البلدوزر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فجر يعقوب

 

لن يكون صعبا المرور من الحريقة بشكل دوري، فأنا أقيم على مقربة من الحي التجاري العريق. سأتسقط خبرا منها لو عبرت خلسة من هناك. سأتنسم رائحة الزوجة اليمنية الثالثة. وأؤكد أنني  بحاجة أكيدة لألتقط أثرا منها يدلني إليها أو يدلها إليّْ، وإلا فإن فكرة كتابة مسلسل تلفزيوني عن (نورسين المذحجي) ستكون خرقاء تماما ولن أستطيع اقناع (خلو) بها. أنا أعتمد عليه، فهو اخطبوط علاقات مع شركات الإنتاج. ولولا ذلك لما قاسمته فكرتي. ولكن من قال إنه سيرضى بالفكرة؟

 

(خلو) يدرك سوق الكتابة أكثر مني. أنا أدرك سوق الحريقة وتجاره وشياطينه ورواده وزبائنه أكثر منه بحكم إدماني على المرور اليومي منه للوصول إلى بيتي، حيث يقيم صاحب الخمار في ضريح مقدس. هنا ستكمن الصفقة، هو بحاجة لي أكثر مما أنا بحاجة له. ولكن هذا ليس أمرا مؤكدا. أنا أعرفه، سيقول لي دع عنك هذه الفكرة. السوق تبحث عن أشياء مختلفة فيها اختلاق ووهم كبيرين. وقصتك تصلح فيلما سينمائيا مغامرا ويناسب المهرجانات. أما التلفزيون فأنت لا تفهمه. دع عنك هذا الأرق وانتبه لقصائدك وأرقك وسجائرك المهربة ووداد. أما هذه (نورشان المذحجقي) – كان يتعمد لفظ اسمها بهذه الطريقة، ليشكك  بقدراتي على الوقوف في وجهه وإجباره على إصلاح الخطأ. وكان يضحك مصهصها ومتعاليا. وعندما كنت أبدي زعلا أو انقباضا مواربا أحقنه في وجهي خلسة،  كان يخفف قليلا من تهجماته واستعلائه، ويحاول الاعتذار بطريقته:

ـ من قال لك إن اسمها (نورسين المذحجي) وأن اسم زوجها (العيدروس)؟

لم أكن أجد اجابة مقنعة. لم أشغل بالي بإجابة أصلا. ولكن كنت أدافع عن خياراتي بالقول إن هنا يكمن سر الفيلم الذي تبحث عنه يا (خلو). وكان يزداد تعاليا ويقول لي: ومن قال لك إنني أبحث عن أسرار مصورة يا بني. أسراري مدفونة في رواياتي، وإن أردت أن تنبش بحثا عنها، فأنا أدلك إلى أسهل طريق، اقرأ رواياتي بصمت واحذر النزول في الأعماق، ولا تلتفت إلى الوراء.

قرأت رواياته كلها ووضعتها على الرف. وشاهدت كل المسلسلات التلفزيونية التي كتبها، وتناوب عليها مخرجون كثر، ولكنني لم أفهمه جيدا. وقرأت مقالاته واحتفظت ببعضها في أرشيف الملائكة كما أسميه. وتحاشيت النزول في الأعماق، ولكنني لم أفهم طلبه بألا ألتفت إلى الوراء، وكان هو  يتبسم لي ويقول ممازحا: أليس لديك قرني استشعار لتتصنع البسالة، وتتخذ موقفا مني ومن الحياة ؟ نعم لدي قرني استشعار ودعسوقة جالبة للشجاعة والحظ. ولدي توجهات مختلفة في الحياة. فكرة (نورسين المذحجي) و (العيدروس) لا تنّم إلا عن مخيلة تشطح في الليل وتنام في النهار. مخيلة لا تعرف التوقف أو النزيف المجانيين. ومن يمكنه أن يبعد وداد من هنا، فسيرتكب خطأ قاتلا، فلا يمكن لعرش الشبيه أن يستوي من غيرها. كانت امرأة من أعواد الرياح تتكسر في الليل، وامرأة من صراخ وذهب ورغوة بحر بعيد في الصباح. ولم تكن نحتا من الحالتين في أحايين كثيرة. كانت دعسوقة لذيذة، وكنت ثعلبا أبيض. كانت تكره فصل الشتاء وكنت أحبه. وكانت تعشق فصل الصيف وكنت أمقته ولم أبتعد كثيرا، حين استوقفتني ( نورسين المذحجي ) في الحريقة بنظرة من وراء النقاب الأسود الثقيل. كانت فخا مناسبا للإيقاع بالأفكار التي تستحوذ عليّ منذ زمن، أو ذريعة للإجهاز على علاقة عاطفية منتهية من قبيل إحسان معاملة الموتى، أو ربما لم تكن كذلك. وأكاد أوقن أن الزوجة اليمنية الثالثة من باب التطير كانت محض خيال تلفزيوني مقلوب أبحث عنه الآن بصفاء بعد أن خرجت منه وداد في عصر يوم بارد، ولم تعد ثانية إلى المخدع اللغوي الكبير الذي كنت أنشئه وأداريه بالقرب من ضريح صاحب الخمار بهدوء وأناة. وليس اقترابي من عوالم ( خلو ) إلا محاولة للانقضاض على التفكير الغامض الذي يستبد بي في غابات منقصفة الأشجار، ويكاد يطيح بمنظومتي الحيوية في الخلق واستدراج الضحايا والتغرير بهم من أعلى نقطة متحكمة ومتركزة في السقف، حين ينفتح على كم كبير من دعسوقات الصيف والثعالب البيضاء.

