زياد محمد مبارك
وسمت الشاعرة العراقية جوانا إحسان أبلحد قصيدة النثر بأنها «القصيدة المُجنَّحَة» كموسومة مفضَّلة لديها، وتنسج أشعارها باشتغال رفيع وفخيم على اللغة الشعرية لفظاً، وتركيباً، ومعنىً، ودلالةً.. مع سقايتها لقصائدها بتخييل مفارِق للسائد، وجانح للابتكار. مع ميل للمزج الشعري الحكائي في تصوير لحالات تتسق بين الذات والعام. لا محِيد لقارئ أشعار جوانا من تلقِّي مختلف، وأثرٍ مختلف من أغراسها الشعورية، والرمزية، والدلالية… الخ.
يمتاز أسلوب جوانا بالوضوح ومجانبة الغموض، وابتغاء الرمز الذي يفتح نوافذ التأويل للقارئ الولوع بالمجازات الذهنية. في قصيدتها: «روح الكرستال يا أنتَ .. ولا زلتَ» أرخَتْ رؤيتها للقصيدة المُجنَّحةِ لمن تخاطبه في سياق الكرستال:
«ولم أزل أبخل عليكَ ببعض الحواس الصاغية..
فأراكَ تَشُدُّني إليكَ بكفيِّن
حانقتيْن أم حانيتيْن؟
هَلْ أدري .. وطالما اختلفَ تأويل القصيدة الْمُجنَّحة
لكِنَّ الصفصافةُ تُفسِّرُ الرمز
بالأجدى وَالأبقى».
وعند تتبع مساقط القصائد يبدو اشتغال الشاعرة في تخليق الدلالات التي تتشابك معانيها واحتمالاتها قد يتخذ تجسيداً مؤنسناً تُحدِّث عنه بصيغة الغائب، أو تخاطبه، وتضفي عليه بعض صفات القصيدة، كأن كتابة القصيدة، الطريقة، هي الأقدر على تناول الموضوعة التي يحفر فيها الشعر. كأن القصيدة تتناول الموضوعة لترعَى احتمالاتها في نص مفتوح.. في قصيدة الشاعرة «لبشرَتِها آياتِ شوكولا» تصف حالة «هو وهي» نافيةً الاحتمالات منه لها، مؤكدة اليقين والمعنى الذي يمكن مسكه القبض عليه..
«هو لن يَجدِلكِ بعد اليوم بخُصُلات احتمال
وقطعة حلوى تُساورهُ اليقين!
يقينهُ مَعكِ بآتٍ نَمير، وهذا الآني يَندَى بقُبلة
يقينهُ فيكِ باعتناقِ معنى، وذاكَ العَبَث لمستحيلاتِ عودة
يقينهُ مِنكِ بطَراوةِ عُمُرْ..
ودَلالاتُ فَرْحَة تَزدلفُ الكَرز!».
لكنها تضع قفلة النهاية بسؤال يتسع على انفتاح أقلام الباستيل لرسم اللوحة المشهدية التي لا يمكن حصر احتمالاتها:
«هو شُتِلَ بموعدكِ مُذ نِصْف رَملية رَسَّبْتْ الوَلَهْ،
تَمَطَّقَ شَرَاب الكاكاو برشفة أخيرة،
دانتيل أخيلة طَوَى آخره لضجة بائع أوراق اليانصيب،
فأينكِ أنتِ يا لَوحة الباستيل؟!».
والشاعرة كثيراً ما تعرضُ مشتملات القصيدة عبر بوابة الاستفهام، والتساؤلات، التي في الغالبِ تتخذ هيئة التفريع عند استيلادِ الأجوبة التي تمثل إهماءاتِ رؤى الشاعرة، ودلالاتها وصورها الشعرية المبتكرة. تلجُ الشاعرة في قصيدتها «يَومَ تَكَوَّرَ الحَرفُ نَهداً» عبر تساؤل في العتبة:
«أنى وَالحرفُ تَكَوَّرَ نهدا ًلأنثى المَلاك؟!
سُندُسيُّ المَلامِس ِ
عشرينيُّ الرَفيف
يَتَرَجْرَجَ بأطوارٍ مِنْ كنارةِ شبعاد
وزرياب الطَوْرِ..
الْتَفَّ على أصابعٍ تَفقه محاورة الأنوثة».
لتناقش العام المتعلِّق بقضايا مجتمعية – عراقية، تشغل ذاتها، ناقشتها بالإشارة إلى/ ذاتها، وهو، وهي، وهم.
«أنا مريضة ٌبكَ
ذراعاكَ زنَّارُ نورٍ، لَفَّ الغد والخاصرة
وشفتاكَ ما انفكت تَسْتَلِبُ القُبَل
بغضون ِشظايا وَدَفقاتِ دَم..
هو أفاقَ على لَمَسَاتِ مُمَرِضةٍ سَرْبَلها البياض
هي استحالتْ فرَّاشةً بحَجْمِ كَفِّ الطفل
ألوانها وَمَضَتْ بضوءٍ سُداسيِّ الطيوف
سابعها مَاجَ بأجنحةٍ تركوازيَّةٍ لملاكٍ رضيعٍ
احترفَ هَدْهَدْة وجع النهود..».
.
.
يتصلُ الحرف الذي تكوَّر باستعراضِ حالات التقطتها الشاعرة لتضعها على طاولةِ الشعر، حالات وصفتها في توقيعة القصيدة بالبؤر العراقية:
«نهدٌ رَاوَدَ شِفاهَ طفلٍ،
شَبَّ آجلاً لسَرمديَّات الشهادة..
وآخر اغتَصَبتهُ نظراتُ صعلوك..
وثالثهم مطواع ٌ لمرَّةٍ وَلمرَّاتٍ حرون،
ما برحَ يشكو حماقة الأصابع..
ورابعهم اخترقتْهُ شظية، بتظاهرة راجلة الجُلَّنار».
تميل الشاعرة في كثير من قصائدها لتمييز الدلالات باللون، ففي قصيدتها السابقة تؤشر بصرياً – بصورة مباشرة – بطيوف الألوان، والتركوازي، والبياض.. وبصورة غير مباشرة، واضحة:
«أنى وَأهْرَقَ أرْيَ أبجديَّةٍ؟!
ذي نكْهَةِ تحْنانِ الأمومة وَلون الكَفَن!»،
«ورابعهم اخترقتْهُ شظية، بتظاهرة راجلة الجُلَّنار»،
«عاجل..
تمَّ قطع السَبَّابات البنفسجيَّة!».
وفي قصيدتها «نعوت تخاتل حقيقة اللون» تجسِّد «آيفا» كتعبير عن كل دلالةٍ مُزوَّرة تُزاحِم الأصلي بأيِّ مَجالٍ في المَجالات الحياتية.. حيث اللون في متخيِّلِ الشاعرة هو الحقيقة المُشاهَدة، المُجرَّدة.
تحملُ بعض استعارات الشاعرة أيضاً إضفاء للون مثل عنوان قصيدتها «أساور من معدنِ المجاز» الذي تستلهم به اللون الذهبي للمجاز. وتفصح أكثر عن براعتها في التصوير بذات الطريق، بمكاشفة اللون في قصيدة «نكايةً بذاكَ الأحمر»:
«يوماً سأتزلجُ على قوسِ قزح
حَصْراً على القوس الأحمر
عناداً بالأحمر الذي في بالي
.
.
يوماً سأصبغ بيت الشعر بطلاءِ الأظافر
حصراً باللون النارِيّ
نقمةً على الأحمر الذي في بالي».
وتواصلُ الشاعرة في طول القصيدة بمقاطع مسطَّرة من ثلاثة أسطر، بقفلات متجانسة تصبُّ في مصبِّ القصيدة مع تغيير لفظي يحرف المحمول الشعوري في لكل قفلة:
«هُزءاً بالأحمر الذي في بالي»،
«إذلالاً للأحمر الذي في بالي»،
«نكايةً بالأحمر الذي في بالي»،
«إغاظةً للأحمر الذي في بالي»،
«استخفافاً بالأحمر الذي في بالي»…
وهذا الأسلوب في التكرار، للعبارات، مع تبديل في تركيبها – لحرف دلالاتها في المقاطع الشعرية – مشهود في عدة قصائد للشاعرة، بما يحمله من تنغيمٍ موسيقي، وتأكيدات، وتعميق للدلالات. ويمكن التقاط هذا التوليف من عتبات المقاطع في قصيدتها «أساورٌ مِنْ مَعْدَنِ المَجَازِ»:
«سِوار مِنْ تغيير
وسَنِيَّاً يَلْمَعُ بِمِعْصَم دَهْشة»،
«سِوارٌ مِنْ فلاح
وصَفِيَّاً يَرِنُّ بِمِعْصَم هَمْسَة»،
«سِوارٌ مِنْ قَلق
وَعَتِيَّاً يَلمْعُ بمِعْصَم خَلَجَة»،
«سِوار مِنْ اكتئاب
وعَصِيَّاً يضيق على مِعْصَم نبضة»،
«سِوارٌ مِنْ مَسرَّة
وَبَهِيَّاً يَنسَلُّ بمِعْصَم لَمْسَة»،
«سِوارٌ مِنْ كَرَب
ومَلِيَّاً يُكَبِّلُ مِعْصَم زفرة»،
«سِوار مِنْ انعتاق،
وَرَوِيَّاً يتسامى بمِعْصَم رؤيا».
التجوال في قصائد الشاعرة العراقية جوانا هو تحليق في جوٍ شعريّ يحمل خصائص فرادته ولا انتمائه للمتوَّقَع المألوف، وكأنها في استعارتها للأجنحةِ في وسمِ قصيدة النثر كانت تعتدُّ بنماذجها المُحلِقة، التي سكبتها ببراعة واعيَّة بماهية النثر، ويراعةٌ مدركَة لهلهلةِ الشعر.