أثبت طه حسين في بحثه المطول، وبعد دراسة أسلوبية متفحصة، أن هذه القصائد التي تنسب لشعراء جاهليين ما هي إلا قصائد مكتوبة في صدر الإسلام، ليلقي بذلك حجرًا في بركة كانت راكدة، راكدة لأن أحدًا لم يبذل جهدًا أو ربما لم يتجرأ علي تحريكها.
تعامُل طه حسين مع التراث ومساءلته، والاقتراب من الثوابت وتفكيكها، اعتمادًا علي مبدأ الشك الديكارتي، يجعلنا نتوقف الآن لنسأل: كيف تعاملت الرواية العربية مع التراث العربي؟ هل اقتربت منه بالجدل؟ بالنقاش؟ بالتشكيك؟ هل اقتربت أصلًا لتستفيد منه أو تنهل من خياله؟ لماذا اتبعت الرواية العربية التيارات الغربية؟ وكيف انتبه كُتّاب أمريكا اللاتينية لتراثنا فنهلوا منه؟ وكيف تبنينا نحن مقولات غربية عن تيار الواقعية السحرية والعوالم العجائبية دون أن ندافع عن أننا نبع هذا التيار؟ وفي أي لحظة زمنية أصبح تيار الواقعية هو المتن فيما أصبح العجائبي هو الهامش؟
بحث طه حسين أفضي إلي ما لا يحمد عقباه، بالطبع في نظر المحافظين، محبي الاستقرار والإيمان، أصحاب اليقين والحقائق المطلقة. وبعد مرور الكثير من السنوات، سحب المفكر نصر حامد أبو زيد الخيط ليسائل النص القرآني، ويطرح وجهة نظر علمية حول الوحي والإلهام، فنال ما ناله من تكفير ثم نفي، حيث ودع الحياة علي أرض غريبة، غريبًا كما عاش.
الرواية؟ هذا الفن العظيم الرحب الذي يسع كل الأسئلة، لماذا لم تسائل الثقافة؟ لا أريد أن أفترض الخوف، رغم أن أزماتنا مع المصادرة وقانون الحسبة مزمنة. أريد أن أفكر، وربما هذا تفسيري الخاص، أننا لم نستطع أن نسحب الرواية إلي أرضنا، فظلت رواية مكتوبة بالعربية، لكنها ليست رواية عربية. لا أعني بذلك أن أعمال نجيب محفوظ وأعمال الستينيات والسبعينيات لم تقدم رواية عربية، بل فعلت، لكنها اتبعت المنهج الأوروبي في الرواية، وتحت تأثير الواقعية، التي كانت نتاجًا طبيعيًا لعصر الصناعة والنهضة. بمعني آخر، عالجت الرواية من محفوظ وحتي جيل التسعينيات، في أغلبها، أو كتيار غالب، المجتمع، دون أن تقترب من الثقافة.
ليس في ذلك أي اتهام بالتقصير، ولا محاولة للتقليل من الجهد المبذول والنتاج الجدير بالنظر، بل محاولة سريعة لرصد حركة الرواية، وسؤال عن سر تجاهل ثقافتنا، وتجنب العميق فيها لصالح الظاهر والطاريء، وعدم الالتفات للتراث العربي بكل ما يحمله من لغة وخطاب وخيال. تحديدًا وخيال.
قليلون جدًا من تعاطوا مع التراث العربي، أبرزهم جمال الغيطاني، وكانت رواية “الزيني بركات” رواية علامة. قام مشروع الغيطاني في حقيقته علي الاتكاء التراثي، والانتصار له. لكنه الانتصار للغة. أخذ الغيطاني من التراث العربي لغته، وصنع بها عوالمه، وطرح من خلالها أسئلته. ورغم أن ذلك كان استعادة للتراث، إلا أنها استعادة جزئية.
يقوم التراث العربي في الأساس علي العجائبي والغريب، علي المعجزات والميتافيزيقا، علي ما لا يمكن أن يصدق غير أنه يصدق ويصير مفردة من مفردات الحياة. هل كان الإيمان بالرسالة المحمدية قائمًا فقط علي تفوق لغة القرآن، كما اجتمع الآئمة؟ في رأيي، وقد أكون مخطئًا، أن الرسالة تفوقت في خيالها علي الخيال السابق عليها، فأصبحت بذلك أكثر تصديقًا. ولعل الإيمان بمعجزات الأنبياء دليل علي ذلك. رحلة الإسراء والمعراج كحدث محكي غير مرئي، حادثة مفصلية في الثقافة الإسلامية. وفنيًا، لا تنتمي إلا إلي العجائبي، إلي الفانتازيا، إلي الفانتازيا التي صارت جزءًا من الواقع. وفي تفاصيل المعجزة معجزات أخري صغيرة: المرور بالسماوات، مقابلة الأنبياء، مشاهدة الجنة والنار، تلقي الأوامر بالعبادات والمفاصلة مع الإله من خمسين صلاة لخمس صلوات. كلها أشياء، من وجهة نظر الأدب تنتمي إلي العوالم العجائبية.
ثم نأتي بعد ذلك إلي كتاب ألف ليلة وليلة، بدائع الزهور في وقائع الدهور، ورسالة الغفران، والكوميديا الإلهية كرد فعل لها.. ثم إيماناتنا الصغيرة والمتفاوتة نسبيًا بالميتافيزيقي. ثم قبل أي شيء، بعبارة الكاتب الإسباني خوان مياس، فكرة وجود إله يحرك العالم من وراء ستار. من ناحية أخري، المفردات اليومية التي تشكّل حياتنا، والتي هي في حقيقتها جذور عميقة للثقافة: إيماننا بالأحلام، أو علي الأقل انشغالنا بها أو تجاوبنا معها، أمثالنا الشعبية الناتجة عن تجاربنا الخاصة. ثم التصوف، ليس فقط بمعناه الديني، بل الفلسفي، الفلسفي العميق، الذي لعمقه تجتمع تحته كل الأديان.
هل حدث اتفاق ضمني لإقصاء العجائبي من الأدب العربي ليبقي العجائبي خصيصة للدين لا يمكن لأحد الاقتراب منها؟ لماذا لم تصل المخيلة الشعبية إلي الفن الكتابي وظلت في الشفاهة قابلة للزوال؟
من هنا تأتي أهمية النظر في الكتابة الجديدة، والمقصود بها كُتّاب الألفية الجديدة. من هنا يمكن الحديث عن كتابة جديدة، كتابة لم تخرج من عباءة محفوظ ولا الأجيال التي تلته، بل خرجت، في ظني، من عباءة التراث العربي، حتي ولو ادعي البعض، ربما لقلة اطلاعه، أنها متأثرة بتيار الانفجار اللاتيني الذي سُمي بالواقعية السحرية أو الواقعية العجائبية، أو بفانتازية كافكا السوداوية، أو بورخس الميتافيزيقية. لأن الأخير تحديدًا أكثر من استفاد من التراث العربي، ولعل قصة “المقنع” أبرز دليل علي ذلك. وهذا ليس رأيي وحدي، المبني علي التحيز لثقافتي أو تراثي، فأنا في نهاية المطاف أحد أكثر الذين يؤمنون بتلاقح الثقافات والتنويع في منتجها الفكري. لكنه أيضًا رأي العديد من الباحثين اللاتينيين الذين تتبعوا الأثر العربي في أمريكا اللاتينية، ليس فقط الأثر الاجتماعي، بل الثقافي ومن داخله الأدبي. في كتابه “أثر العربي في سرديات أمريكا اللاتينية” يشير البروفيسور ريجوبيرتو ميننديث باردس إلي القرن الثامن عشر والتاسع عشر كفترة تاريخية بدأت فيها بشكل منتظم الهجرات العربية إلي أمريكا اللاتينية والاستقرار فيها. وخلالها، انتقل العرب بثقافتهم، بتراثهم الشفاهي، بعوالمهم الميتافيزيقية، برؤيتهم الخاصة للعالم، بتصوفهم، بسؤالهم الكبير حول الموت، بخيالاتهم أو إيماناتهم للعالم الغيبي. أقول: بفانتازيتهم وعجائبيتهم. وهناك، حكوا عن البساط السحري، عن الصياد، عن خاتم سليمان، عن العرافات وقراءة الطالع. يؤكد باردس أن قرية ماركيز كانت مليئة بالعرب، وأن زوجته اسكندرانية من أصول سورية انتقل أهلها إلي كولومبيا أثناء هذه الهجرات. ماركيز نفسه، رمز هذا التيار، اعترف أن ألف ليلة وليلة ما دفعه للكتابة.
