البحث عن طابع

البحث عن طابع
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد ممدوح عبد السلام

لعبة من ألعاب القدر تخدعنا كل مرة، أن نطأ مدينة قرأنا اسمها في مقالة، أو نتبين بعد حديثنا إلي شخص، أن تفاصيل الموضوع مرّت بأذهاننا في مكان وزمان مجهولين. دارت الأسطر السابقة في ذهني عندما هبطت ميدان المحطة، الذي كان بلا روح، بلا فاترينات تعرض ما أنتجه الطرف الآخر من العالم. أوشكت علي البكاء كطفل تائه، واعتقدت أن ما رأيته لم يكن حقيقياً، وإنما نتاج متخيل لوصف صديق. عاد الاطمئنان إلي ذاكرتي عندما وجدت في جيب بنطالي الأيمن طابعاً أحمر اللون، وآخرين أزرقين. استقللت السيارة حتي الجامعة، فأصبحت بين أعمدة الممرات الرطبة. دفعت خمسين جنيهاً في الخزينة واستلمت إيصالاً أحمر اللون، إضافة إلي ورقة كان يجب أن توقّع من موظفي " شئون الطلاب"، " رعاية الشباب"، " وكيل الجامعة"، " شئون الخريجين"، و" موظف الأرشيف".. كان أسود الوجه، حاد المزاج، يدخن بشراهة واستغرق وقتاً في البحث عن الختم، الذي وجده بجوار عامل افترش الأرض لصق مكتبه؛ واضعاً رأسه فوق كومة من الملفات. ضرب الموظف ورقتي بقوة، فغطي قوس اللون الأزرق للختم منتصف اسمي "وكيل الكلية" و"موظف الحسابات"، فخمنت أن معدتيهما اضطربتا لذلك، فضحكت. تجولت بين الفصول المسماة مدرجات كذباً، كأني أبحث عن قاتل يتجول في رأسي، حيث انطبعت صورة المبني بممراته ومكاتبه، وانطبع معها سوء فهم، ووجوه مجهولة تشبه أطفالاً لم يتوقف بكائهم، مندهشين من تركهم أسرّتهم الدافئة، ليكونوا طلاباً في الصف الأول الابتدائي. لم أجد قاتلاً، وإنما وجدت ممرات فارغة بيضاء، كنت نقطة سوداء في منتصفها. بعض الفصول خاوية، تغمر الشمس مقاعدها. استمتعت بالمشهد الذي بدا كلوحة. سمعت ضحكات مكتومة، وشممت رائحة دخان سجائر من خلف عامود ضخم، وعندما اقتربت أطل أحدهم برأسه فسألته عن موظف الدور الثالث. تبدّلت ملامحه وأطلق شتائمه في وجهي. تعثّرت عندما كنت أتراجع استعداداً للهرب. حاصروني كالكلاب في دائرة ضيقة. دق قلبي بعنف وابتلعت ريقي بصعوبة، فانزلقت قطرة عرق بطول سلسلة ظهري، خيّل إليّ أنها آتية من عالم آخر يسوده الصمت، لتشق طريقها فوق قضبان فقراتي العظمية، مارّة بمدن مظلمة وكهوف مهجورة، رسمنا علي جدرانها من ملايين السنين وجوهاً شائهة، لإخافة تلك الكائنات المفترسة التي تتربص بنا، لكننا اكتشفنا أنها تختبئ تحت جلودنا، في انتظار اللحظة المناسبة لتخرج إلي النور. تلقيت ضربتين أسفل عيني اليسري وثالثة في رأسي، وركلتين بجنبي الأيمن. خلّصني من بين أيديهم عامل بجلباب متسخ. اقتعدت حافة سور الممر القصير، أرقب الأبواب المغلقة وانعكاس ظل أعمدة السور علي أرضيتها الفارغة. شعرت ببلل داخل جيبي الأيمن، فأخرجت الطوابع ووضعتها داخل حقيبة الكتف. انزحت عن السور عندما رأيت أستاذ الأدب المقارن. كان يشبه الممثل الذي قام بدور"عبد الجواد أيوب" مخترع "الفنكوش" في فيلم "واحدة بواحدة". صلعته سوداء كصخرة مدببة، يحوطها شعر أبيض كثيف كزبد البحر. سألته في استهزاء مبطن:"هل أتي موظف الدور الثالث؟". شعر بالإهانة، فكيف لمربي أجيال أن يعمل كدليل؟، لكني قصدت بسؤالي أنه لا يصلح إلا لتلك المهنة، لأن مادة كتابه كانت تجميعاً من كتب لمؤلفين موتي. نعتني بالسافل لأنني لم أنتظر الموظف أمام مكتبه. أخبرته أنني لو فعلت ذلك لانتهت قصتي قبل أن تبدأ. ألقي في وجهي بالكتب التي في يده، تفاديتها فتخطت السور القصير، واستقرت في ساحة الجامعة. جريت من أمامه مذكّراً أنه خارج لتوه من فيلم عرض منذ ثمانية وعشرين عاماً. وجدتني أعلي سطح الجامعة. لو سقطت السماء بين يديّ الآن، لصنعت مدينة من الثلج نابعة من أحلامي. فكّرت في المليونين الذين يسكنون المدينة، ورأيت أنه من العبث أن تتشابه أحلام كل هؤلاء، لكنني كنت علي يقين أن المنتحرين الذي وقفوا هنا، قد رأوا حلماً واحداً. حاولت تذكر سبب مجيئ إلي تلك النقطة، لكنني فشلت وقد سرت برودة في أطرافي، نزلت علي إثرها مسرعاً. اصطدمت ب"وكيل الجامعة" و"موظف الحسابات"، اللذين كانا يكزان علي أسنانهما من الألم. نظرا إليّ بارتياب فداريت وجهي في أحد الأعمدة. ذكرني ألم الكدمات التي في وجهي بسبب مجيئ. أخرجتُ من حقيبتي قطعتي كيك "هوستس" التهمتهما في قضمة واحدة، فلاحظت وجود أثر لماء في باطن الحقيبة. كان مزيجاً من اللونين الأحمر والأزرق. وضعت الطوابع علي حافة السور لتجف. أخرجت قلمي لأدون في مفكرتي تاريخ ذلك التحوّل المدهش: " لقد أمضيت شهراً في البحث عن تلك الطوابع، اتصلت خلاله بأصدقاء وأقارب بعيدين وجدوها بعد عناء كبير، وقد أخبروني أن العالم كان يبحث مثلي .. كنت أغيّر مكانها كل يومين من كتاب لآخر .. تنقلتْ الطوابع كل تلك المدة بين مائتي كتاب، لم تعد صالحة للقراءة بسبب ماء تلك الطوابع .. تكرر ذلك الأمر في باطن الحقيبة التي أعرضها للشمس الآن"وضعت مفكرتي في جيب صغير بالداخل، فبان طريق في نهايته بناية مهجورة. " هل سيبلغ أستاذ الأدب المقارن عميد الجامعة بما حدث؟".

تغاضيت عن ذلك السؤال السخيف، فلن يدخل أستاذ سبعيني في صراع، يسبب له آلاماً مبرّحة قبل تركه الحياة. أفرغت مثانتي في الدور الأرضي. صعدت إلي الدور الثالث فوجدت الموظف يقرأ في مصحف صغير. هممت بالحديث إليه، فعلا صوته بالقراءة : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان". رجعت للخلف مستنداً لسور الطرقة، الذين بجانبي ينفخون من الغضب. انتهي من القراءة وأزاح مكتبه للأمام فسدّ به فتحة الباب. وعندما جاء دوري، طلب مني إبراز صورتين شخصيتين قبل الطوابع. فتشت حقيبتي فاكتشفت أنني نسيت صوري في البيت، لكنني رأيت شجرة بارزة أمام البناية المهجورة. قررت المبيت عند صديق حتي الصباح، والتصوير في ستديو يقع خلف بيته مباشرة. استيقظت منتصف الليل وعبثت في حقيبتي، فوجدت أن ماتبقي من الماء قد جفّ، وظهرت منضدة أسفل الشجرة. أبرزت الصورتين للموظف صباح اليوم التالي. طلب مني الطوابع. أخرجتها له، لكنه أخبرني أن الطوابع الحمراء ناقصة، لذا لن يعطيني شهادتي المؤقتة حتي أستكملها. تكوّرت في ركن باكياً مع آخرين. أشار عليّ أحد الواقفين بالذهاب إلي العم سيد – يعمل ساعياً- الذي يتاجر في الطوابع، ويقتعد كرسياً في الدور الثاني أمام مكتب " وكيل الجامعة". لم نجده. هبطنا للدور الأرضي نبحث عنه في زاوية الصلاة. أقبل علينا بلحيةٍ كثةٍ لم نرها من قبل. لاحظ اندهاشنا من هيئته الجديدة، فداري ارتباكه بإخبارنا أن آخر طابعين قد باعهما منذ دقائق. ركبنا السيارة من أمام الجامعة قا صدين مكتب البريد. رن هاتف من بجانبي، فأخبرني أن أحد زملائه قد وجد له طوابع زائدة. أوقف السيارة قبل اجتيازها شريط السكك الحديدية، وعاد إلي الجامعة سيراً علي الأقدام. أكملت في الطريق بمفردي. شعرت في ميدان المحطة بأن العالم ضدي، وضد هؤلاء الذين لو التزموا الصمت، وتهامسوا فيما بينهم بمؤامرة القدر، لأعلنوا انتحارهم الجماعي. فكرت في طرح فكرتي، من خلال ميكروفون لبائع ملابس فوق رصيف، لكن خشيت اتهامي بالجنون. قصدت مكتب بريد شمال المدينة. يقع في شارع رطب تفوح منه رائحة ذكريات بعيدة. قال لي الموظف بعد فراغه من صلاة الظهر، أن المدينة تعاني من أزمة حادة في الطوابع الحمراء، عطّلت مصالح نصف السكّان. وقفت أمام صندوق قمامة صدئ. أخرجت من حقيبتي مناديل ورقية، علبة كانز ميرندا تفاح، فرأيت رجلاً كان يجلس إلي المنضدة شارد الذهن، إنه السير"رولاند هيل" مخترع أول طابع بريد عام1840. شعرت بزهو مزيف لأن حقيبتي بها رجل، يعود اختراعه إلي مائتي عاماً تقريباً.

لقد أيقنت أن معاناتي عائدة إلي حقيقة مادية: أن الحواف المسننة شئ مشترك بين طوابع العالم. لم يتبق أمامي غير مكتب البريد الواقع غرب المدينة. عبرت طريق السيارات السريع. دخلت شارعاً صاعداً. علي يميني كان أطفال مندفعين من مدرسة" القديس يوسف"، وعلي يساري- في شرفة الدور الثالث- عجوز سبتني بأبي، بعد وضعي لها المنفضة البلاستيكية في سبت، أدلته ما يقارب الساعة، لم يمر أحد خلالها أسفل الشرفة. خرجت إلي طريق الكورنيش. انحرفت يميناً فوق رصيف طويل. طرقة مكتب البريد في مستوي نظري، شبه مظلمة، وأرجل العملاء ممدة حتي منتصفها. قال الموظف أن الطوابع ستأتي بعد أسبوع. شعرت بالسعادة لأنني فشلت في مهمتي، إنها المشاعر التي تنتابنا عندما تتحول هزائمنا الشخصية إلي كارثة عامة تنفي عن أحدنا الاتهام بالتقصير، إنها السعادة الناتجة عن الشعور المشترك بالألم. عدت إلي الميدان. أردت الاتصال بصديقي لاستشارته. نفد رصيدي بعد أول كلمة واسودت الشاشة تماماً. اكتشفت أن البطارية بحاجة لإعادة شحن، ولم يكن الشاحن معي. النقود بالكاد تكفي لمواصلاتي. دلفت من الباب الزجاجي لمكتبة عامة، مختلساً النظر لعلي أجد شاحناً لأحد الموظفين يساعدني علي تثبيت رقم صديقي، لأرسل إليه برسالة " كلمني شكراً". أصبت بخيبة أمل حثتني علي البكاء، لكني تماسكت. تجوّلت بين الأرفف معتقداً أن آخرين مثلي يتجولون بين صفحات الروايات المكدّسة أمامي، أسفل سماء ماطرة، أو مستمعين إلي موسيقي، معتقدين – أيضاً- أن آخرين في مكان آخر من العالم يشاركونهم وحدتهم. خرجت من المكتبة إلي الميدان. أصبحت الطوابع كحيوان بحري أبيض اللون رخواً. توقف قطار فتقيأ مسافرين يحملون تعاستهم في حقائبهم. جفت آخر قطرتي ماء في حقيبتي، فرسمتا ابتسامة باهتة علي وجه السير " رولاند هيل". تصارعتْ القطط علي بقايا طعام أسفل مقعدي الخشبي .. أخرجت نقودي من جيبي وبكيت.

_________________

محمد ممدوح عبد السلام – قاص – مصر

اللوحة للفنانة: كاملة بسيونى

مقالات من نفس القسم