كنت ثعلبا جبانا فيما مضى من الوقت. وأرفض أن أكون كذلك الآن. أرفض أن أكون تابعا ل ( خلو )، ولكنني بحاجة له، بحاجة لعلاقاته المعقدة مع منظومة الإنتاج التلفزيوني، فالفكرة التي تتحكم بي، وتنسج من حولي خيوط الاستشعار المعتل المديد لن تمر من دونه، فهو اسم وازن في هذا العالم الذي لا أفهم منه شيئا. وان كنت لا أبحث عن شهرة مماثلة لشهرته، ولا المال الذي يجنيه من هذا “الهبل” كما يصفه ، فإن تمرير الفكرة أو محاولة التعرف عليها من الداخل تتطلب مشاركته. أتحرق ليشركني معه في هذه اللعبة الفوارة. وأدعو في سري أن يلتفت إلى حكايتي حتى لو لم تكن مبهجة له. فهي قد أصبحت بالنسبة لي قصة  حياة أو موت منذ أن التقيت بهذه الفتاة المذحجية الغامضة. أنا متأكد أنه لن يضيره أن يشركني معه في مشروعه التلفزيوني المقبل. سوف أمنحه الفكرة مكتوبة بالكامل، وله مطلق الحرية بالتعديل والحذف والتشطيب والاضافة من دون أن يمس القوام الأساسي لها. وهو لن يرفض ذلك. فإذا كان كل ما يكتبه للتلفزيون لا يتعدى “رزق الهبل على المجانين” كما يردد على مسامعي دائما، فلن يؤذيه تمرير هذه القصة لمعارفه وأصحابه من المخرجين والمنتجين والنجوم ، فقد يجدون فيها انعطافة جديدة ، كما حدث معه هو حين ارتبط بصداقة نجم معروف بلقب ( البلدوزر ) أتاح له أن ينسج شبكة من العلاقات يعجز عنها عنكبوت ضخم ، ولولاه لما وصل إلى ما وصل إليه من مجد تلفزيوني جعله على كل لسان ، في حين فشلت قصصه ورواياته في الوصول إلى البيوت بسهولة من غير انتهاج خط معرفي نخبوي يقوم على العلاقات بأصحاب الصالونات الأدبية ودور النشر ، والحفاظ على جماهيرية نسبية مقبولة من الطرفين ، ولولا وجوده كمسئول لقسم ثقافي في جريدة محلية تكاد تكون الأولى بين مجموع صحف حكومية مستنسخة الواحدة من الأخرى، لما قرأ أحد شيئا من كتاباته . مع الشاشة الفضية تبدو الأمور مختلفة تماما . كان يكفيه أن يدعو ( البلدوزر )  مع مجموعة من أعضاء نادي الممثلين والممثلات إلى حفلات شواء لحم الجمل في البيت الريفي الذي ورثه عن أهله حتى يضمن تأهيله تدريجيا في شعبة المقبولين . هكذا أصبح ( خلو ) ندا دراميا لأقرانه من الكتاب الجدد . ولكن الحفلات توقفت بعد المسلسل الأول . غاب سفينة الصحراء عن النصوص المكتوبة. وتحول إلى رماد سفن في كواكب أخرى . صار ( البلدوزر ) نذير شؤم عليه، حتى أنه لم يوفره في أحاديثه الجانبية في مواقع كثيرة . ولكن الخلاف بينهما لم يرق إلى مستوى الهجوم المباشر. فقد كان ( خلو ) في بداياته يخشاه ، ويحاول عدم الاكثار من الاصطدام به. وهو يعرف تماما أن ( البلدوزر ) لا يزال قادرا على سد الكثير من المنافذ أمامه. ولكن ما إن قوي ( خلو أبو نافعة ) حتى أصبح يهاجمه علنا من دون كثير اكتراث.

