التشتت الرقمى.. الرمال الناعمة التى نغرق فيها

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

صفاء النجار

الطنين المتواصل.. مجموعات الواتس، مجموعات الفيسبوك، رسائل البريد الإلكترونى.. تنبيهات مواقع التسوق.. شركات السياحة، المواقع الإخبارية.. طنين، طنين.. الطنين فى الخلفية هو ما أعانى منه وما يعانى منه الكثيرون

ما الذى سيحدث إذا أغلقت كل المشتتات الرقمية.. الهاتف، مواقع التواصل الاجتماعى، الإنترنت.. هل أستطيع؟ أم أننى التى لا أريد الخروج من دائرة الطنين، أريد أن أظل مشغولة.. أخشى أن يفوتنى شىء؛ خبر، معلومة.. وقد يكون الإرهاق والضجر أيضًا، لا أريد أن أخلو بذاتى، أن أحاسب نفسى، أقوّمها.. يزداد التشتيت ويموت الضمير، ما بين الإنسان ونفسه.

نعتقد أننا باستخدام وسائل التكنولوجيا نضاعف الوقت، وأننا ننجز مهام متعددة فى وقت واحد، وهذا غير حقيقى.. قدرة المخ على التعلم تُعرف بالمرونة العصبية، و«الإنترنت» يقلص عقولنا ويضعف مناطق التفاعل والانتباه والتعاملات العاطفية.. فى الوقت الذى نبنى فيه مسارات إلكترونية جديدة نهدم مسارات قديمة، ننفق كثيرًا من الانتباه فيما لا يخصنا أو يعنينا، نبتعد تدريجيًا عن الاختلاء بالذات، أن نتحدث مع أنفسنا، أن نعيد ترتيب أفكارنا، استرجاع مواقف من حياتنا، تدعيم فكرة، موقف، علاقة، لوم، ندم، ملامة للنفس، الاختلاء بالذات، فرصة إعادة الترميم النفسى.. إننا بحاجة إلى إعادة ترتيب أولوياتنا.. وهى التفكير المتعمق، الإنجاز الحقيقى.. الانتباه هو الوعاء الذهبى الذى نبحث عنه جميعًا.

تقول الكاتبة «فرانسيس بوث» فى كتابها المهم «مصيدة التشتيت الرقمى»: قبل ظهور الهواتف الذكية كنا ندخل على الإنترنت خمس مرات فى اليوم، الآن ندخل ٢٧ مرة ويظهر الإنترنت وكأنه خلفية لأشياء كثيرة نفعلها.. إن تركيز انتباهك بالكامل ١٠٠٪ على شخص ما أو شىء ما يُحدث ارتباطًا أعمق، ويزيد من لحظات الإبداع، وسيحقق لك نتائج ملموسة على المستويين الشخصى والمهنى.. على المستوى الشخصى، فإن حضورك وتركيزك على أمر واحد سيمنحك حياة أكثر إرضاء، وأقل إرهاقًا، حيث تشعر بأنك المتحكم فى حياتك.. وعلى المستوى المهنى، تركيزك يجعلك تحقق أهدافًا لم تكن تتوقع أنك ستحققها.. نحتاج للتفكير فى أنفسنا وما نحتاج أن نفعل.

إن تقسيم القليل من انتباهك فى جميع الاتجاهات يعنى أنه لا أحد سيحصل على أفضل ما عندك، وستمتلئ حياتك بالأعمال غير المنجزة.. إذا لم نحدد متى، وأين نريد أن نركز انتباهنا فسيفعل ذلك الآخرون، ويتدفق علينا كم من المعلومات لا نحتاجه، وبتزايد الترددات والمعلومات التى نعرض أنفسنا لها سيصبح كل هذا مجرد ضجيج وضوضاء دون استفادة من ناحيتنا.

إننا نصنع معروفًا لأنفسنا ولمن نحب إذا وضعنا بعض القواعد، ومن أجل تواصل أفضل يمكن أن نضع التعليمات التالية:

لن أقابلك لتناول العشاء إلا إذا توقفت عن تفقد هاتفك.

الهواتف ممنوعة على طاولة العشاء.

الحاسب ممنوع بعد التاسعة.

فى عام ٢٠١٠ قاد العالم «ديفيد ستراير»، الأستاذ بجامعة يوتا، حملة مؤلفة من عدد من علماء الأعصاب بهدف اكتشاف كيف يغير الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية والتكنولوجيا طريقة تفكيرنا وتصرفنا، وليكشف كيف يتغير العقل نتيجة العودة للطبيعة، وتوصل إلى أن الانتباه هو الهدف الرئيسى «كل شىء تدركه، وكل شىء تدخله، وكل شىء تتذكره أو تنساه يعتمد عليه».

ويعتقد أن الانتباه الرقمى يومًا بعد يوم يمكن أن «يأخذ الأشخاص المؤدين بشكل جيد ويضعهم فى نطاق يشعرون داخله بأنهم معتلون نفسيًا، وتزداد نسبة الإدمان الإلكترونى، وانعدام الإنتاجية».

وقد وجدت الدراسات أنه بمجرد انفصال الأشخاص لبضع ساعات محددة كل أسبوع عن الأجهزة الرقمية، تزيد إنتاجيتهم أكثر، ويشعرون بسعادة أكبر تجاه عملهم.. فالتركيز على شىء واحد فقط فى المرة الواحدة يشبه تركيز شعاع المصباح.

ورغم أن الكثيرين منا لا يملكون الكثير من الانضباط العقلى اللازم للحفاظ على التركيز لفترات طويلة، حيث نتشتت بسهولة ويطرأ أى شىء يجذب انتباهنا بعيدًا عن هدفنا، لكن العلماء يقولون: إن الصلابة العقلية أمر يمكننا تعلمه.

التركيز نفق يجعلنا نرى هدفنا فقط.. يقول العدّاء الأوليمبى «لينفورد كريستى»، الذى حصل على الميدالية الذهبية فى أوليمبياد برشلونة ١٩٩٢: «تعتبر برشلونة المرة الأولى التى تخطيت فيها الحواجز، متخيلًا طريقى على شكل نفق، وكل شىء على الجانبين غير واضح».

أيها السادة أغلقوا هواتفكم وحواسيبكم كى تعيدوا قراءة هذا المقال بتركيز أفضل.

مقالات من نفس القسم