لكن موضوع تأثير التراث العربي في الثقافة الغربية بدأ قبل ذلك بكثير، إذ مع غزو إسبانيا وتأسيس الأندلس تأسست ثقافة عربية علي الضفة الأخري خلال ما يقرب من ثمانية قرون، تبعها غزو إسباني لأمريكا اللاتينية عام 1492، حمل معه سمات الثقافة العربية ولعل أهمها “الحكي الشفاهي“. نحن هنا نتحدث عن الأثر البعيد، الأثر المتراكم، وليس المقصود بذلك أن هذه الشعوب لم يكن لها تراثها أو أساطيرها، بل الإشارة إلي أن المخيلة العربية أثرت هذه البلاد في تلك الفترات البعيدة. لكن الأثر المباشر كان مع اندماج العرب المهاجرين في خلايا المجتمع اللاتيني، ونقل الرؤية العربية الخاصة في العالم وفي الكون إلي هذه الأراضي.
نلاحظ ذلك جليًا في أغلب أعمال بورخس، بل إن تيمة “الحلم والمتاهة” جزء أصيل في المخيلة العربية، أضاف إليها الكاتب الأرجنتيني الشهير تقنيات سردية منحتها عصرية وحداثة، ويبدو ذلك واضحًا في قصص مثل “حكيم، صبّاغ مرو المقنع” و”الطريق إلي المعتصم“. ففي المقنع نجد المصادر التي استند إليها أو استمد منها الحكاية: مقتطفات من “تاريخ الخلفاء” حفظها لنا البلاذري، “كتاب الإيجاز والتهذيب” للمؤرخ العباسي الرسمي ابن أبي طاهر طيفور، والمخطوطة العربية “محو الوردة” التي تفند الهرطقات البغيضة، بحسب بورخس، “سر الوردة“. بالإضافة لذلك ثمة مصادر عربية أخري أوردت قصة النبي المقنع مثل “البرصان والعرجان” للجاحظ، والفِصل في المِلل والأهواء والنحل لابن حزم.
ربما التفت الكُتّاب المصريون إلي التراث العربي بقراءة روائيي أمريكا اللاتينية، وربما التفتوا لأمريكا اللاتينية بعد قراءة التراث العربي. وربما حرّضت قراءة بورخس كاتبًا مصريًا علي إعادة النبش في تراثه. أيًا كان الترتيب، فالمؤكد أن الكاتب العربي لديه قدرة أكبر علي التحاور مع ثقافته أكثر من الكاتب الغربي، لأنه في نهاية المطاف ابن هذا التراث، وساكنه.
المهم أن هذا التيار المصري الذي عمل علي العجائبي والغريب، سواء بالعودة للتراث أو باستخدام المخيلة والهروب من الواقع بمعناه المعروف، يضم كُتّابًا منهم طارق إمام ومنصورة عز الدين، لم يشكّل المتن، بل ظل علي الهامش مثل أي منحرف، ولفت الانتباه له في السنوات الأخيرة لانتصاره لجماليات الرواية وفنياتها، وقدرته علي التجريبية، ونبشه في الثقافة، واستخدام أساليب جديدة، ابنة اليوم وربما الغد، لتفكيك هذا التراث والتعاطي معه. كل كاتب فعل ذلك بطريقته، بطريقته الخاصة التي تختلف عن الآخر، وبجودة مختلفة أيضًا، غير أن الجامع بينهم هو الإطار العام. الملفت أن هذه الكتابة استخدمت سمات تيار ما بعد الحداثة للتعاطي مع التراث العربي ومساءلته، وطرح أسئلة من داخله. وربما يكون اللجوء لتبني هذه الرؤية في العالم، في رأيي، طوق النجاة للهروب من الرواية التسجيلية التي أتوقع انتشارها في السنوات القادمة نظرًا للأحداث السياسية التي ألهبت العالم العربي في السنوات الأربع الأخيرة، وأخشي أن تترك آثارها السلبية علي الأدب بسحبه لمنطقة أكثر هشاشة وسطحية، وهي العمل ككاميرا فوتوغرافية لتبرئة الضمير وتسجيل موقف سياسي.
