التدوينة الأخيرة .. سحر السرد عن فردوس غاب عنه العدل!

التدوينة الأخيرة ..  سحر السرد عن فردوس غاب عنه العدل!
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ولاء الشامي

وإني مُفتتنة .. أنهيت الروايةللتو وأطرقت أفكر في ما حل بي أثناء وبعد قراءتها . نعم ، إنه الافتتان

لا أعرف إن كان ما قرأته ضمن أساطير اليونانيين القُدامي وحكاياتهم الخرافية أو هو عالم مختلق متكامل السحر، لكن ما تأكد  لدي هو ذك الخدر اللذيذ الذي سرى في أوصالي طيلة قراءتي لهذه الرواية؛ لأني أعشق الملاحم اليونانية أو كل ماجاء على شاكلتها . لكن يبقى أن لهذه الرواية شخصيتها المتفردة ونكهتها الخاصة.

كما وضح ناباكوف (في مقالٍ له عن الكتاب الجيدون) "هناك ثلاث وجهات للنظر نستطيع أن نرى بها الكاتب: قد نراه حكاء، وقد نراه كمعلم، أو قد نراه كساحر. الكاتب العظيم يحتوي هؤلاء الثلاثة، لكن الساحر بداخله هو من يتحكم به ، ويجعله كاتباً عظيماً ".

احتوى قلم "أحمد القرملاوي" في هذه الرواية على الثلاثة معاً فقد نسج لنا حكاية مشوقة ولم يفته الوصف الأخاذ للشخصيات وما يعتمل بداخلهم ، كما احتوت الرواية على معرفة حقة ورمز هام مما يجعل القارئ ممتلئاً بالأسئلة مكافئا في ذلك أبطال النص "تيها" أو "ماهيزو"، مستعينا بالسحر الذي ألقاه على عين القارئ . سحر لغته  التي جعلتني أقول لا يتكلم أهل الفردوس إلا هكذا، واتقانه للوصف وقدرته الهائلة على ابتداع عالم متكامل لم يفلت منه زمام أمره ولو لسطر واحد، فخلق في القارئ ذلك الشغف الضروري لإكمال أي نص أدبي مستشعراً بالمتعة .  

بلغة شعرية خلابة تأخذنا الرواية في رحلة غرائبية إلى الفردوس حيث لا وجود للزمان أوالمكان فكأنما هو عالم موازٍ يمثل "الحياة البعدية" تتوغل في القراءة قليلاً حتى يتكشَّف لك زيف هذا العالم الفردوسي ، فحياة ما بعد الدينونة تحكمها الطبقية  فتراها مقسمة لثلاث طوائف "النبلاء وهم الطبقة العليا ومعهم الكهان، والدوارج أو الطبقة المتوسطة، وأخيراً العوام "، وتبعاً للإيمان بعقائد دينية باطلة التي رسخها كهان يزيفون الحقائق باسم القدير بإحكام متوسلين إلى ذلك بمنع العلم ، يرتضي ساكني الفردوس بتقسيمهم الطبقي هذا ولا نجد أي سعي للحراك بين الطبقات فالقانون واحد لا يقبل الجدال إما الرضا والتسليم وإما الإبعاد .

حتى قصة الحب بين الجميلة "تيها" المنتمية لطبقة الدوارج المتدثرة بالشك في بحثها عن الحقيقة التي يخفيها الغموض والموروث، والنبيل "شابي" المتمسك بمجد طبقة النبلاء المنتمي لها ويتأرجح بين مكاسبه وبين قلبه الشغوف بحب "تيها"، يرفضها المعبد لتعمق هذه التفرقة بين سكان الفردوس وتظهرها.

 ثم يحدث ما يزلزل ذلك الاستسلام في النفوس، إذ يؤسس الكاهن "ماهيزو" جماعة سرية يسميها "جماعة توهو" تُثار فيها جميع الأسئلة الممنوعة أو "المحرمة"، ويحملون على عاتقهم مهمة إلقاء الحجر في البحيرة الراكدة ، يحاولون استجلاء الحقيقة وكشف سر المعبد وسر أرض العصاة، ولماذا فردوسهم يسوده التمييز والتفرقة، ولكن هل سيصدقهم أحد؟!  أم سيرمونهم بالهرطقة وبأنهم يفسدون عليهم حياتهم؟! ..

حتى ماهيزو نفسه يساوره الشك وتفسد حياته بمجرد أن أخبرته زوجته برأيها حول معتقدات المعبد ، ويضيع عليه أثمن سنوات عمره بلا بحث مُجدٍ .

ولكن الثمن باهظ ، فمن يبحث عن الحقيقة بين جماعة الخانعين سيكون مصيره إما  السقوط في هوة الإبعاد السحيقة أو الرحيل الاختياري عن الوطن .

(أنا الكاهن ماهيزو سول فاشورى ، أقول لكم : إنى أحبكم ، و إن الفردوس أحبُّ الأوطان إلىَّ، وربما أسعدها على الإطلاق. لاينشد فيها الفقير مالاً فيضنيه السعى ، ولا ميسور الحال مجداً فيشقيه العراك . الكل راضٍ بما قُسم له ، فكيف له ألا يرضى وقد أُسكن الفردوس كما علم ، وقُسم له من الرزق مالايستحق مزيداً عليه ؟ . هى فردوس بلاريب ، ولكنها ليست فردوس السماء الموعودة ، ولابضعة منها ، ولا أرضى أن يحجبكم عن فردوس السماء الضلال)


هذه الرواية الناضجة جدا يمكن اعتبارها رواية ذهنية جعل الكاتب شخصياتها أفكاراً في زِيٍّ من الرموز، وعلى ذكر الشخصيات لقد أحببت جدا شخصية الكاهن ماهيزو حتى لكأني أسمع صوتاً حين يتكلم ، ولا أعرف لم رُسم في ذهني بصورة الممثل "عبد الرحمن أبو زهرة"، آلمتني كثيرا محاكمته بنفس الدرجة التي أبهرني فيها وصف القرملاوي .

 نهاية الرواية كانت من أجمل النهايات التي قرأتها، ولا أجد أحسن منها  ليجعلني أتشبث بجزء ثانٍ للرواية ينتابني الفضول لأقرأ عن رحلة " تيها " في أرض العصاة!

عساها لا تكون تدوينتك الأخيرة ما حييت .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم