مريم حسين
تكاسلت عن مراجعة نَصّ الفيلم، ارتديت ملابس ألوانها أوحشتني برتقالي وبيج “بعد فترة من ارتداء الأسود”. عقدت رباط الصندل وأنا أتابع بأذني لعب الفتيات في الشارع: الولاد زفت وقطران والبنات ورد ورمان.
ألقيت نظرة سريعة على ملامحي، كما هي.. حزينة ومجهَدة، خرجت من باب البيت وأنا أتابع مجموعة الفتيات وأصدّق على غنائهن مبتسمة: عربية الصبيان وقعت في الخرة، عربية البنات ماشية منورة.
بالأمس كتبت لهاني صديقي المُخرج: صديقي العزيز.. لن أتمكن من المجيء في الغد. فبالأمس في الثانية صباحاً وجدت وسط أوراق أبي ظرفاً به أول قصة كتبتها في حياتي “الكلب صديق للإنسان” كنت في الصف الثالث الإبتدائي، كتبتها في ورقة واحدة
ثم كتبت في نهاية الورقة: إلى الأستاذ بابا الحرّيف.
فقط أكملت ترتيب الأوراق برفق وشربت كوب شاي بسكر قليل ونمت واستيقظت وذهبت للعمل ومازحت أصدقائي. فقط ثمة شيء ما يسير خلفي أو بمحاذاتي.
يسبقني بخطوة أو خطوتين، كما أن بعض البثور المتوطنة في وجهي منذ فترة غالبا بسبب سوء أخلاقي سوف تمنعني من المجيء.
رد: جميعنا في انتظارك.
عندما راجعت في عقلي خريطة الذهاب لموعدي لم أتردد كثيرا، فالإنسان من حين لآخر يحتاج للذهاب لأماكن كجاردن سيتي، أماكن يسهل الرقص بشوارعها، كما أنه لدي فضول لرؤية ياسر وهو يؤدي بروفة مشهد به حب وعناق وتقبيل.. مشهد من تأليفي..
ركبت سيارة أجرة متجهة لقصر العيني تنتهي رحلتها أمام قصر محمد على ثم ينزح الركّاب كل إلى هدفه سيرا على الأقدام.
توقفت الإشارة بعد عبور كوبري الجامعة أمام المغسلة تماما، منذ شهرين فقط علمنا أن تلك الباحة المجاورة لمسجد صلاح الدين هي مغلسة موتي وليست ملحقا طبيا علاجيا.. كان الباب مواربا وكل شيء هادئ ومنظم ونظيف. أخرجت نصف جسدي من شباك السيارة وأنا مندهشة وغير مصدقة أن الألواح التي جلسنا عليها في انتظار أبي عبارة عن ألواح رخام ضخمة راشقة في الارض. نبهني السائق لإدخال رأسي. عدت بداخل السيارة وأنا أؤكد لنفسي وأحلف لها مائة يمين أن الألواح كانت تروح وتجيء، كانت تتحرك..، وعندما يئست من إقناع نفسي أخبرتها أن الألواح فعلا كانت تتحرك وعربات نقل الموتي العديدة كانت تشعل السجائر لبعضها.
اقتربت من العمارة العريقة المبطّنة بالرخام الأسود المنقوش بِبُطَش بيضاء وأنا أتحاشى دهس وردات بحجم الكف متناثرة حول شجراتها، وأردد أنني في شارعنا أتحاشى دهس روث حمير الباعة الجائلين. استقبلني هاني صديقي المُخرج ووجدت ياسر ونادين ملتفين حول جهاز لاب توب يقارنون مقارنة دقيقة بين رقص تحية كاريوكا وسامية جمال وكيتي وفي النهاية كسب هاني بعد مناقشة طويلة وأقنعهم أن نعيمة عاكف هي الأكثر حرفنة وذكاء.
أدركت أن توجيهات هاني لياسر ونادين قبل بدأ البروفة هي توجيهات لي أنا..
“تنشقيني جيدا، تحسسي جسدي بقوة ودقة، يديكِ قويتان كفاية جعلي أفقد وعيي منخرطاً فيكِ عن طيب خاطر “
فقط خرجت للشرفة المطلة على فيلا بحديقة عملاقة أدخن سيجارة في ارتباك طفل
قرر عدم الإنصياع للتعليمات وتصنع عدم الانتباه لمصدرها.
تتبعت بدقة كل تفصيلة في وجه وجسد ياسر وهو يؤدي مشهد الحب مع نادين، دار بها في أنحاء الغرفة. رغبته التي اشتعلت تدريجيا زادته وسامة وزادتني حنقا، اندمجا تماما ونسيا أننا معهما. انزويت حانقة أردد في سرّي أفكارا حمقاء مثل: أنني من قمت بالتأليف، تلك المتعة من حقي، ولاّ يعني أنا أألّف وهما يتبسطوا.
في استراحة الغداء اختار لي ياسر طبقا زجاجيا أزرق وجلس قبالتي، وأثناء تناولنا للطعام لاحظ شرودي وشرع في حكاية جده الكبير. انتبهنا نحن الفتاتان لحَكيُه بشغف بينما علّق هاني عينيه على ملعقتي التي أعلم أنه سوف يضعها في فمه خلسة في أقرب فرصة كبديل لتقبيلي.
“جدّي كان صياد فقير ميملكش حتى حق المركب اللي شغال عليها في سمنود، وفي يوم جه الخديوي إسماعيل لزيارة البلد وفي كل حتة يروحها الدنيا مقلوبة عشانه لحد ما وصل لشط النيل وطقت في دماغه يعدي البر التاني، الحرس احتاروا لحد ما جه جدي بمركبه البسيط وعرض عليه يعديه، ولأن المركب صغير جدا فأخد الخديوي بس. ولحد اللحظة اللي بحكي فيها محدش عارف المراكبي البسيط قال إيه للخديوي عشان بمجرد ما ينزل من المركب يَهِب للمراكبي كل الأرض الموجودة في البر التاني وأدّاله جارية شركسية من أجمل جواريه عشان يتجوزها، ومن هنا إتكونت ثروتنا وإشتهرت عيلتنا بأنها معسولة اللسان “.
سرحت في حكاية ياسر والطعام وتفاصيل شخصيات الفيلم واضعة المزيد من الملح على طعامي. لكم أود أن “أزغد” أبو أشرف في كتفه المماثل لحجم أكتاف العجول التي يذبحها يوميا ويعلقها مدلّاة على مدخل جزارته ملفوفة في كفنها. محله الواسع
نظيف للغاية ومعظم الوقت سواطيرُه مغسولة ولامعة وأرض المحل بيضاء، تقريبا لا أرى اللون الأحمر عليها، يارجل..شرف الجزار هو الدم..ما كل هذا الملح الذي
يفترش أرضك. فطوال الوقت الملح متناثر بكثافة على الأرض ويظل الملح أبيضا لا يتأثر ببقايا قطرات دماء متناثرة فيتغير لونه للوردي مثلا.
ذلك لا يمس رأيي في الملح… فدائما ما أراه مطهرا للجسد والروح شافيا من كل الأمراض مهما كانت قاسية، فقط يجلس الواحد مفرود الظهر ويتناوله بملعقة صغيرة. كما أنه يَسحب الحزن ويُذيبه ويحوّل الدموع إلى بلورات مبريّة الحواف كي لا تجرح وللاحتياط ينقع الجسد عاريا في ماء شديد الملوحة كماء بحيرة بلدتنا الفيوم، لطالما وصفها أبي بالحصيرة..أمواجها طفيفة تكاد تتلاشى..وحين تستقر على الشاطئ تكون أقرب إلى شخص يبتلع ريقه برويّة.
بعد تكرار عدة بروفات على معظم المشاهد التي تجمع ياسر ونادين. جلسنا جميعا شبه راضين في البلكونة وهاني يؤكد لي أن نَفَسا واحدا من الحشيش لن يجعلني أخلع ملابسي في أوتوبيس الجيزة. ضحكنا جميعا ثم ناقشت هاني عن تصوره لموسيقى الفيلم وتساءلت: لماذا لم تُخلق الموسيقى التصويرية مصاحبة لمَشاهدنا المستمرة في الواقع..لم نضطر لاختلاقها في الأفلام..لم لا تصدح موسيقى حزينة لانعرف مصدرها عند مَشاهد الحزن وموسيقى مبهجة في مَشاهد الفرح وموسيقى حماسية أثناء مشاهد الخطر.. هل حينها كانت ستتضاعف مشاعرنا؟ هل كان ذلك سيسهّل الأمور أم يزيدها تعقيدا؟
حكيت لهاني ونحن نسير على الكورنيش باتجاه قصر العيني أنني كنت في السابعة أشاهد مع أبي فيلما، وعندما جاء مشهد عبد الحليم حافظ وهو يغني لمريم فخر الدين التي تحاول جاهدة ترميم كرامته. سألت أبي أنهما واقفين بجوار الماء وليسا في الحفل في السرايا فمن أين إذن تأتي الموسيقى ؟!!.
أجاب الأب بتلقائية: من تحت المية. الفرقة قاعدة تعزف تحت المية.
إنفجر هاني ضاحكا بشكل لفت أنظار الناس، وظل يواصل الضحك إلى أن أركبني أتوبيسا فارغا إلا من أربعة أنفار متجها لميدان الجيزة، أسندت رأسي للشباك بحرص وأنا أحاول أن أخمن ما قاله المراكبي للخديوي، وأحاول تخمين عدد المرات التي هرب فيها أبي من مدفنه طائرا إلى البحيرة التي لا تبعد كثيرا ليمارس فعله المفضل، السباحة إلى برّ البحيرة الثاني.
………………..
*نشرت في “أخبار الأدب”