فيبي صبري
قال طرفة بن العبد في محنته عن الخيانة والخذلان:
كل خليلٍ كنت خاللته.. لا ترك الله له واضحة
كلهم أروغ من ثعلبٍ.. ما أشبه الليلة بالبارحة
وهي كلمات ليست حكرًا في استخدامها على الأفراد، بل يمكن أن يحق لوطن كامل استعارتها مرات لا مرة واحدة.
في روايتها الأولى “التاج” كتبت عبير قورة عن عائلة التاج، التي ترجع أصولها المعروفة إلى العصر المملوكي، فتقص ما جرى لأفرادها طوال ثلاثة وسبعين عامًا بين القرنين السابع والثامن الهجريين. كما نطل على نسل التاج في زمننا الحالي، والمتمثل في الأشقاء الثلاثة: مجدي وهشام وريم، أبناء فريد التاج.
في الصفحات الأولى ذات الإيقاع اللاهث نتعرف إلى أبي موسى التاج، التاجر الذي تقوده شهوته إلى حتفه، ولا نقصد شهوة النساء فقط، بل المال كذلك. فلكي يستولي على آثار فرعونية وجدها آخر، يدس له عقار يسبب الهلوسة حتى يزج به في البيمارستان بدعوى الجنون. الطريف أن حفيده، مجدي التاج، يعطي أخته العقار مسبب الهلوسة حتى لا تتمكن من الشهادة في المحكمة في قضية قتل كان أحد الضالعين فيها!
عتبة العصر المملوكي دالة وساطعة؛ جريمة قتل متعددة الضحايا، احترافية وبدائية في الوقت نفسه ، تذكرنا أجواؤها الخسيسة الموحية بالفوضى ـ الاستدراج إلى بيت وسرقة المال والذهب والتخلص من الجثث ـ بعصابة ريا وسكينة، نشم رائحة الدماء والبول وشواء القتلى، نرى التعذيب الروتيني لاستخلاص المعلومات والإعدام الوحشي، نتأهب لاعتياد السمة الأولى لذلك العصر الكابوسي: الخوف.
لا أحد آمن في ذلك الزمن على أرض “المحروسة”؛ السلطان ذاته يخشى نفوذ أمراء الماليك وغدرهم، الأمراء يحتاطون لدسائس بعضهم ضد البعض، التجار يخافون الأمراء والوالي وجباة الضرائب إذ يخسرون أموالهم وكرامتهم أو رقابهم، الشيوخ يتهيبون إعطاء الفتاوى حسب الطلب، المفكرون الخارجون على إجماع القطيع مهددون بالتكفير واستباحة دمائهم، المسيحيون واليهود في جزع دائم من انقلاب الحاكم أو العامة عليهم، والتعرض للتنكيل والسحل، الأطفال يخطفون من الشوارع ليباعوا كعبيد. أما النساء، سواءٌ إن كن في سن الطفولة أو الشباب، أميرات أو فقيرات أو راهبات، كلهن سبايا محتملات، يمكن استخلاصهن من القصور والبيوت المغلقة أو الأديرة. كما أن أخطار الغزو الخارجي والأوبئة والمجاعات لا تفرق في بطشها بين الأمير و”العامي” ـ كما كان المصري يدعى حينها ـ إلا بما يمكن للمال والسلطة توفيره من منجى هش، مؤقت.
أبناء الخديعة والاضطرار والقهر
لابد من إدراك المقصد وراء تكرار الحدث ثلاث مرات بطرق مختلفة؛ فعلى مر تاريخ عائلة التاج يولد ثلاثة أبناء سفاحًا! تتنوع الظروف والوسائل ويبقى القهر الواقع على النساء واحد. إحداهن ضحية شيخ محتال يوهمها بضرورة النوم معه قبل زوجها حتى تنجب، والأخرى تخضع لعلاقة إجبارية مهينة مع محلل “شرعي” حتى يتمكن زوجها من استعادتها بعد الطلقة الثالثة، وتبقى الأخيرة هي المفعول به الأكثر وضوحًا؛ في جريمة اغتصاب كاملة من خادمٍ يراها حقًا له، بينما هي غائبة عن الوعي. وفي كل مرة، تصدمنا الكلمات نفسها بنهاية الحكاية: وبعد تسعة أشهر ولد/أنجبت فلان التاج.
لا يتوقف الإكراه والتطويع عند هذه الحوادث، فيدمج في عائلة التاج المصرية ذوي الأصول القبطية ـ بذكاءٍ مرهف من الكاتبة ـ من موظفٍ بالديوان أُجبر تحت الضرب على نطق الشهادتين، إلى الطفلة دميانة التي اختطفت في إحدى الفتن من عائلتها لتتحول قسرًا إلى فاطمة.
في العصرين المملوكي والحالي يتكرر الذهول والانكماش أمام أشكال الظلم الفادح، الصريح، المتبجح، كأنما توطن المصري على الصمت والتحمل والسكون، رافعًا راية التحلي بالصبر، ليموه حقيقة انعدام الحيلة والعجز، فنراه لا يتحرك إلا ضمن جموع الغوغاء المسوقة بالغرائز الساذجة، أو في الاحتشاد كوقود حربٍ لا يجني ثمار الانتصار فيها أبدًا.
تاريخ من المساومات
“التاريخ لا توجد فيه قرارات تُتخذ صغيرة أو كبيرة، لقد تم اتخاذ كل القرارات وحُسم الأمر، ليس هناك ما يمكن عمله غير التحليل، التكهن بالأسباب، ورقة وقلم، تعقب مسار رسمه الآخرون”.
هذا ما يردد مجدي فريد التاج لنفسه، شاعرًا بخوائه وسخافة حياته المفتقرة إلى المعنى والشغف. يبرر لضميره قبل الآخرين ميوعته، هو أستاذ التاريخ الخبير بالثورات، المطلع على الفلسفة، بما تقول الكاتبة عنه:
“ما تبين أنه ميزة عظيمة فيه كمحاور أنه يميل إلى الحياد في أصعب الأوقات وأكثرها تطلبًا للحسم والوضوح، تعويم الألفاظ، إفراغها من مضمونها، كأنه يرسم إغواءً خاصًا للحياد”.
مجدي يعرف في لا وعيه أنه كاذب، مخادع، يعلق صورته وهو يصافح رئيس الوزراء بفخرٍ زائف، يصادق كاتب شاب ويقربه إليه، ثم يمنع عرضه المسرحي بالجامعة خلسةً بحجة الأخلاق، ليحظى لنفسه بمكانة العميل المزدوج. يخطط لاسترداد الرفاه المادي المستلب من أسرته بأي وسيلة ولو كانت إجرامية. وما أن يخلو إلى نفسه حتى يفكر مساومًا:
“هل هو الوحيد الذي يكذب ويرتكب الخطايا في هذا الكون؟! ما خطب هذه الآلام التي تحفر أخاديدها بداخله؟ في اللحظة القادمة تُعاد صياغة الهواء ليغدو لونه أفتح، تلونه كذبات لا تحصى، ومؤلفات غزيرة عن نسخ للحقيقة، والحقيقة ترتعب لأنها ستذوب الآن في زيف الخفايا”.
الحقيقة أن الشبه أكبر ما يكون ـ من وجهة نظري ـ بين مجدي التاج ومحمد بن الأشموني، مسؤول التعذيب بدار الولاية، هذا الذي لا يتورع عن وضع الحديد المحمّى على عيون السجناء لكنه يأنف من إبقاء جارية مخطوفة متألمة ببيته ويرق للغناء والشعر الصوفي! هو أيضًا يساوم ضميره، يصنع قائمته الخاصة بما يليق وما لا يليق إتيانه من جرائم؛ فلا يجد غضاضة في ضرب الناس حتى الموت، بينما يثير اشمئزازه خطف الفتيات الصغيرات من بيوتهن على يد الأمير “عمر المجنون”.
“إن في الأمر مبالغة غير مسبوقة في التدني، في القرف، في الغرف من طبق البسطاء، من حقنا أن نكون كل شيء، لنا مائدتنا التي يعدها البسطاء من شقائهم، من الخيرات التي تخلق من أجلنا، لكن في جميع الأحوال نحن لا نذهب إلى الطبلية الفقيرة لنأكل ما عليها بعد فراغنا من طعامنا، ماذا سيفعل الفقير غير أن يثور أو يموت، ماذا سيصيب الأوباش عندما يجدون أسيادهم لا يعفون حتى عن الفتات؟”
البقاء على قيد الحياة رغم الإذلال، الرعب، الإنهاك المستمر والاعتصار حتى آخر رمق، هو المُنجَز الأهم لهذا الشعب. قدرته على حفر النفق للهرب من الموت واختلاق النور عند نهايته اختلاقًا، هي ما توارثه المصريون في وعيهم الباطني حتى يومنا هذا ومنحهم الصمود. في الرواية تعددت الضمائر المحتفظة بنقائها وحدة بصرها، كمشاعل متباعدة في ليل طويل، لتعطي للاستمرار مغزى، وللتقدم أمل، مثل الطبيب بهاء الدين التاج، يحيى كمال التاج، ريم التاج، ناجي عزيز.
عشرات التفاصيل الساحرة تمسك بخيال القارئ وعقله وقلبه، اللغة: الطريقة والطريق، الشاعرية حينًا والحادة حينًا وسديدة التصويب دائمًا، دقة الوصف الحسي الداعية إلى الانغماس المدهش في العالم القديم ومفرداته، التحليل النفسي البارع للشخصيات مع التباين الشديد في منابتها ودوافعها، شرح نبلها وإجرامها ومرضها دون إصدار أحكام أخلاقية فوقية. الخلفية الفلسفية للكاتبة وثقافتها الفنية مضفورتان بالنص في حرفية وأناقة دون افتعالٍ أو إقحام. جعل كل هذا من تجربة القراءة متعة خالصة متعددة المستويات.
وجود كتابة مماثلة هو حدث مبهج، باعث على الأمل، ولا يجب المرور عليه دون الاحتفاء اللائق بالمبدعين الكبار.
……………………………..
*رواية التاج تأليف عبير قورة، إصدار دار الأدهم للنشر والتوزيع.
*عبير قورة حاصلة على بكالوريوس علوم صيدلية، وليسانس آداب قسم فلسفة.