التحرّر من الذاكرة

التحرّر من الذاكرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسمهان الشعبوني

وضعت السيدة فتحيّة آخر طبق على مجفّف الصحون. أغلقت الحنفيّة ونفضت يديها فوق الحوض قبل أن تنشفهما بالمنديل المعلّق أمامها ثمّ استدارت إلى الخلف حيث رفوف المطبخ لتأخذ لوازم تحضير الشّاي. كانت لا تشرع في طهيه قبل أن تفرغ من غسيل الصحون، فتسترق بذلك دقائق إضافيّة تختلي فيها بنفسها، قبل أن تلتقي مجدّدا بزوجها الممدّد على أريكة الصّالون بعد الغداء. 

ملأت البرّاد بالماء ووضعته فوق النّار، ثمّ توجّهت بخطى بطيئة نحو باب المطبخ المؤدّي إلى الحديقة. توقّفت للحظة عند عتبته وجالت ببصر لا يخلو من زهوّ في الأشجار المثمرة. نزلت درجات السلّم الخمسة واقتربت من قفص الدّجاج لتتحقّق من أنّه يأكل ما أطعمته في الصّباح. “من يُحسنُ إدارة بيته مثلي؟” فكّرت وهي تتأمّل الدّيك الأسود بينما ينفُش ريشه. “تربية دواجن وبيض منزليّ وغلال من الحديقة وخضر من أرضنا الفلاحيّة. قد تأخذ خدمة تلك الأرض الكثير من أوقات فراغنا، ولكن ما باليد حيلة. لا أحد يدرك ما يُخبّئه له المستقبل. على المرء أن يحتاط حتّى وإن منّ عليه الله بمال وفير. ثمّ ليس مالنا بالكثير على أيّة حال، بل قليل جدّا مقارنة بعائلة الطرودي أو بعلياء وزوجها أو بأخ زوجي…لا أحد يُحسنُ إدارة بيته مثلي، أقوم بكلّ متطلّباته بمفردي. وما حاجتي إلى مُعينة منزليّة أدفع لها أجرا وأظلّ أراقب عملها الرّديء وأتحسّر على ما قد تكسره من صحون؟

خطر فجأة ببالها الماء الذي تركته فوق النّار فصاحت: “أوه! كدت أنسى الشّاي”. ارتقت السيّدة فتحيّة درجات السلّم الخمسة بما أُتيح لها من سرعة ودخلت المطبخ مُهرولة لكنّها توقّفت قرب سطح العمل حيث تركت المقادير وكأنّها تعيد التفكير بالوصفة التي أعدّتها كلّ يوم خلال السنوات الخمسة والثلاثين الماضية. ملعقتان من ورق الشّاي وخمس ملاعق من السكر. “ملعقة، اثنتان…هذا ورق الشاي – ملعقة، اثنتان، ثلاثة، أربعة، خمسة…هذا السكّر”.

أعادت علبة السكّر فوق سطح العمل وانجذب بصرها نحو بُقعة من الزيت في أسفل ثوبها. هزّت كتفيها بلا مبالاة، ثمّ عادت إلى الحديقة. اقتربت من شجرة البرتقال على يسار قفص الدّجاج ومدّت يدها اليمنى نحو ثمرة متشقّقة أثارت قلقها، فتحرّكت الأساور الذهبيّة العشر في معصمها مُحدثة تلك الخشخشة التي تُحبّذها وتبعث فيها الطمأنينة. كانت السيّدة فتحيّة لا تنزعها حتّى عند النوم، فهي تُذكّرها دوما أنّها بعيدة عن الخصاصة، وكم كانت بحاجة إلى مثل هذا الشعور في الوقت الذي تنهبها فيه ابنتها الوحيدة.

لم تزرهما منذ ثلاثة أشهر. هذا جزاؤهما بعد أن تعبا في تربيتها وتكاليفها. حقّا إنّ الإنسان قد خُلق جحوداً. أخرجاها من حياة رذيلة، تبنّياها وهي ابنة الخطيئة وأنقذاها من حياة بائسة في ملاجئ الأيتام. كان من الأجدر أن تشكرهما على ما قدّماه لها، لكنّها ليست سوى فتاة انتهازيّة لم تُكمل دراستها ولم تنجح في أيّ عمل وها هي تأخذ مالهما ثمّ تنقطع حتّى عن زيارتهما.

“الشّاي! يا للهول! نسيت الشاي!” صاحت السيّدة فتحيّة. جرت نحو السّلم وتملّكتها حيويّة عجيبة جعلتها تصعده بدرجتين في الوقت نفسه. دخلت المطبخ وارتمت على علبة ورق الشاي ثمّ اغترفت منها ملعقتين رمتهما بالبرّاد، واغترفت خمس ملاعق من السّكّر أردفتها بها. تنفّست عميقا ثمّ اتّجهت نحو الباب المؤدّي إلى الحديقة واستندت إليه.

لم تكن أسعار الجراحة آنذاك كما هي اليوم ولم يكن الطبّ متاحا بالسّهولة التي صار عليها. كان ثمن العمليّة الجراحيّة التي اقترحها عليها طبيب النساء باهظا، ولكنّه كان ثمن إعادة خصوبتها إليها. أشار عليها زوجها ببيع إحدى الأراضي التي يمتلكانها، لكن كيف كان لهما أي يبيعا ممتلكاتهما وهما لا يدركان ما يخبّئه لهما القدر؟ ما أدراهما بالمصائب التي قد تحلّ بهما! رفضت، وعلّلت صواب قرارها بأنّ اللّه شاء ألّا تنجب نسلا من رحمها.

لم تُقدِّر حينها سُلطة الشوق إلى الأمومة. مضت السّنين لكنها لم تخفّف منه، بل بالعكس احتدّ شعورها وصار يؤرقها، فانتهى بهما الأمر إلى التّبنّي، ووقع اختيارهما على بنت لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر. أرادا أن تنشأ معهما منذ نعومة أظفارها. لكنّها كانت منذ صغرها بنتا مشاكسة وعنيدة. صحيح أنّ السيّدة فتحيّة لم تشعر تجاهها بحنين كبير بل إنّها كانت تُوتّرها بسرعة شديدة. كانت تجد صعوبة في البداية في إقناع زوجها بتأديبها، إلّا أنّه صار فيما بعد يستبقها لإشباع تلك الطفلة الجحودة ضربا، رغم أنّ ذلك لم يُجْدِ نفعًا.

“ما الذي جنيتُه من هذه الأمومة؟ لا شيء…لا شيء سوى التعب والأرق وفضائح بالجملة سبّبتها لي تلك البنت! ذلك جزاء من يتحدّى مشيئة الله! ألم يُقدَّر لي ألّا أكون أمّا؟ فلأتحمّل وخيم عاقبتي الآن!”

“لكن…” همس صوت آخر في أذنها “ألمْ تَضَنّي عليها بعطف الأمومة يا فتحيّة؟ ألمْ تجحدي عليها بضمّة إلى صدرك؟ ألم تغاري منها كلّما لاعبها والدها؟”…”كلّا !هُراءٌ!”. خبا فجأة الصّوت المُذنِبُ المتطفّل على ذاكرتها. “كلّا! هُراءٌ! أعطيتُها أحسن تربية. لقّنتها الأصول، لكنّها عديمة الأصل، لقيطةٌ. لا يأتي ما أقدمت عليه إلّا من لقيطة تُسيّرُها الشّهوات التي ورثتها عن أمّها الساقطة، بدل حسن التربية التي أعطيتها لها”.

قطع صوت غليان الماء سيل ذكريات السيّدة فتحيّة فهتفت: “أفّ! الشّاي والسكّر…نسيتهما “. استدارت نحو سطح العمل. أخذت ما يلزم من ورق الشّاي ومن السكّر ثمّ رمتهما بالبرّاد.

وقفت قبالة الموقد ساهمة. وجدت نفسها تفكّر بزيارتها للطبيب الأسبوع الفارط. “لا أدري لمَ سألني كلّ تلك الأسئلة. ما اسمك الكامل؟ في أي يوم وشهر أنت الآن؟ اذكري عشرة أسماء فاكهة! والآن عشرة ألوان! اذكري عشرة حيوانات! غريب أمره حقّا. هل يظنّني أصبت بالزهيمر؟ يا له من معتوه. فقط نسيت إضافة الشاي والسكّر إلى الماء اليوم…في حين أنّه من الأحرى أن أنسى تلك البنت، أن أشطبها من ذاكرتي وأرتاح من الخطأ الوحيد الحقيقيّ الذي ارتكبته في حياتي”.

مقالات من نفس القسم