق والمستويات متداخل المعمار،يتشكل كاتدرائية كما ذكرت في المقدمة مشيدة للأسرار، وبث نوع من السحر والغموض.
التقنية .. أداة تحرر
حين تتبلور رؤية طارق إمام لمعالجة التاريخ إبداعاً روائياً على هذا النحو الجدلي التفكيكي فهو إذن يصوب نحو المقدس والمعهود والمتواتر والمنقول والثابت وما لا حصر له من معاني الاستقرار والركود ليضربها في مقتل، يثور على القيد ويمارس المجاوزة في الفن.تتجلى الرؤية ذاتها ومن ثم التقنية وهي أداة تحرر النص، وخروجه على شبكة من الفطر الضارب فوق أقانيم السرد التقليدية، التي تعنى بالمحافظة على الكائن المستقر والترسيخ له وعدم مساءلته.
يسقط الروائي ما بعد الحداثي بذكاء بالغ سلطة الرواية التاريخية التعليمية التي كتبها جورجي زيدان، أو رواية النضج التاريخي التي أسس لها محمد فريد أبو حديد، أو رواية الاستدعاء وإسقاط قضايا الحاضر على التاريخ وما مضى من حوادث، مثل ما أبدع نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وسلوى بكر ورضوي عاشور وغيرهم.ص9.
تمارس الكتابة الروائية الجديدة إزاحة هذه الرؤي التقليدية في كتابة التاريخ إلى الهامش، لتبدأ رحلة المساءلة، فتتنوع الأعمال الروائية المعاصرة مابين التحرر في الرؤية لكن في إطار الطرق الكلاسيكية في تكنيك السرد، مثل ما صنعه “يوسف زيدان” في فريدته “عزازيل” لتصبح مادة السرد بأفكارها هي الحامل الرئيسي للمواجهة، ومن خلالها يتحرر المبدع ويواجه القيود.فتأتي الكتابة الجديدة للتاريخ وهي تنشد الحرية، حرية الإبداع والمبدع،تبرز حرية الفن في صورها العميقة من خلال التقنية والأفكار التي تعرض من خلالها، فالتقنية هي الحامل الحقيقي لجوهر العمل وطقسه الفكري والرؤيوي، هي الحامل الحقيقي لحيرة المبدع واندياحات عالمه ورؤاه للأشياء والمعاني والقيم من حوله، هي المُعبَّر الأصيل عن الشخصية الإشكالية البينية،الأداة الاساسية لتفكيك العالم واعادة بنائه فنيا.
تمثل رؤية “إمام” للتاريخ وكتابته علي هذا النحو التفكيكي والمتصل أداة ثورة وتحرر، كما تمثل آليات بناء سردية الرواية وطوابقها ودهاليزها وكهوفها وقبابها ثورة نحو تراكب البناء، ويتماثل هذا التعدد في الأصوات السردية والتراكب المعماري، مع تعدد الصراعات والطوابق النفسية لدي شخصية العمل،فالتقنية أداة تجاوز، وتمثيل للسياق العام للشخصية وغرابتها، وتحرر من قيد الأسطر التاريخية التي يتصور البعض أنها تقدم الحقائق الناصعة.
تعد أيضاً تقنية الأصوات المتعددة بالعمل: من سارد ضمني عليم، إلي حكي ألكسندر المحدود برؤاه والمتضمن لتدخلات كفافيس، ومذكراته، إلى أصوات سردية أخرى متعددة، درجة من درجات الديمقراطية، حكي للسيرة بحقائقها ومتخيلها من وجوه متعددة، كما تعد الطبيعة الذهنية لعرض السردية وأفكارها، وتقويض منطق هذه الذهنية بمنطق آخر أكثر جرأة وأكثر هدما لمتحفيات الحياة ثورة وأداة تحرر، الأسلوب وبناءه ذاته بمفرداته وطريقة صياغاتها، وطبيعة العلاقات المجازية في تكوين الجمل ثورة هدم وأداة تحرر.
يبدو هدم التنميط والنمذجة في بناء الشخوص، وتشكيلهم في حالات هلامية، متشظية ثورة وأداة تحرر تتناسب مع هذه الرؤية للتاريخ.حرية الإبداع إذن لا تستقي من الخطابية والادعاءات والشعارات،الهتافات الفجة، الجهر بالتزام أيديولوجية ما ومحاربة ما دونها، تتبدى الحرية أسلوب أداء، وآليات سرد، وتكنيك اختيار تقنية، نأيا عن الوقوع في غواية سرد التفاصيل والحقائق المتهافتة للتاريخ أوللواقع، دون وضعها في أطر فنية تبرز فحواها وتدلل عليها.