2
هنا أقدم نموذجًا للكتابة العجائبية المتأثرة بالتراث العربي..روايات طارق إمام.
صدر لإمام حتي الآن 5 روايات: شريعة القطة، هدوء القتلة، الأرملة تكتب الخطابات سرًا، الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس، ضريح أبي. كما صدر له ثلاث مجموعات قصصية: طيور جديدة لم يفسدها الهواء، شارع آخر لكائن، وحكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها.
تنتمي كتابة إمام إلي ما يمكن أن نسميه بالأدب العجائبي.. ويمكن أن نقول أيضًا إنه الأدب الغريب، بمعني انحرافه التام عن الواقع، واختلاف زاوية الرؤية له، وتقديم رؤية مغايرة، ليس فقط عند طريق الحدث الغريب، بل أيضًا الشخصيات الغريبة، بمعني غير المألوفة في الواقع، بل الأبعد من ذلك: لا وجود لها في الواقع أصلًا، وإن كانت تتماس مع شخصيات واقعية في بعض النقاط. الشخصيات هنا تمثّل أفكارًا مجردة، وعبرها يتم التسلل إلي جذور الثقافة ومعالجتها وإعادة النظر فيها.
في “هدوء القتلة” بطل شاعر يكتب القصيدة بيد ويقتل باليد الأخري. يقتل بناًء علي كتاب مقدس. يقتل ليكمل ديوانه، متخذًا من دم ضحاياه حبرًا، وباكتمال الديوان تنتهي الرواية. بين عالم صوفي تقترب فيه اللغة من اللغة المقدسة، وبين عالم أرضي تقترب فيه اللغة من اليومية، يدور العمل. بطل شاعر ويعمل كمحصل كهرباء. بطل صوفي ويعمل حاصد أرواح.. وحياة تدور في مجملها داخل مقابر، تجتاز رائحة الموت حدود السطور المكتوبة لترسم صورة لعالم مقبض، قابل للتصديق والتأويل، عالم يشبه العالم الذي نعرفه لكنه ليس هو، ليس هو تحديدًا.
يقول الروائي الإسباني خابيير مارياس إن “الرواية هي هذا العمل الفني الذي يجعلك تعرف ما كنت تعرفه غير أنك لم تكن تعرف أنك تعرفه“. بهذا المعني تقوم الرواية بعمل الدليل، الدليل الذي يقودنا إلي أنفسنا، إلي هويتنا التائهة، إلي مفرداتنا التي نتفاعل معها ونستخدمها دون أن نعرف أصولها، إلي هذه العلاقة الوطيدة بين الدال والمدلول، إلي المعني. تحديدًا إلي المعني. وإمام يفعل ذلك بأكثر الطرق فنية، إذ التأويلات المفتوحة تمنح للعمل الصلاحية المفتوحة، والتصاق العمل بالثقافة والتراث تمنحه بعدًا حميميًا رغم غرابة شخصياته، وقدرته علي الإشارة إلي ما نعرفه دون أن نعرف أننا نعرفه تمثل البعد الفلسفي. وهو البعد الذي يكوّن شخصياته المجردة.
يقول الكاتب اللاتيني الشهير إرنستو ساباتو:”الأفكار الفلسفية يمكن عرضها في الرواية، من خلال تجسيدها في شخصيات تعيشها، تناقشها وتحللها، لكنها أيضًا شخصيات مشاركة في حياة مؤثرة وغير معقولة“. هذا ما ينطبق تمامًا علي رواية “ضريح أبي” التي تدور في أجواء صوفية، وحيث البطل الحقيقي هو الرجل الغائب. البطل الذي يحرك العالم من غيابه. من هذه المنطقة غير المرئية. تنفتح الرواية علي البطل الابن في طريقه لزياره ضريح أبيه. أبيه الولي، الولي المقدس، الذي تكوّن حول ضريحه عالم، عالم شديد الغرابة لكنه عالمنا، عالمنا الذي ننظر إليه لكن لا نراه. وعبر المكان المألوف في غرابته يعرض شخصية الولي شديدة الغرابة في مألوفيتها. يبدأ استحضار التراث من التصدير:”فلعله أن ينظر إلي اسمك في قلب وليه” وهي عبارة لأبو يزيد البسطامي. ثم يأتي المدخل:”الطريق بين المقابر العمومية– حيث يرقد جسد أمي– والضريح المتوحد الذي يحيا فيه جثمان أبي، طويل جدًا“. أم تعيش في مقابر عمومية وأب يعيش في ضريح خاص. أم تنتمي للعامة وأب ينتمي للصفوة. أم دنيوية وأب مقدس. أم ميتة داخل قبرها وأب يحيا داخل ضريحه. وبينهما طريق طويل، يجول فيه الابن، من قبر إلي ضريح، من ضريح إلي قبر، من مقدس إلي دنيوي ومن دنيوي إلي مقدس، من الموت إلي الحياة ومن الحياة إلي الموت. هل ثمة عبارة أخري يمكن أن تلخص حياة الإنسان بهذه الكثافة؟
يقول الروائي البرتغالي جوزيه ساراماجو:”بالإضافة لأسئلة من أين نأتي وأين نذهب، يجب أن يطرح الفن الروائي سؤال: ماذا نفعل هنا“. في “ضريح أبي” ما نفعله هنا هو التراوح بين الموت والحياة، بين قدسية الأب التي يجب أن يرثها الابن ودناسة الأم المتهمة بالزنا. ما نفعله هنا هو تتبع المصائر الإنسانية المعقدة جدًا وملاحظة كيف تغدو الحقائق محض أكاذيب، وكيف تصير الأكاذيب هي المتن المتسع لحياتنا. استخدم الكاتب هذا المضمون داخل شكل ما بعد حداثي، داخل تقنية متشظية، تشظي الابن، الابن الحائر المنتزَع من دنيويته قسرًا ليحل في قدسية لا تليق به. تقنية تتحرك في زمن روائي طويل، وعبر محكيات صغري تؤسس لقدسية الأب وكراماته، كما تؤسس لخطايا الأب وانحرافاته. وعبر لغة شديدة الشعرية، تغدو أن تكون المعادل الموضوعي للمضمون. يقول الروائي منذ الصفحة الأولي، كأرضية يبني عليها ما يأتي من حيرة:”وبينما كنت أطلب المغفرة لأمي وأقرأ لها الفاتحة، فإنني كنت أتضرع لأبي، متمسحًا في عتبته، ليمنحني البركات من منامات ميتته المقدسة حيث يقطن“.
يصف الراوي الطريق الذي يجب أن يسير فيه، في إشارة يمكن تأويلها لسنوات الحياة، بأنه “متلوي كثعبان صامت” “زوّد المدينة بحيوانات غريبة خلقها هواء الموت المحكم: مسوخ سوداء لكلاب ذئبية نحيفة بلا آذان أو ذيول، خطومها شديدة الطول، وكلها من الذكور“. “هذه المسوخ بالذات كانت تسمي بالكلاب المقدسة، فقد ترسخ أنها كانت تمد خطومها في جلابيب المارين في الطريق المقدس لتتأكد أنهم ليسوا جنبًا.. وأن من تلاحقهم بالركض الشرس كل فترة هم النجسون من غير المتوضئين“.
هنا ننتقل لمستوي آخر من الغرابة: غرابة المدينة. مدينة تتكون من مسوخ ظهرت عقب رحيل الولي، ودارت حولها الأساطير. يقول الروائي:”لهذا السبب نعيش في مدينة تغلق شبابيكها بمجرد أن تغرب الشمس. منذ مئات السنين لم ير شخص عاقل في هذه المدينة المساء وجهًا لوجه من نافذته. وبالرغم من الحذر الذي توارثته أجيال متعاقبة، ظل السهو يمد مسوخ مدينتنا بأشياء تفعلها، فلم تكن هذه الحيوانات المظلمة تعدم ضحايا مثاليين بين الحين والآخر“. مدينة بهذا الشكل كانت في حاجة إلي ولي يبسط عليها سلطانه، ولو لم يوجد لكانوا خلقوه ببساطة لينعموا بالهدوء. ولي يخضع له الجميع، بما فيهم أعلي السلطات، إذ من بين الرسائل التي ألقيت في ضريح الأب وقرأها الابن رسائل لحاكم البلاد ورجال حكومته“.
هذه المدينة الغريبة تكونت أيضًا بشكل غريب، بشكل عبثي، مثل العبث الذي نجده في خاتم سليمان الراقد في بطن سمكة، أو سندباد الذي يري رجلًا ضعيفًا فيحمله علي كتفه ويظل عبدًا لهذا الغريب حتي يتخلص منه بعد أن يكفر. المدينة تكونت حول الضريح، “من قطيع نساء عاقرات جئن مع أزواج مغلوبين علي أمرهم من البلدات البعيدة، داومن علي زيارته طمعًا في الإنجاب“.
في “ضريح أبي” عالم مشبّع بالصوفية، يتحول فيه الرجل الولي لرجل أبدي، يعيش داخل ضريحه ليدير العالم، فيما يتكون حول قبره مقام، ضريح، مكان يقترب منه المتضرعون ليبثوا شكواهم. في الرواية المروية بالضمير الأول، يحكي الابن صراع ابن الولي والزانية في نفس الوقت، ليكون طريقه إلي أبيه رحلة البحث عن ذاته، وعن أمه الميتة. ابن الولي فاسق، توكّل إليه مهمة الإحلال محل الأب، فتصير الرواية تجسيدًا لأزمة الإنسان العربي المحاط بقداسة يريد التطهر منها.
يستخدم إمام لغة أقرب إلي الصوفية، بأفق شعري محمّل بدلالات ثقافية شديدة الوضوح والتأويل ويعتمد، في روايته ما بعد الحداثية، التفتيت القصصي كتقنية، ويتوسل الخيال الشعبي ليشيد عالمه، ويحشيه بتفاصيله. رواية تقوم علي المحكيات المتناثرة، المتضافرة واحدة مع الأخري، في تقنية شبيهة بألف ليلة وليلة، أقول شبيهة لكنها ليست هي. وتنتصر للتصوف كفلسفة، غير أنها، في الوقت نفسه، تضرب الخرافة في مقتل، إذ تقديس الأفراد ليس إلا إيمانات مهترئة، والولي الجديد ليس إلا ابن الخطيئة. حول الضريح يتكون العالم، ومن داخل الضريح ولي يشبه الإله، والخطايا تُرتكب فوق نفس الأحجار التي شكّلت قدسيته، والإنسان هش لأنه لم يكن مخلوقًا من نور. تطرح “ضريح أبي” سؤالًا عميقًا حول الدين، وتقدم رؤية نابعة من جذر الثقافة، وتعمل علي خلخلة الثابت، ربما ليس بهدف هدمه، بقدر التفكير حوله ووضع علامات استفهام. ولأن العمل الفني رواية وليس بحثًا، لا يخلص إلي تقديم جواب، فقط الاسئلة، والاكتفاء بالأسئلة.
من بين التصورات التي تطرحها الرواية فكرة الحياة المكتوبة سلفًا، حيث يجد الابن نفسه مضطراً لكتابة حياته، التي تتطابق في النهاية مع الكتاب الأصلي، المُعد لكل إنسان طبقاً للمنظور الديني، في احتكاك مباشر مع الجبرية، والانتصار في النهاية إلي الرؤية الحداثية التي تعتنق كتابة كل إنسان لمصيره الخاص.
الشخصيات الغريبة
في مجمل أعمال إمام، ربما يكون العنصر الأكثر بروزًا في غرابته هو الشخصيات. شخصيات خاصة جدًا ومثيرة، وحاملة لمعان عميقة وأبعاد فلسفية. في مجموعته “حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها” نجد صانع الصور:”عينه اليمني المفتوحة حدقة عمياء…والعين اليسري المغلقة دائماً كي لا يهتز المشهد ربما تري أفضل“. ورغم التنوع الكبير فيها، إلا أن العامل المشترك بينها جميعاً أنها بلا ماض أو لا تعرف ماضيها. فالرجل العجوز:” عجوز لدرجة أن ذكرياته نفسها شاخت وماتت في العمر الذي تموت فيه أشد الذكريات قدماً“؛ أما صبي الخطاط:”وجِدتُ في خان مع رجل عجوز قال إن أهلي ائتمنوه عليّ قبل رحيلهم ولم يزد أبداً حرفاً علي هذه العبارة الغامضة التي صارت تاريخي الوحيد”؛ أما المصور :” لا يذكر من أيامه سوي لحظة ولادته“.
هم في ذلك يتشابهون مع “سالم” القاتل المتسلسل في “هدوء القتلة” الذي كُتبت عنه رواية كاملة لم يقترب فيها الراوي من ذكرياته، إلا فيما يخص الناسك صاحب المخطوط المقدس، الذي هو حتماً جد القاتل؛ ومع “ملك” في “الأرملة” التي لا نعرف عن ماضيها سوي قصة حب عابرة وحكاية زواجها. إذن، بالإضافة للضبابية التي تحيط شخصيات إمام، يمكن أن نضيف مزية أخري: أنها شخصيات بلا ذاكرة، وإن تركتْ الحياة علي ملامحهم علامة، أو حفرتْ في عقولهم ذكري، فليس ذلك إلا انعكاساً للحاضر، كأنها حلقة لا يمكن أن تُفقَد لتكتمل سلسلة شبحيتها وغرائبيتها.
من ناحية أخري، هي شخصيات لها علاقة بالتوثيق. فالصبي يخط مخطوط حياته، والقاتل المتسلسل شاعر، والأرملة تكتب خطابات غرامية، والمصوّر يسجل اللحظة بصورة أبدية، وكفافيس شاعر بالطبع.. حتي عندما يكتب إمام عن عجوز خربت ذاكرته، يبرر أنه لم يكتب لأن ذكرياته ستُحرف، وستختلف عن الواقع.
هي أيضاً شخصيات مغتربة، تُقيم في مكان لا تنتمي له في الحقيقة، ف “سالم” في “هدوء القتلة” يري أن :”النازحون من أمثالي ليس لهم هنا مقابر…سيعودون بجثماني إلي بلدتي: مقبرتي الأصلية…في مدينتي الشمالية سأطل من مقبرتي علي القاهرة القديمة”؛ و”ملك” في “الأرملة” تعيش غريبة في مدينة زوجها الراحل و:”لم تعد تعرف شيئاً عن المدينة إلا من خلال هؤلاء البنات“. وفي قصة”الحياة المكتوبة مرتين” لا يعرف الصبي الخطاط من أي بلدة هو، وبالتالي:” كان غموض قصة حياتي قد منحني الفرصة في حرية الكذب بخصوص نشأتي حين أتحدث للبنات الجميلات“. و”الرجل العجوز” يقضي حياته متجولاً في مدن لا يعرفها، أثناء نومه، وبالتالي لا ينتسب إليها.
هناك عنصر آخر يجمع الشخصيات: الازدواجية. فـ “ملك” مدرسة لغة عربية وتكتب خطابات غرامية، و”سالم” معاون تعداد ويكتب الشعر، و”صبي الخطاط” يعمل خطاطاً ويكلف بنسخ كتاب، أما الرجل العجوز فيعمل، نائماً، في كل المهن.
يبرز إمام هاجس العمي في قصتين، “صانع الصور“، و”عينا رجل أعمي“، وينعكس ميله للشعر في قصة عن بورخس ورواية كاملة شديدة الضخامة عن كفافيس. كل ذلك يحيلني إلي فكرة ربما أكون مخطئاً في تصورها:أن كل شخصيات إمام صور مختلفة له هو نفسه. هو الساكن في مدينة لا ينتمي إليها، يصور بذاكرته موتي يتصورون أنهم أحياء. هو من يكتب لأن الكتابة تضمن الخلود، وهو أيضاً الصحفي الذي يكتب القصة والرواية