لم يدم الوضع على حاله ، فقد آثر ( البلدوزر ) السفر إلى بلد أجنبي للعمل في فيلم أجنبي ضخم ، وانقطعت أخباره . وتردد أنه وقع في كمين صعب ومعقد تحول اثره إلى كومبارس تحت الطلب . وشارك في مجموعة أفلام تجارية معادية للعرب والمسلمين . وهذا دفع ( خلو ) للتشفي والاعلان إنه سبق له واكتشف نوايا البلدوزر حتى قبل أن يتحول إلى جرافة صغيرة ، أو مجرفة رمل يلعب بها الأولاد الصغار حين يقومون ببناء قلاع من الرمل على شواطئ البحار التي يرتادونها برفقة أهاليهم . كان ( خلو ) يزداد تندرا وتشفيا حتى جاء خبر مصرعه أثناء التصوير في فيلم تاريخي في الريف الانكليزي ، فتوقف تماما عن ذكره ، والتفت إلى بيته التلفزيوني يحصنه من هجوم منتظر من الأغراب الذين كان يحذره منهم ( البلدوزر) نفسه . لم يكن موته مقصودا . الأخبار القليلة التي تناقلتها صحف عربية مهاجرة قالت إنه سقط عن ظهر حصان أبلق ، وارتطم رأسه بصخرة ، وحين نقل إلى المشفى تلفظ بكلمتين بحسب شهود رافقوه في رحلته الأخيرة أبدى فيهما ندمه على قبوله لأدوار هامشية في بلاد الضباب بعد أن كان ( بلدوزرا ) في بلاده يكتسح ثلوج الصيف إن وجدت على طاولة مسئول محلي أو حزبي . يقول ( خلو ) إن هذا أمر مبالغ فيه ، ف ( البلدوزر ) كان بارعا في نسج العلاقات مع النخبة المسئولة، ولم يكن يؤسس لصدامات في مسيرته المهنية.

رحل ( البلدوزر ) وقد خلّف في صدر ( خلو أبو نافعة ) جرحا قد لا يشفى مبكرا. ومصدر هذا الجرح ليس الرحيل بحد ذاته ، فهذا أمر لم يكن يقلقه . ولكن كان ثمة دروسا أخرى وطرقا متشعبة والتوائية كان يخفيها ( البلدوزر ) عنه ، فهو صاحب نظرية تقول بعدم اطلاع الصديق أو حتى الابن على كامل مكونات الصنعة وأسرارها، ولم يكن يتوقف عن رواية قصة اللبؤة التي علمت أشبالها أسرار القنص والصيد وعبور الغابات والأنهار، وأبقت على سر شجرة عالية كانت تلجأ إليها في نهاية كل يوم ، وتبقي أشبالها ينظرون إليها من تحت بأعين الرجاء والقلق والصبر والتمدد والاعتلال. حتى جاء يوم وهرمت اللبؤة وكبر أشبالها وأصبحوا صيادين محترفين، ولكنهم ظلوا يتسابقون بنظراتهم إلى الشجرة السامقة العالية ، ولم يدركوا أسرار الطريق إليها. ولما حانت اللحظة القاسية التي يخاف فيها المعلم من تلميذه. و قدّر الأشبال عن طريق تصديق غريزة القتل، لا تكذيبها ، إنه قد حان الوقت للفتك بالكائن الهرم، صعدت اللبؤة إلى مقامها السري. وتسابقت الأعين التي لم تعد تترجى نحوها. حاولت تفسير سر المقام ولكنها أخفقت. ناور الصيادون الجدد  طويلا قبل أن يدركوا أن الأم كانت تدرك غريزة القتل التي ستتحكم بهم يوما ، فأبقت على سر يحفظ لها شيخوختها.

كان ( البلدوزر ) قد تأثر بأستاذ روسي درس على يديه فتنة المسرح ونقل عنه هذه القصة المؤثرة ، وظل مقتنعا بها حتى اللحظة التي رضي فيها أن يعمل كومبارسا في أفلام انكليزية . هناك فقد المقام الذي كان يمكن له أن يضمن شيخوخة مقنعة ، وربما فقد قدرة تكذيب غريزة القتل ، فوقع عن ظهر حصان ودق عنقه . كان يمكن له أن يسقط من أعلى شجرة أيضا في كل مكان يذهب إليه ، بفارق أنه هنا يمكن له أن يحدد نوع وطول وعلو الشجرة . هذا مسموح هنا،  ولكن هناك لن يكون مسموحا له على الإطلاق .

ربما فهم (خلو) الدرس من موت (البلدوزر)، وربما لم يفهمه . ولكن من المؤكد أن حياته قبل رحيل ملهمه الأول ، لن تكون هي ذاتها بعد رحيله. كما أن كتاباته التلفزيونية ستتغير، سيتغير أيضا مزاجه في كتابة رواياته وقصصه . لن يكون خلو أبو نافعة هو ذاته في الحالين. تماما هو يتغير ويغير معه مزاج الفصل الذي ينتمي إليه . ولن يرنو نحو تغيير في الكتابة الدرامية التلفزيونية . فهو يعلم جيدا أنه يقف في مواجهة قلعة شامخة لا مكان فيها لمقامات تحفظ أسرار أحد. وربما أدرك (البلدوزر) هذه المسألة في قرارة نفسه ، فرحل مفضلا تلك الشجرة الغامضة التي وقع عنها. ربما كان الأمر كذلك، فقد ورث (البلدوزر) حساسية ما من أستاذه الروسي. ربما كان يفاخر جهرا باسم كونستانتين ستانسلافسكي أكثر مما يجب. ربما ورث حساسية من هناك. قرأ (اعداد الممثل) بتمعن. وردد آلاف العبارات المقتبسة منه. وعندما عرض على طلابه في معهد خاص للتمثيل فيلم (هاملت) بنسختيه الانجليزية والروسية أوصلهم بحنكة بالغة إلى قرار نقدي خطير. قال إن الممثل الروسي سمكتونفسكي لمس روح الأمير الدنماركي أكثر من مواطن شكسبير نفسه . لقد أسقط (البلدوزر) لورنس أولفييه من حسابات الطلاب الجدد إلى فترة طويلة . كان يدرك أنه يغير من أسرار الممثل، ولا يعمل على إعداده ، بل ويسخر من طاقات ممثلين كبار ، ويوظفها كما يشاء، ويمرح . وهذه خاصية فقدها حين أوغل في عمل مسلسلات تلفزيونية يصعب حصرها وتذكرها كاملة.

لم يكن (البلدوزر) من طينة ممثلين كثر جاؤوا مصادفة وعملوا في الدراما التلفزيونية، وبقوا أسرى المنظومة الإنتاجية وفرسانها المقنعين. فقد درس فن التمثيل في موسكو وانكلترة، وكان يمتلك ثقافة رفيعة في هذا المجال. وربما آثر الانسحاب بطريقته، أو أوعز لنفسه بالسقوط من فوق الحصان. لم يكن هناك تأكيد. لم تكن هناك معلومات موثقة حول حادثة سقوطه. حتى الكلمتين اللتين نطق بهما أثناء عملية إسعافه، لم يتم التأكد منهما. ولكن من المؤكد، وهذا أمر بات يدركه  خلو أبو نافعة أن (البلدوزر) كان من طينة درامية مختلفة، كان يحلم ويفكر كأمير دنماركي مقاتل وشاعر، ويمكنه أن يتلصص بجسارة على موسيقى جاك أوفنباخ. إنها موسيقا تصلح للتلصص على رؤوس الأصابع. وربما كانت سببا إضافيا في هزيمته وسقوطه من أعلى شجرة غريبة. كان سقوطا مدويا على رؤوس الأصابع، تماما كما يفعل هاملت الروسي حين يناصب هاملت الانجليزي العداء، وينتقم لأبيه بطريقة (البلدوزر) الخرافية

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فجر يعقوب

روائى ومخرج سينمائى فلسطينى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل من رواية: “نقض وضوء الثعلب” – تحت الطبع

ـــــــــــــــــــــــــ

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم