يقول بطل الرواية “للحكايات باب واحد، نلج منه ثم ندور في عالمها إلى الأبد”.
لكن تلك حكاية مختلفة؛ حكاية لها ثلاث أبواب، ثلاث عتبات يعبر القارئ من خلالها في كل مرة كي يختبر مساحة جديدة! لعبة حكي نواتها البطل الشاب، بينما حبيبته “عائشة” وصديقه “يعقوب” ورئيس اللجنة الأوروبي أطراف فيها؛ جزءٌ من متاهة صنعها البطل بنفسه ليتورط بداخلها الجميع، مجال يُفضي إلى مجال وتجربة مكتملة لا يستطيع القارئ إلا أن يتتبعها حتى آخرها.
“إلى وليد ومحمد… على حاله الجرس الذي علقته ليرن كلما نظرنا في المرآة… غير أننا فقدنا ملامحنا!”
يفتتح الكاتب روايته بذلك الإهداء كإشارة ناعمة إلى أن فقدان الملامح مصيرٌ محتمل جدًا لشعب لم يتوقف يومًا عن المعاناة؛ فتحكي الرواية رحلة شاب إريتري تقمص الأدوار بحثًا عن هوية جديدة، دون أن يُدرك أن ذلك التقمص سيكون جواز مروره لضياع هويته الأصلية إلى الأبد!
“داويت”، “داود” و”ديفيد” ثلاثة أسماء لشخص واحد ظل يبحث طوال حياته عن مكان ينتمي إليه، رأى في الهجرة نجاته، ملاذه من الجوع والفقر وحياة المخيمات، لكنه وفي أعمق نقطة من روحه كان يعرف أن انتماءه الحقيقي والوحيد لن يكون سوى للجبال وللأودية. لم يكن الشارع أو البيت أو حتى الدين خيارًا لذلك الانتماء! كما لم يكن الحب -الذي عاش قصته موقنًا أن ليس بوسعها أن تكتمل- مساحة آمنة تُحرض على الاستقرار في عمقها، أو حتى منجاة لروحه المضللة من الضياع أو من الموت.
يقول الكاتب: هذا ما يحدث حين نرغب في امتلاك كل الأشياء في آن معًا، نفقدها ولا شك.
ثم يحملنا معه عبر حدود الأماكن إلى قلب التجربة، يؤكد على وجودها ويشير بإصبعه إلى من اختبروها! فنراها بعين راويها ونعيشها بشعوره، نمشي برفقة بطله في الطريق ونختبر معه تفاصيل فرصه المحدودة في الحياة. نتفرج على قصة حبه لعائشة، القصة التي خُلقت لتكون إحدى تلك الفرص، فرصة للهروب من مشاعر الفقد والعجز الذي يمتد في الواقع إلى عجز شعب بأكمله… غرامه بقدرته على التحليق بعيدًا… -إحدى طرائقه في الهرب- يحكي لحبيبته قصص نضاله المزيفة؛ ليحاول التخفي من لقاء وجهه الحقيقي… وبقدر ما كان ذلك الحب هو وعاء المشاعر الصادقة والوحيدة في حياته، وبقدر ما كان يمثل الوطن الذي ظل يسكنه دون إرادة منه حتى النهاية؛ بقدر ما كان له وجهان أحدهما لا يشبه الآخر! وجه يبدو حقيقيًا في لحظات قليلة داخل الحكاية، والآخر أكذوبة كبرى. تتكشف للبطل تلك الحقائق مثلما تتكشف لنا خلال الرحلة… مأساته كلاجئ، الحرمان الذي عاشه بمختلف صوره، مشاعره المحايدة تجاه الأديان وعدم انحياز روحه لأيٍّ منها…
وعبر قفزات سردية مميزة من زمن لآخر ومن مكان لآخر، ومن شخصية منتحلة إلى أخرى منتحلة أيضًا! ننتقل مع البطل داخل الحكايات وداخل المدن. نسير معه في شوارع القدس، نرى تفاصيل أركان المسجد الأقصى ونشعر بخشوعه لهيبته… نشم روائح البخور وفتيلات الشمع التي تُشعَلُ وفاءً بالنذور، نقف أمام المدينة التي يراها العالم دائمًا من بعيد، نزور قلبها الحقيقي برفقة بطل الحكاية! ندخل المحال الفلسطينية لبيع الملابس… فكرة التناقض المرعب في الإشارات المطبوعة على القمصان، بعضها يمجد الجيش الإسرائيلي وأخرى -قليلة ومكوَّمة في ركن- تحمل اسم فلسطين تتوسطها علامة النصر!
يتساءل البطل: كيف لمدينة أن تُبدل وجهها تمامًا ما إن نعبر شطرًا إلى الآخر؟ ترى أيُّ واحد منهما يلائمها أكثر؟ أيُّ شطر يشبه ناسها؟
ثم يواجه جزءًا حقيقيًا آخر من روحه بعد لقائه بالباحثة “سارة”، التي تستقبله في بيتها لأغراض بحثية فتضيء المناطق المعتمة في طفولته وفي حياته. يتعرف من خلالها على أمراضه النفسية ويلتقي بعجزه وجهًا لوجه أمام عدستها، يتحسس مواطن الألم في داخله ويوغل إصبعه فيها…
يقول الكاتب: وما الحكي إلا اختلاق، عدا ذلك هو محض تقليد رديء لساعي البريد.
وكما يبرع “حجي جابر” في جعل الشخصية الأصلية تضيع بين أطراف الحكاية، دون أن يمنح البطل فرصة اكتشافه أن المتاهة التي صنعها ليورط الآخرين بين حوائطها هو أول من ضاع بداخلها! يبرع أيضًا في التأكيد على أن قصص الحب يمكنها أن تُروى بشكل مغاير عشرات المرات، مثلها مثل رواية مأساة!
يتبنى الكاتب قضية شعبه ويحمل همها ضمن مشروعه الروائي دون أن يضيف إلى نصوصه نشرة أخبار… بل يحمل المأساة والألم الذي يرافقها من النشرة إلى الورق بصورة تخصه، يحتال عليها فيسلط الضوء على الهامش الذي يكتب عنه جاعلًا منه العنصر الأساسي داخل الصورة! يضع رسالته وتساؤلاته المستترة -الموجعة- داخل حكاية متماسكة، حكاية واحدة تنشطر -كالرحلة- لأكثر من حكاية؛ فننتقل عبر النص من مكان إلى آخر، من تفاصيل حياة إلى تفاصيل حياة أخرى، وبالتبعية من أكذوبة إلى أخرى! حتى يشعر القارئ في لحظة ما أن البطل نفسه لم يعد يمتلك حقيقته ولا حتى يستطيع أن يراها… يتحول إلى جزء من اللعبة وظلِ مرافق له في المتاهة التي خلقها، ولا يستطيع إلا أن يتورط داخل الحكاية حتى نهايتها…
فلا نجاة من الحكايات التي نتورط فيها، حتى لو اعتقدنا خلاف ذلك.
“حجي جابر” صحفي وروائي إريتري، وصلت روايته “رغوة سوداء” إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر عام 2018، وفازت بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الخامسة عام 2019، كما صدرت له عدة روايات: “لعبة المغزل”، “مرسى فاطمة” و”سمراويت” التي حصلت على جائزة الشارقة للإبداع العربي لعام 2012.