عصام الياسري
فلسفة الثقافة تخضع إلى حد كبير الى أساليب التنمية الثقافية، وهي “فلسفة” توضح النظريات الثقافية المختلفة، وتعبر عن المسافة بين المعتقدات التقليدية وظواهرها ومن ثم تطويرها. ظهرت في سياق التغيرات الاجتماعية والسياسية في مطلع القرن 19 والـ 20 في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها. مثقفون مثل سيميل Georg Simmel وفاليري Paul Valéryتساءلوا أو رفضوا النظريات المتعلقة بمفهوم الثقافة في الفلسفات المثالية، وخاصة تلك الخاصة بهيغل وكانت، بسبب ملايين القتلى وفقدان عام للقواعد الانسانية والاخلاقية. اليوم، ووفقا للدراسات الصادرة في عام 1980 توضح مدى ارتباط الفلسفة الثقافية بالدراسات الثقافية والمجتمعية، وتبيّن نأي ممثليها اي “الفلسفة المثالية” بأنفسهم وقصور دراستهم لعلوم الفلسفة ذاتها.
تحدث بعض النقاد المهتمين بالشأن الثقافي في ذلك الوقت بما فيهم أوزفالد شبنغلرOswald Spengler عن نهاية الثقافة. معظمهم تبنى برنامجا مثاليا للنقد، مرتبطا بأفكار القرن التاسع عشر. الهدف من هذا البرنامج في ذلك الوقت كان هو البدء بإصلاح الفكر الفلسفي على نحو: تكييف النظريات الفلسفية مع احتياجات الناس والمطالب العلمية. على أن الثقافة هي هيكل مختلف عن “عوالم الوجود” التي تتكون من منتجات مؤهلة للفنون والعلوم، أيضا الادعاء بأن “الأشخاص ذوي الثقافة” قد طوروا استخدام هذه المنتجات.
فقدت هذه الفكرة عموميتها من خلال أحداث الحرب والتغيرات الاجتماعية والسياسية السابقة واللاحقة. في بداية القرن العشرين، بدأ فلاسفة الثقافة في اعتبار الثقافة مهمة مشتركة لجميع الناس. والأشكال التعبيرية للثقافة جزءاً من المنتجات المتغيرة وهياكل العمل المشترك. وكان يُنظر إلى الثقافة على أنها كيان ديناميكي”كمجموعة من التفاعلات” التي ينتجها البشر معا وتخدم الفرد في التوجه نحو الحياة. بمعنى ما يعرف اليوم في مفهوم “العلاقة الغريبة” بين الفرد والمجتمع هي “الثقافة”، والمكوّن يشكل حقيقة مشتركة.
الانتقال إلى هذا التفكير الوظيفي حول الثقافة، وما آل الى فهم ذاتي للفلسفة الثقافية، انعكس في النظريات التي لها تأثير مبتكر على الدراسات الثقافية. السمة المميزة لهذا التحول النقدي للظواهر الثقافية، كان مطلوبا من الناحية السياسية التي افرزها الثلث الأخير من القرن التاسع عشر الذي شهد تغييرات سياسية متوافقة مع الميول والتعلق الطائفي في سياق الوحدة الالمانية وتوجه الناس نحو “فلسفة شعبية” تأثرت بتنوع الأفكار المثالية الكانتية والهيجلية والرومانسية. أيضا أفكار النصف الأول من القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية. وتعد أوقات “الاضطرابات” ذات أهمية ثقافية – فلسفية أو ثقافية – علمية. يحتوي قسم منها على بعض ردود الفعل والظواهر التي ظل على متابعتها الفلاسفة أو العلماء.
يصف المؤرخون اليوم الحرب العالمية الأولى بأنها نهاية حقبة تاريخية تتميز بالقوة الاجتماعية والسياسية للإمبراطورية وأيديولوجياتها. ونتيجة لتلك السياسة والتجاوز على الدستور يمكن للمرء أن يفهم الفشل في الحرب والثورات، او تميُز عدم صلابة المؤسسات والمصالح والأفكار دليلًا على الهشاشة خلال العهد الإمبراطوري السائد آنذاك.
الحرب العالمية الأولى التي بدأت في 1914 انتهت بعد اربع سنوات في 11 نوفمبر 1918، بأكثر من تسعة ملايين شخص فقدوا أرواحهم، وأصيب 20 مليون شخص، و25 دولة كانت قد شاركت في الحرب مع حوالي 1.4 مليار نسمة، كان هذا حوالي ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية. واصبحت آثار الحرب الخاسرة على السكان الألمان وخيمة، والقى بموجب معاهدة فردان”Verdun” الإنجليز والفرنسيون والبلجيك باللائمة للكارثة على ألمانيا والنمسا والمجر.
جادل المثقفون في ألمانيا زمن الحرب فيما إذا كانت حربا “عادلة” أو “غير عادلة”. واعتبر الفيلسوف الالماني ماكس شيلرMax Ferdinand Scheler بانها حرب عادلة لأنها تدور حول السياسة الصحيحة. وهو يشير إلى ميل الإنجليز إلى إساءة فهم “الجودة الروحية” للمفاهيم الفلسفية المركزية عن طريق”أخطاء الفئة”. فيما اعتبرها جورج سيميل في كلمة ألقاها في عام 1914 بما معناه حرب “توحيد الوحدة الألمانية”، التي نُسفت جميع مقوماتها في جميع أنحاء ألمانيا منذ عام 1870. هكذا كان “طوق الخيال” موضوع شائع الاستخدام في النقاش حول الحرب. سيميل، الذي تحدث أيضا في كلمته عن المدى غير المقبول لهذه الكارثة، اختار “أطروحة الحرب” عاملاً هاما من شأنه أن يحدث التغيير إلى ولادة “انسان جديد”.
كرد فعل جمع المثقفون بعد الحرب بين شروط الحياة والفكر ومصطلحات مثل “اختفاء الألفة العالمية” ماكس فيبر Max Weber، “أزمة العقل” بول فاليري، “العالم المنسي” جورج لوكاش Georg Lukács، “فقدان العالم للأفكار القديمة” و”تدهور الغرب” أوزفالد شبنغلر Oswald Spengler، “إتساع التشرد” الكانتيين. وضح جورج سيميل أن جيله يقف على حافة الهاوية بين الأمس والغد، بين الميتافيزيقيا أو المثالية وفلسفة ما زالت غير معروفة من شأنها ان تعيد صناعة إنسان جديد. وكاد بول فاليري غير قادر على وصف الحالة الراهنة لأوروبا بالقول: اننا نعاني من ان ثقافتنا تموت، وانها لم تعد تشبه نفسها. وأشار قدامى المحاربين في الحرب إلى فكرة “حمل السلاح” الى انها انتصار الحمقى، وحذروا من أن الدوغماتيين من أي اتجاه يشكلون خطرا دائما بالحرب.
يلخص الفيلسوف الالماني المعاصر “رالف كونيرسمان” Ralf Konersmannخصوصية “الفلسفة الثقافية” ومفهوم التطرف بالقول: انهما أمران مفهومان، إذ شكلا رد فعل فكري عنيف وتحديا للفلسفة والعلوم. يلخصان التراجع الثقافي المؤسف ورفض فكرة الحقيقة في العلم. بيد ان الفهم السائد للعلوم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، توافق مع تعامل المثقفين وعلماء العلوم والفلاسفة في كيفية معالجة “مأساة الثقافة” أو “سقوط الغرب”، أيضا مع كيف يمكن للناس التكيف في المستقبل مع الأحداث. وتم تطوير النظريات الثقافيةالتي افرزت فرص بداية ثقافية جديدة لمواجهة الأزمة الثقافية وتحديد إجابات على آراء بعض المؤلفين والمفكرين.. وبالتالي فهما، اي فلسفة الثقافة والتطرف، تبعا لاستنتاج الدراسات الثقافية، قابلتان، للتغيير وليستا ثابتة المنهجية والتفسيرات التحليلية والعقائدية او التقارير التاريخية ومفهوم الأنثروبولوجيا الثقافية.