التخييل التاريخي في الأفق ما بعد الكولونيالي.. قراءة في “الحاج ألمان (غيوم الريف)” لإبراهيم أحمد عيسى

الحاج ألمان (غيوم الريف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد المسعودي

         لعل “الرواية الجديدة” التي تُكتب الآن وفي ما كان يُطلق عليه دول “العالم الثالث”، وبدءا من العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين؛ اتجهت نحو تصحيح بعض المسلمات في التاريخ، والتشكيك في عديد من معطيات التاريخ الإنساني عبر لعبة التخييل، وعن طريق جعل الكتابة الروائية ذات رؤية مختلفة عن المعطى التاريخي الثابت، كما يحاول التاريخ أن يوهم الناس، وكما دونه مؤرخو السلطة عبر الأزمنة، أو كما صاغته رؤى الآخر عنا من موقعه الخاص وتبعا لغاياته وإيديولوجيته.

         وربما الحاجة إلى هذا النوع من التخييل التاريخي في الرواية دعى إليه الوضع الإنساني المأزوم في أغلب بلدان العالم، وخاصة في العالم العربي الذي عاد الاستعمار من جديد يعيث فيه تدميرا وتقتيلا وإبادة، وتحت مسميات جديدة وبمباركة عربية غربية دولية. ولعل تطور البحث التاريخي، وتحولات الوعي الثقافي كانت وراء بروز هذا النمط الجديد من الكتابة السردية.  

ومن هنا تأتي رواية “الحاج ألمان” لتكون لبنة في صرح هذا النمط من الكتابة الروائية التي بدأت تحقق حضورها الوازن في المشهد الروائي العربي المعاصر، على غرار ما تشهده بلاد أخرى، وخاصة الهند ودول الكارايبي وبعض الدول الإفريقية والأمريكو لاتينية.

         في هذه الرواية يقدم السارد صورا لشخصيات وعت شرطها الإنساني المأزوم، وأحست أن المجتمعات الغربية التي تنتمي إليها، مزدوجة الفعل، تعلن غير ما تظهر. وأنها تبرر عدوانها على الشعوب الأخرى المستضعفة بتبريرات نشر الحضارة والتقدم، ومواجهة البربرية والتخلف، بينما تبيح لنفسها استغلال هذا الآخر وتدميره؛ كما قدمت الرواية صورا لشخصيات أخرى تنتمي إلى هذه الشعوب المغلوبة على أمرها وعت أهمية الدفاع عن أرضها وهويتها الحضارية وآمنت بهذه الهوية ومارست في فعلها اليومي، وفي أثناء الحرب، ما يثبت إنسانية قيمها وعدالة قضيتها. ومن ثم كانت هذه الرواية، كما يقول جيسي ماتز محاولة ل”إعادة النظر في العلاقات الدولية والتفكير الجدي في هوية الحياة غير الغربية” (تطور الرواية الحديثة، تر. لطفية الدليمي، دار المدى، 2016، ص.328)

وتبرز في الرواية مواقف اتخذتها شخصيات مثل: رينيه أوليفيه (الفرنسي)، وجوزيف أوتو كليمس/الحاج ألمان (الألماني)، وعبد الله الصربي، وإسماعيل التركي لمناصرة الآخر والانضمام إلى المقاومة، أو نقل صورة صحيحة عن وضع المقاومة ودورها، وقد عانت هذه الشخصيات بسبب هذا الموقف وأدت ثمنه، ومنها من ضحى بحياته من أجل ما آمن به كما نرى في حالة (عبد الله الصربي)، كما قدمت صورا دالة عن حدو لكحل وإيطو الزيانية وموحا أوحمو الزياني وأحمد الريسوني ومحمد بن عبد الكريم الخطابي… وغيرهما من الشخصيات.

         ومن يطلع على سيرورة أحداث الرواية يكتشف أن السارد لا يروي حكاية جوزيف أوتو كليمس الملقب بالحاج ألمان فحسب، وإنما يطلعنا على حكايات شخصيات عديدة تقاطعت حيواتها مع حياة كليمس، وأدت دورا هاما في تشكل وعيه، وتغير حياته، واختيار الطريق الذي سار فيه. فبعدما غادر جوزيف موطنه دوسلدورف، وبعدما عانى من السجن في فرنسا وفُرض عليه الالتحاق بالفوج الثاني من “الفيلق الأجنبي” المتوجه نحو الجزائر، سيكون أمام وضع جديد وشروط جديدة للحياة. وسيتعرف في السفينة التي تُقلهم نحو الجزائر على شخصيات أدت دورا هاما في حياته، وفي مصيره، وتَشكُّل نظرته لما يجري حوله، أولها الصحافي والمصور رينيه أوليفيه الذي يتصيد الحكايات، حكايات الجند، والناس ليعيش، ثم إسماعيل التركي وعبد الله الصربي اللذين شاركا جوزيف قمرته بعنبر السفينة، وأقاما معه في الثكنة العسكرية بالجزائر. وكانا حافزا بالنسبة إليه نحو التدبر فيما فرض عليهم من ممارسات وأفعال داخل الفيلق العسكري. ولعل مراقبة كليمس لرفيقيه، ووقوفه على الممارسات القمعية العدوانية للجيش الفرنسي وسياسته الاستعمارية من خلالهما، ومن خلال صديقه رينيه أوليفيه، كان دافعا قويا بالنسبة إليه على الالتحاق بالمقاومة المغربية، ثم الارتباط بمحمد بن عبد الكريم الخطابي وإيمانه بعدل قضية المغاربة وسعيهم إلى الحرية والانعتاق. وقد آمن بما كان يردده محمد بن عبد الكريم الخطابي على مسامعه حيث كان يقول له دوما “المقاومة هي السبيل للنجاة وحرية الشعوب”. ( الرواية، ص.251) 

         وقبل ذلك كانت هذه الشخصيات تحس بوضعها غير السوي ضمن الفيلق الأجنبي في الجيش الفرنسي، وقد عبر عن ذلك إسماعيل التركي لما تحالفت الدولة العثمانية مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وقاسى (ألمان) من نفس الوضع حينما جوبه من طرف بعض الجند الفرنسيين بتهمة التجسس، وهذا ما دفعه إلى التفكير في وضعه المضطرب، ثم الفرار للالتحاق بعد ذلك بالمقاومة في جبال الأطلس، وضمن جماعة “إيطو الزيانية”، ومن بعدها مع محمد بن عبد الكريم الخطابي. وقد بنى قراره، بعد كر وفر، وإدبار وإقدام، ولما اقتنع بصحة وجهة نظر المقاومة، ومن التحق بها من رفقائه، اتخذ سبيله نحو الانضمام إليها. وقد كان البحث عن الذات، وحقيقة الحياة، والغاية من وجود الإنسان في الكون من بين الدوافع نحو الرغبة في الانعتاق واتخاذ المسار الصحيح في الحياة. ولعل هذه الحالة عبر عنها عبد الله الصربي بقوله قبل استشهاده:

         “.. كل ما أردناه الحرية وإقامة العدل، أن نحرر البلاد من الاستعمار، فأنا جبت الأرض من سراييفو إلى بلغراد وإسطنبول وروما حيث التقيت بإسماعيل التركي واستقر بي الحال في باريس، انضممت إلى الفيلق الأجنبي وتعرفت على الحاج (ألمان) كان حينها جوزيف كليمس ذلك الألماني الغامض، الصامت معظم الوقت كان إسماعيل أقرب إليه مني، وحدث ما حدث في جبل مستاوة ورأيت الحقيقة حين عفا عني المقاومون وتركوني جريحا بدلا من قتلي، وفهمت رسالتهم حينما أعتقوا جميع الأسرى، خضت أهوالا عديدة من أجل الحياة التي وهبنا الله إياها، تركت مكناس وانضممت إلى ثوار الأطلس وجاورت أوحمو الزياني في أرض القتال وشرفت بمرافقة سرية إيطو الزيانية (..) وحدها زوجتي حكيتُ لها كل شيء، تقبلتني بكل ما كنت أعانيه، أتعرف يا رجل شعور أن تكون وحيدا في العالم؟ عدت الآن من حيث بدأت وحيدا دون أسرة أو أولاد.. ولكن لدي إخوة وأصدقاء يحيطون بي، مصابهم مصابي وحزنهم حزني، من لطف الله أنه يقرب الأصدقاء في وقت المحن، أتعرف يا رينيه في هذه الحياة علينا أن نخطئ ونتعثر لنعلم من يتمسك بنا جيدا، الجيدون فقط يبقون معنا ويدفعون بنا إلى الأمام” (الرواية، ص.262-263)

         بهذه الكيفية يطلعنا المقطع المستشهد به عن تمكن (عبد الله الصربي) من معرفة حقيقة المقاومة الجزائرية، وتغير الرؤية لديه نحو الممارسات التي كان يقوم بها الجيش الفرنسي تجاه سكان القرى والمدن الجزائرية، وقد عبر عبد الله عن روابط جديدة جمعته بالمقاومة، وبإخوته وأصدقائه وأسرته الذين تغلب معهم على غربته وتجاوز وضعه القلق ليحقق الحرية ويحمل مشعل العدل.

وهكذا تقف الرواية عند البعد الإنساني وأهمية الأواصر الإنسانية القائمة على الميل إلى الحق والخير والعدل مما يتعارض مع المنظور المادي النفعي اللإنساني في التصور الأوروبي والغربي بنزعته إلى الهيمنة والاستعلاء. وبذلك تكشف الرواية عن هذه الرؤية التي عملت الرواية الغربية في نزوعها الإيديولوجي على إخفائها بغاية تقديم صور مغلوطة عن تدخل الغربي في البلاد المستعمَرة.

وفي حيز هام من الرواية يقف السارد عند محاولة (الحاج ألمان) نقل حقيقة ما يحدث، وإطلاع الغربي على أخطاء الاستعمار وممارساته العدوانية، يقول السارد:

         “قبل أيام أرسل مجموعة من الرسائل والصور إلى الصحفيين في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا يحثهم على نشر مقالاته عن المقاومة وهذا العالم الحر، عن هؤلاء الناس الذين يتعرضون لجرائم الاستعمار الذي ينهش البلاد ويتربص بالعباد، كان على العالم أن يرى ويسمع عما يحدث هنا في الريف..” (الرواية، ص. 246)

من هنا نرى أن شخصية ألمان في سياق تحول رؤياها إلى حقيقة ذاتها الجمعية الأوروبية ومدى بشاعة ما تقوم به في شمال إفريقيا، عملت بالسبل المتوفرة لها: الرسائل والصور على فضح الممارسات الكولونيالية. وهذا الدور سيجر عليها الوبال فيما بعد، كما تكشف لنا أحداث الرواية.

وقد بين جيسي ماتز كيف أن الرواية ما بعد الكولونيالية  أعادت تقييم النزعة المادية عبر منح الجانب الروحي مكانة في الحبكة السردية وردت الاعتبار لدورها في الفعل الإنساني. (انظر المرجع السابق، ص. 339)

وفي رواية “الحاج ألمان” نرى هذه الروح فاعلة من خلال وعي شخصية الحاج ألمان ومن لف لفه في إدراك لعبة الغرب المادية ونزعته الاستعمارية، ومن ثم سعي هذه الشخصيات نحو التحرر، والارتباط بالشعوب المضطهدة، بل وعودتها إلى ذاتها واتخاذ آفاق جديدة لمسارها في الوجود. فمثلا شخصية ألمان تغيرت من شخصية مادية غير مؤمنة سوى بالمصلحة والمال –الذي انخرطت من أجله في صفوف الفوج الثاني (الأجنبي) للجيش الفرنسي) إلى شخصية قنوعة بسيطة فهمت أن الدين ضرورة من ضرورات توازن الكائن الإنساني وتحرره. وذلك بعدما تأملت حياة المقاومين المغاربة، وتعايشت مع بساطة سلوكاتهم وعفويتها، وأدركت صلابة مواقفهم وذكاءهم الفطري، وعمق ارتباطهم بما يشكل هويتهم الحضارية والدينية والثقافية. وقد كان هذا الإدراك وراء تحول شخصية ألمان وانخراطه في صفوف المقاومة المغربية الريفية لمواجهة العدوان الإسباني، وحليفه الفرنسي.

         من خلال هذه العناصر التي وقفنا عندها نتبين أن رواية “الحاج ألمان” انطلقت من رؤية تصحيحية لتاريخ حرب الريف وصراع المغاربة من أجل الحرية، وقد اتخذت الرواية من التخييل أساسا لبناء عوالمها وإعادة تشكيل المسكوت عنه من أفق ما بعد كولونيالي يقدم رؤيته المختلفة عن الطرح الغربي، أو عن الطروحات التي كرسها الاستعمار الغربي. وقد نجحت الرواية في تمثل الواقع التاريخي وتقديم مواقف مقنعة لشخصياتها المحورية، وهي تصحح شرطها الإنساني الوجودي الخاص، وتصحح الرؤى الجمعية لبلادها الغربية في نزوعاتها الاستعمارية المفرطة في لا إنسانيتها.

وإذا كان من مزالق هذا النوع من الكتابة الروائية أن يتحول النص الإبداعي إلى وثيقة تاريخية مملة، أو أن يصير خطبة وعظية إرشادية تبشيرية، أو أن يصير منشورا سياسيا مباشرا وتقريريا، لأن الكاتب يكون بصدد تقويم بعض الرؤى المغلوطة وتصحيح نظرة الآخر إلى حقيقة ما جرى من وجهة نظره المختلفة عن الطرح الغربي وما روجه، وما زال يروجه الفكر والإعلام الغربيين؛ فإن الكاتب إبراهيم أحمد عيسى استطاع قدر المستطاع تجنب السقوط في هذه المزالق الكتابية، وقد نجح فعلا في ذلك، ومن ثم كانت روايته محكمة البناء متحكمة في تفاصيلها الحكائية قادرة على شد قارئها منذ سطورها الأولى، وهي لا تقل متعة وإفادة عن روايته الأخرى “باري، أو أنشودة سودان” التي فازت بجائزة “كتارا” للرواية.

……………………….

إبراهيم أحمد عيسى، الحاج ألمان (غيوم الريف)، دار كتوبيا للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 2019.

 

مقالات من نفس القسم