د. نعيمة عبد الجواد
من منَّا لم يدغدعه حلم البطولة فجعله هائماً في سماوات من الخيال! البطولة هي ذاك الحلم الرائع الذي يغذي نفوسنا بأمل إبهار الجميع بأعمالنا، وبمواقفنا؛ لنظهر للعامة، والزهو يملأ أوداجنا، والفخر هالة من الثقة بحميمية تعانقنا لتدفعنا أن نقاتل، ونخوض معارك مادية أو معنوية قد يبدو الفوز فيها أمر ميئوس منه. لكن بحنكة البطل، يتم تسوية جميع الأمور بدقة، فتتبدل المواقف السلبية بأخرى إيجابية، والسبب: أن البطولة قد تسيدت الموقف، وتطل في كل لحظة كفارس مغوار له قدرات في إجمالها خارقة، وسر خرقها للعادة هو ذاك الشخص المغوار الذي يمتلكها، ويشكلها وفقاً لعقليته الفذة.
وفي تلك اللحظة تماماً من الزهو العارم ترتطم رأس هذا البطل المغوار بأرض الواقع ليكتشف أنه كان يعيش في وهم كبير، قد صاغه بكلمات رنانة، لا مجال لها على أرض الواقع. وذلك ما قد عبر عنه الكاتب الرائع فرانتز كافكا Franz Kafka (1883-1924) بشكل خفي في جميع كتاباته؛ حيث كان يترك للقارئ أن يستشف المفاهيم التي يرغب في إلقاء الضوء عليها مما يصيغه بين السطور. ولكن عندما أراد كافكا Kafka بكل شفافية أن يعبر عن لب البطولة، ومدى ارتباطها بأرض الواقع، فعل ذلك بشكل شديد الاقتضاب من خلال “سانتشو بانزا” Sancho Panza ؛ لأن البطولة الحقيقية لا تتطلب الكلام الكثير؛ لأن متطلبها الأوحد، وقبل أي شئ، هو الأفعال فقط، حتى ولو تبدت للعيان وكأنها ضئيلة غير مؤثرة أو لا طائل منها.
ومن أعظم قصص البطولة التي لا تزال تهز أرجاء العالم الأدبي وأرض الواقع، والتي علَّمت -ولا تزال – تعلِّم أجيال معنى البطولة كانت رواية الكاتب الأسباني الكبير ميجيل دي ثربانتس Miguel de Cervantes (1547-1616) الذي استطاع أن يحفر اسمه بين أعظم كتاب العصر القديم والحديث بداية من القرن السادس عشر الميلادي بروايته الشهيرة جداً “دون كيخوته” أو كما يطلق عليها بالعربية “دون كيشوت” Don Quixote(1589) وتلك الرواية لا تزال حديث الأوساط الأدبية، ومعلماً لجميع الأجيال، فهي لم تسكن أبداً على أحد الأرفف على مدار خمسة عقود من الزمان، والسبب أن كاتبها ميجيل دي ثربانتس Miguel de Cervantes قد أضفى عليها من روحه، ومن تجاربه الشخصية التي جعلته يصعد لقمة المجتمع بروايته “دون كيخوته” Don Quixote والتي تمت ترجمتها إلى مائة وأربعين لغة ولهجة، وتعد تلك الرواية الأسبانية الموطن من أكثر الأعمال التي يتم ترجمتها حتى يومنا هذا بعد كتاب “الإنجيل”. وطوال الوقت، نجد أن رواية “دون كيخوته” Don Quixote تتلقفها أيدي الباحثين والدارسين، وتنتزعها المسارح ودور العرض لما عليها من إقبال لا تنطفئ جذوته، ثم يختطفها الفنانون التشكيليون ليجدوا منها معينا لا ينضب للإبداع، وأما الموسيقيون فيجدون فيها سلوى الإلهام الذي يحلق بمقطوعاتهم الموسيقية ورقصات الباليه التي قد تصاحبها في عنان سماوات الإبداع.
ومن أهم الأسباب التي أفضت برواية ميجيل دي ثربانتس Miguel de Cervantes “دون كيخوته” Don Quixote لهذا العالم من الشهرة والمجد تناولها لموضوع واقعي غاية في الأهمية، وهو أن: الإنسان قادر على تغيير مصيره مهما كانت الظروف؛ لأن لكل إنسان قدرة داخلية جذوتها لا تنطفئ. لكن الأهم من ذلك، أن يمتلك الإنسان القدرة على فهم هذه الجذوة، والحفاظ عليها حتى لا يأتي يوماً تنطفئ فيه بلا رجعة. وباختصار، تحكي رواية “دون كيخوته” Don Quixote قصة نبيل ريفي عجوز يدعى “ألونسو كيخادا”، أفنى عمره متعطلاً كسولاً في قرية صغيرة بإقليم المانتشا، وكانت تسليته الوحيدة قرءاة كتب الفرونسية، والاستمتاع بمغامرات الأبطال حتى امتلأ خياله منذ صغره بهذه القصص والأقاصيص – تماماً مثلما حدث في الواقع لكاتب الرواية ثربانتس Cervantes – وفاضت روحه هياماً بكل ما يقرأ من قصص فروسية، لدرجة أن التهبت روحه شغفًا بهذه القصص، فباع أرضه ليشتري” كتبًا” تلهب روحه، وتملأ وجدانه بخيالات وأوهام لا تفارقه في يومه أو منامه، جعلت من صور معارك الفرسان، ومشاهد الحب والغرام قوته الدافعة ليعيش جميع أيامه في سعادة.
وبسبب انغماسه في هذه القراءات قلباً وقالباً، يفقد “ألونسو كيخادا” القدرة على الإدراك السليم، ويسمى بروحه من عالم المادة لينغمس في عالم من الأوهام الذي يحثه أن يعتقد أن ما يموج في مخيلته حقائق ملموسة. فينفصل عن الواقع أكثر، لينغمس في عالم هستيري يدفعه إلى تنفيذ ما يتصوره في مخيلته. وفي هذه اللحظة، يأتي التحدي الأعظم الذي يحول ريفي عجوز إلى بطل مغوار. وتحقيقاً لأمنيته، يترك “ألونسو كيخادا” منزله الريفي؛ لأنه قرر أن يعيش كفارس مغوار. وعلى هذا، يختار لنفسه اسم “دون كيخوتة دي لامانتشا” Don Quixote de la Mancha، ويقرر أن يجوب موطنه مقاطعة ” لامانتشا” ممتطيًا صهوة حصانه الهزيل الأعجف العجوز مثله، وقد ارتدى زي فارس متجول وأمسك رُمحًا طويلاً وعلق السيف في حمائله. وجعل لفارس “دون كيخوتة دي لامانتشا” الهدف الأسمى له هو لقاء الظالمين، وتلقينهم درساً لا ينسونه أبداً، وكان على ثقة أن النصر سيكون حليفا له، لأن قلبه عامر بفكرة أن الأقدار قد اختارته ليكون البطل الذي سوف يعمل على إصلاح ما في العالم من شرور، والدليل على ذلك أن صديقه الحميم سنتشو بانزا Sancho Panza يرافقه ويؤازره.
الغريب في ذلك الأمر، أن “دون كيخوتة دي لامانتشا” يفرض نفسه على ساحة الفرسان الأبطال، لدرجة أن في بعض الأحيان قد يصدقه أهالي القرية بالرغم ما تحويه أعماله من جنون وعبثية. ومن خلال شخصية “دون كيخوته” يحقق ميجيل دي ثربانتس Miguel de Cervantes كاتب القصة هدفه الذي حاول أن يحذر به جمهور أسبانيا في زمانه ، وهو شجب قصص الفروسية وتعرية ما فيها من زيف وعبث.” فبطولات “دون كيخوته” ما هي إلا أوهام وحماقات، لكنها في النهاية كانت قوية التأثير حتى فيمن أثار فيهم السخرية. ويدعو ثربانتس بروايته هذه شعب أسبانيا للتحرر من أوهام البطولة والرجوع لأرض الواقع مرة أخرى؛ لتحقيق بطولات حقيقية، والتحرر من الأوهام العبثية. وتوافقاً مع ذاك المفهوم، نجد أن نهاية الرواية شديدة المأساوية، بالرغم من أن كاتبها يحاول جاهداً أن يبقي على الروح المرحة العبثية. فيموت “دون كيخوته” عندما يقرر أن يعود لمنزله ويكفر بالفروسية والأبطال. علماً بأن موته ليس هو المأساة، فالمأساة الحقيقية أنه بالفعل قد أضحى فارس، لكنه لم يعلم هذا. وهنا تنبلج عبثية الأقدار، وترتطم رأس الجمهور والحالمين بالبطولة بواقع مرير.
لكن لا يقف الأمر عند ذلك الحد، فلقد قام فرانتز كافكا Franz Kafka الفيلسوف الأديب بتفكيك هذا النص وإعادة كتابته مرة أخرى؛ ليزيد من جرعة مأساويته، وليعطي مفهوماً جديداً للبطولة ليزيد من عبثية الأقدار. فلقد أفصح فرانتز كافكا Franz Kafka في قصته القصيرة جداً شديدة الاقتضاب “الحقيقة حول سانتشو بانزا” The Truth about Sancho Panza مفهوماً للبطولة لم يتطرق له أحد؛ حيث كان فيها سانتشو بانزا الصديق الصدوق ل “دون كيخوته” يحكي السبب الحقيقي وراء موافقته في تتبع ومؤازرة صديقه “دون كيخوته” في بطولاته العبثية دون تواني، بالرغم من أنه كان يظهر كساذج يستحق الرثاء. فالحقيقة هي أنه كان يعاني من مس شيطاني لسنوات طويلة، وكان المس يدفعه لأن يهذي ويحكي عن بطولات ليس لها على أرض الواقع مكان. لكن بقوة إرادته استطاع أن يصرف عن نفسه هذا الشيطان. ولسوء الحظ، شهد هذا الشيطان يخرج من جسده ليستقر في جسد هذا الريفي العجوز “ألونسو كيخادا”، ليأخذ منه مأخذه ويجعل هذيانه لا يدور في رأسه فقط، بل يحدث يتناثر على أرض الواقع. ومن ثم، وجد “سانتشو بانزا” أن تحمل مسئولية طرده لشيطانه ليؤذي آخر برئ، هي واجب لا فرار منه. وكأن كافكا Kafka راغباً في تفكيك ليس فقط نص ثربانتس، ولكن أيضاً مفهوم البطولة. فالبطولة الحقيقية هي تحمل المسئولية، وليس الأفعال البراقة. وعلى هذا نجد أن “دون كيخوته” يموت كافراً بالبطولة وهو لا يعلم أنه قد استطاع أن يحققها، في حين أن “سانتشو بانزا” يعيش وهو يعلم جيداً أنه هو البطل الحقيقي، والعقل المدبر، لكنه لا يفضل أن يفصح عن نفسه. فمن العبث الافصاح عن النفس وسط من لا يقدرها، وإلا لسوف يجد المرء نفسه في نهاية المآل وسط شرذمة لا تقدره، وأخيراً لن يقدر هو نفسه، كما حدث ل “دون كيخوته”.
فالبطولة ليست عبثية، والأعمال البراقة قد تكون أيضاً ليست بالعبثية، لكن الانغماس في عالم من الأحلام الزائفة لن ينكشف إلا عن وهم، ومع الأوهام تتداعى نهايات غير مرغوب فيها، ولن تسفر إلا عن هشاشة الإنسان وعبثية وجوده، كما حدث أيضاً ل “دون كيخوته” الذي مات كسير الخاطر، في حين أن “سانتشو بانزا” عاش قوي، واستمر عليماً بأهدافه. فالواقع ليس بالعالم المثالي، لكنه يحتاج القوي شديد النفس للتغلب على مآسيه التي تدفع الجميع لطريق مسدود تدمغه هوة من اليأس لا قرار لها.
وفي عالمنا الحالي شديد التقدم والرفاهية، نجد أمثالاً كثيرة على الانغماس في الأوهام وتدمير الذات. فعلى سبيل المثال، حالياً، وجدنا صغارنا وكبارنا يلتفون حول ألعاب الفيديو بأنواعها المختلفة. ألم تفكر من قبل لماذا يتلهف ليس فقط الصغار، ولكن أيضاً الكبار من الرجال على ألعاب الفيديو – وخاصة الدموية منها – ويقضون أمامها ساعات وأيام طويلة دون أن يملوها؟ السبب في ذلك الاحساس بالارتياح عند الارتكان على عالم من الأوهام الطفولية؛ لأنهم لا يستطيعون تحقيق أحلامهم على أرض الواقع. والنتيجة، تراجع رجولتهم، وتفسخ الأسر، وعدم تحملهم لمسئولية زوجاتهم وأولادهم. فأوهاوهم تجعلهم في ينظرون في المرآة ليجدون شخصاً آخر براق على خلاف ما هم عليه في حقيقة الأمر. وكما حدث ل “دون كيخوته” في هذيانه، يعيشون في حكاية تلو الأخرى تعذبهم فيها الحقيقة أنهم يختلقون شخصية مغايرة لواقعهم لكنها تجبر حالهم، وتهدئ من روعهم. ولا تقتصر الأمثلة على عالم الذكور، فهناك الكثير والكثير من البطولات والأوهام التي ملأت عالم اليوتيوب، ومواقع لتواصل الاجتماعي، وعيادات التجميل.
الجميع يرغب في الفروسية والسبق، ونحن جميعاً بمقدورنا أن نصير أبطال، شريطة أن نتحرر من الأوهام التي ليس لها على أرض الواقع من سبيل، وأن نتحمل مسئولية أفعالنا، وإلا سوف تطوينا العبثية في قبورها المحكمة.