الغرابة والرواية
يحشد »إمام« لنصه الروائي كل العناصر الفنية والفكرية التي تصنع نصاً يقع في منطقة الغرائبية.تتشكل المنظومة السردية طوال العمل وهي تدفع وتخلَّق نوعاً من الشغف القلق، الذي يصيب قلب وعقل متلقيه بنوع من التشوق المشوب بالوحشة والخوف من هذا العالم المكتظ بكافة العناصر التي تدفع بالتوجس والريبة والقلق ص11. تبرز عناصر فنية في السرد تتمثل في: طريقة رسم مدينة الإسكندرية، والتعددية التي تشكلها، وتلك الأحلام السريالية والكوابيس المخيفة، وطريقة رسم وتشكيل شخوص النص، الطقوس التي تمارسها كل شخصية وتكوينها النفسي والفكري، والأشباح التي تتحرك بالعمل، وتنصهر في تكوين شخصيته الرئيسية.وتبقي “هيليني” خيطاً رئيسياً منذ أول فقرات النص حتى آخره، استحضار الموتى وتحريك حيواتهم من خلال شخوص آخرين، في طريقة من الهيمنة الغرائبية غير المباشرة من قبل “كفافيس” على المحيطين به.يصف “ألكسند”رحلة “كفافيس” وهو يصاحب شبح “هيليني” إلى المقابر قائلاً:(.. أرى الطفلة ملتصقة به تغادر البيت معه، كأنهما اتفقا أخيراً على نزهة مقبضة تقربهما. يغوص بها بين الشواهد، يراها في الظهيرة، خارج الضوء الاصطناعي لهواء البيت، هشة ومطفأة، يصعب تمييز ملامحها وهي تبدو أقرب لظل قاتم، تلهو، تخطف بصرها بالونات بعيدة في سماء الأرواح، أثداء لونه مصبوغة، تستفز شوقها المقموع، يهيأ له أنها تفغر فمها بمجرد أن تراها، يرى لثتها الزرقاء الخالية من الأسنان، ولعاباً رمادياً يسيل من شدقيها. يحملها ويريحها فوق مقبرتها. تستكين فجأة، كأنها استعادت حياتها المفقودة، تظل تكبر في مكانها، وهو يكتب، هنا هواء قصائد، تشيخ، كأن العمر ينقضي وهو يكتبها) ص12.
يرسم الروائي شخصية نصه الشاعر والمفكر والمتمرد وكأنه يستمد حيواته، وقصائده، والنبض في جسده، وتمدد سنوات عمره، من صور ماضيه، ماضيه الذي كوَّن في ذات الشاعر أزمات نفسية موروثة، وجهت حياته وأثرت بها إلى الحد الذي جعله يدفع الحياة الواقعية الحاضرة للهامش، ويصنع ويهيئ متناً حياتياً يعيد فيه كفافيس ذكريات أسرته مع أمه غرائبية الأطوار، وأخته التي تسبب موتها وهي طفلة في طريقة تنشئة خاصة به، كأنه بديل عن هذه الأنثي التي تمنتها أمه وانتظرتها طويلاً بعد عدد من الأولاد الذكور.كما تمثل فتنة في النص نوعاً من المواجهة الحدية الصارخة في حياة ” كفافيس: الشخصية الغربية بتعاليها وسيادتها، في مقابل النموذج الشرقي بشعوره بنوع من الانسحاق أمام الأوروبي رغم شذوذه، الشعور بتفوقه: لغته وثقافته وتحضره، في مقابل تواضع ثقافة فتنة وشاعريتها ،كما تجسد فتنة أيضا الأنوثة والسواء ،في مقابل الرجولة والشذوذ، إعجاب وعشق ،في مقابل استخفاف ونفور.
غواية المكان
غواية المكان بتناقضاته المتمثل في نوع من العراقة وجمال الطبيعة ورغبة التحديث وسعي وراءه في مقابل عادات وتقاليد وأوضاع نتيجة تراكمات من عصور التخلف يقول “كفافيس” (.. كل ذلك أتذكره وأنا أستحضر تلك السكندرية التي عذبتها، كأنني أنتقم عبرها من المدنية نفسها( ص25.
تقترن “فتنة” في النص دائماً بشريط قضبان الترام كالأسكندرية مدينة وحضارات، بخيطين متوازيين لا يلتقيان، ربما يتمثل هذان الخيطان في علاقتها برجل مثلي، أو قد يشيران إلى حضارتين وطبيعتين، أو قد يبعثان إلي صراع داخلي بذاتها، برغبتها في القبض على جوهر الشعر وتعاليه عليها، وحياتها التي تنتقم فيها من ذاتها بالتهتك والانحدار والسقوط، كما يستدعي مشهد موت فتنة على قضبان المترو أو محاولة انتحارها مشهد “أناكارنينا” لتولستوي مع الفارق في السياق السردي. وتظهر بعض الشخصيات في النص وهي لا تمتلك جاذبية الحضور أو حتميته فتقع في منطقة ضبابية ـ فيما أرى ـ تتبدى “كريستينا” ظلاً وردياً شفافاً وباهتاً يقع عليها عبء رعاية “كفافيس” مع ألكسندر، تعشق قصائده، تتصف بعينين كسولتين، لكنهما متسعتين على “كفافيس”وشعره، ربما شعرت أثناء القراءة أني أنتظر من حياة شخصية كريستينا التي حركها »إمام« بالنص أكثر مما وفره لها من ضرورة وجود وتفاصيل، وقد يكون الروائي قد تعمد أن يجسد هذه الشخصيات الباهتة الوجود والملامح ليقول هكذا توجد الحياة.
يرسم الروائي لنصه كثير من الشخصيات الغريبة التي تسهم في تشكيل حياة “كفافيس” يتحدث على سبيل المثال عن “ثيوفيليس” آخر الفلاسفة السكندريين كما يراه كفافيسس وهو الشخص الذي يصفه “ألكسندر” أنه المتورط في جرائم لا تصدق، قتل، سرقة، إخفاء أطفال ذكور، اغتصاب رجال دين. اللافت للنظر أن كل هذه التعددات التكوينية داخل الشخصيات وداخل طبيعة الوجود تلوَّح بعدمية باردة، وتدفع بمزيد من الخوف في النفس البشرية التي تعاني هذه الحياة. لكن قد يتبادر إلى ذهن المتلقي تساؤل بديهي هل يحتمل العالم من حولنا كل هذه النماذج البشرية الغريبة؟ هل يحتمل هذا الوجود الشبحي والكابوسي، أيحتمل كل هذه البرودة والالتباس في علاقة الفرد: مع مكوناته، مع ذاته، مع الآخرين، مع الزمان والمكان، مع المدينة؟ هل للشذوذ الجنسي كل هذا الثقل في المجتمع؟في ظني أن طبيعة شخصية “كفافيس” والمحيطين به وجميعهم في الغالب نماذج لديها صدوعاتها المختلفة، هي ما فرضت هذا العالم ذي الطقس الغرائبي.
تقدم جميع هذه الشخوص:سكفافيسس ،ألكسندر، فورستر، ديمتري، كيرستينا، كلوديا، توتو، فتنة، ثيوفيليس، مجتمع العاهرات، باراسولا، جماعة الحياة الجديدة…، إشارات ودلالات واضحة عن المجتمع الكوزموبولتاني الذي كان يتفاعل بمدينة الإسكندرية، تتجمع فيه الأديان كافة، والانتماءات العرقية والعقدية، يتعايش فيه السلم مع الحرب، العلم مع الجهل، الإيمان مع الإلحاد، السواء مع الشذوذ، يشكل الجميع الحياة في صورتها السمحة التي تنبغي، إيثاكا كفافيس ، الوجود الذي يستوعب ألوانه وأطيافه في مدينة صغيرة تنام وتصحو على شاطئ البحر الأزرق الداكن.
معمار ما بعد حداثي
تتشعب الأصوات السردية في رواية النص فيبدأ الحكي من خلال سارد فوقي عليم يقص الأحداث من خلال سرد ينثر روح الشعر وجوهره، يستدفئ في مفتتح الفصول بمقطوعات من شعر كفافيس تعد برزخا لعالم الرواية المنغمسة برحيق الشعر في وصفه: للشخوص، أو الأماكن، أو طريقة تلقي العالم، يقول السارد الضمني وهو يصف ألكسندر:(.. كي يفتشوا عن ملامحه بين فوضاها)،وعن الإسكندرية لحظة وصولهما إلي الميناء: (حيث لا يزال البحر حقيقياً أكثر من المدينة ومن المسافرين. والهابطون من السفن ليسوا أمام أنفسهم ذواتاً بعد، ظلالاً لأجساد لم تغادر السفن بشكل كامل) ص 23. يبدأ هذا السارد يشكل عالمه الروائي بلغة ووجدان شعري يتلقى العالم من خلال سؤال العلاقات البعيدة، البينية، علاقات تنفذ إلى لب الوجود وتنثره مجازاً يغلف ماديته.
يتخير الروائي هذا السرد الشعري اتساقاً مع العالم الذي سيدور حوله النص، عالم كفافيس، ولذا سيشعر القارئ الذي اطلع على شعر كفافيس أن هناك تناصاً مع روح إبداع كفافيس الشعري، ثم ما يلبث أن يخفت بدرجة طفيفة هذا السرد الشعري حين ينتقل الصوت السردي لألكسندر صديق كفافيس، ويتناسب حينها مع أعداده وكتابته لنص روائي عن كفافيس، يتحول السرد إلى روح الحكي: الذي يتضمن التحليل النفسي، شذرات من الماضي تنثر لتشكيل أبعاد تاريخية وثقافية للشخصيات، يتحول التعامل مع الزمان والمكان إلى طبيعة التقنيات الروائية التي تتقافز بين لحظة الحاضر أو ماضي الشخوص والأحداث أو انتظار الموت في لحظة ستأتي، يستعين الكاتب أيضاً بقصاصات يلقيها كفافيس عمداً لألكسندر، خطابات، تعليقات، مقطوعات شعرية ليوجه ألكسندر وروايته، ويلهو عامداً بكل من هم حوله، لكن يظل السرد الخاص بالرواية رغم تحوله النسبي إلى لغة أكثر تخففاً من المجازات والتكوينات الأسلوبية التي تميل إلى الغموض الشفيف، إلا أنها تظل بها مسحة من الشاعرية التي تتسق مع الجو العام لشخوص العمل.
يتحول السرد إلي منطق اللهو مع العالم، والسخرية منه، والشعور بالعدمية حين يحكي الروائي عن تلصص كفافيس على الرواية التي تكتب عنه، بل ومشاركته ضمناً في دفع إشارات حقيقية أو متخيلة إلى ألكسندر.
لغة السرد
تعلو لغة السرد وتزداد عمقاً في الأفكار، بل وتعرض الأفكار من زوايا غريبة وغير متداولة وهي تعبر عن تلقي “كفافيس” للعالم وقيمه ومعانيه، وللآخرين من حوله يكتب “كفافيس” عن الإسكندرية وتعلقه بها ويعلق على طبيعة أهلها يقول: (“فأنا في النهاية لا أعيش معهم فقط، أعبرهم في المشاهد الضرورية التي يوجدون فيها، ربما نختلف في رؤيتها قليلاً.. هناك فارق بين أن تكون إبناً لمدينة أو ابناً لساكنيها.. وربما أكون ابناً لمدينة أخرى سالفة غير أنها كامنة هنا.. المكان الذي يندثر هو تحديداً ما يشد المرء كي لا يغادره.. إنه عذاب شخصي.. لن أستطيع أن أترك هذه المدينة.. لأن ما اندثر هنا سيكون مندثراً أينما حللت..) ص 24.
تبقى هذه الرواية قادرة على صنع عالم خاص بها، لها فرداتها وخصوصيتها الفنية والفكرية.فحين تصل إلى نهاية النص ستشعر كأنك كنت بإزاء حياتين أو حيوات، مشاهد متنوعة تتحرك في أزمة متنوعة وأماكن متعددة، بأشخاص وأحداث غريبة، مشاهد تقف في مقابلات حدية، صريحة واضحة، أو غائمة حلمية معتمة، في النهاية تشعر أنك إزاء حادثة مروعة، تصادم بين الحيوات وأشكال الوجود، كل هذه الكيانات والصروح التي أقيمت وتنفست وعانت لا تلبث أن تتهاوى، وكأن المحصلة صفر، لا شئ.
وربما تتساءل في أعماقك أكان هناك نص، عمل روائي بدا مشيدا كالكتدرائية؟أم أن كل هذه القباب والأسقف في النهاية قد انفتحت على سماوات واسعة، لتنطلق منها فراشات الفن والأفكار، الثابت الوحيد أن هناك لغة شديدة التركيب والأناقة تخيرها الروائي لنصه، لغة ذهنية تتراوح مستوياتها بحسب طبيعة مستويات السرد، فاللغة عند طارق إمام ليست وسيط محايد، بل هي وسيط شديد الانغماس، صانع فاعل للوصول إلى عدمية مروعة.