يارا رأفت ذكي
يعرف نوعٌ من أنواع القلق عند الفلاسفة بأنه القلق الوجودي أو ما يُسمى بأزمة الوجودية. ومن اسمه هو القلق من الوجود، من وجودك ككيانٍ إنسانيّ.
في مرحلة ما من حياتي حينما قررت الذهاب لطبيب نفسي شُخصت بأني أعاني من القلق بشكلٍ عام. هو قلق جزءٌ منه انتقل لي عبر الچينات، وجزء آخر انتقل لي مع كلِّ حدثٍ دراماتيكيّ سبب لي صدمة.
إنه نقطةٌ ضبابية في شكلِ شبحٍ يتمثلُ لي في كل حدث مهم في حياتي، وفي كل شيء جيد يأتي ذلك الشبح ليثبت لي مدى تأثيره عليّ، وكيف بإمكانه أن يحولني لروحٍ تعيسة تظن الفرحَ فخًّا.
تمر السنين ويتوقف هذا الشبح عن الظهور، لأنني لم أساهم في كشفِه، ونجحت في إخفاءه داخلي ووضعتُ قفلًا متينًا. لم أعرف أن ضربةً واحدة يمكنها أن تكسره كسرًا، كأنما وحش قد خرج أخيرًا من مخبئه فخرج بقوة. لم أشعر أبدًا بيأسٍ وثقلٍ رابض على صدري مثلما أنا الآن، بعد أن خرج وحشي مني. وكأنما كنت أحمله داخل رحمي لثلاث سنوات وكان موعد ولادته في السنة الرابعة، فقط عندما شعرت أنني بخير أخيرًا وقررت أن أواصل حياتي طالما أنني لا أقترب من أي شيء حميمي ودافئ؛ فأنا لم أعتد عليه وأعتبر جسدي غريبًا حتى على نفسي. أكره أن أنظر إلى جسدي في المرآة وأتأمله، لم أنظر إلى جسدي منذ ثلاث سنوات. أعتقد أنني أكرهه رغم أنني أعتبر كل أجساد النساء جميلة وكلهن يستحققن الحب والمديح.
أتسائل أحيانًا: ما الذي يمكن لشخص ما أن ينتظره من امرأة تكره جسدها وتكره التلامس الجسدي وأي شعور حميميّ بين متحابين؟ أظل أبتعد عن الناس وأُبعدهم عني حتى لا أشعر بأن بي خطب. وأشعر بالشفقة على نفسي حينما يقرر أحدُهم البقاء، أعرف حينها أنني سأضطر إلى مواجهة ذلك الوحش حتى أكمل حياتي.
أنا أبحث عن المعنى كلما رمشتْ عيناي، أبحث عنه في ذاتي وذوات الآخرين، في نقطة ماءٍ وورقة شجرة وقعت على رأسي، في كتف لامسني بالخطأ، في ابتسامة شخص غريب لي.
أعتقد أنني مريضة بالمعنى. لا يمكنني الاستمرار في شيء مهما كان وأنا لا أشعر بمعناه، وإن حصلت على معنى فلا يكفيني أقل من مائة سبب يجعلني أستمر.
هل أنا مثالية أم أنني فقط قلقة؟
لا أعتقد أنني أبحث عن المثالية، فلقد عانيت خلال حياتي من عبء كوني لا أجيد أيَّ شيء وكوني فاشلة دراسيًّا.
حينما أخبرتني الطبيبة بأنواع القلق الخمسة أصابتني رعشة لإدراكي أنني ربما أعاني منهم جميعًا. شعرت بارتياح حينما أخبرتني أني لا أعاني من الاكتئاب، يالحظي!
تكفيني علةٌ واحدة تأكل من جسدي وروحي.. أشعر أن العالم يعاقبني على جرمٍ لم أرتكبه، أو ربما ارتكبته في حياة أخرى. المهم هو أنني لو كنت شخصًا طيبًا لما عاقبني بهذا الشكل.
لم تشخصني الطبيبة بالاكتئاب لأنني بعد كل حدث مؤلم أحاول أن أجرَّ يومي رغم ثقله عليّ. أخبرتها أن زميلًا لي مات غرقًا، لم أعرفه أبدًا لكنني كنت أراه في الشارع كثيرًا. كنت أبكي ولا أدري لم، لم أعرف إلا أن الموت اختطف أحدهم. ومذ موت أخي وأنا أهابه وأشعر بوجوده حولي. ربما لا أعاني من الاكتئاب لأنني حتى أمام الموت، كنت أواصل حياتي.
لا أعرف كيف يكون التعافي من مرضٍ قابع داخلي كل هذه السنوات. لم أجربه، وأخشى ألا أشعر به حين أقضي سنين أخرى في محاولةِ علاجه. يبدو تجاهله أسهل، لكنه سيقضي عليّ بطيئًا. مقاومته فعلٌ ثقيل وربما يأكل هو أيضًا من روحي.
كيف أتطهر من سمومي؟ كيف أطرد كل هذا القلق من جوفي، كيف أعيش يوم واحد دون أن أعيش جحيمًا من القلق؛ من أن يهجرني الذين تعلقتْ بهم روحي.
ربما سأنتقص من عمر الأرض يومًا، لكنها ترضى أن يُنتقص عمري كله.
أحيانًا يتملكني هاجسٌ أنني سأموت قلقًا، سوف تتفاداني كلُّ أسباب الموت ولن يبقى غير هذا السبب. كيف يمكن أن يموت أحدهم قلقًا؟ يبدو الأمر جنونيًّا، لكنه ليس كذلك بالنسبة لي.
حين يمر يوم دون قلق، أشعر بالرضا عن العالم. إن ذلك يجعلني أقدر كل لحظة اطمئنان وارتياح في حياتي. وربما كان العالم يكافئني بيومٍ واحدٍ على تحملي كل تلك السنين من الخوف.
“يبدو أن الله لا يحبني.”، إيمان مرسال
يتابعني هاجسُ القلق والخوف كمتابعة صوتُ الكمان لأمل دنقل، هاجسٌ مؤلم أكثر من كونه خوف، أتألم من فكرة أن تكون حياتي بلا معنى، تؤلمني فكرةُ أن أصبح بلا أصدقاء أو أن يملّ أصدقائي مني، أن أصبح وحيدة -رغم أني تمنيت الوحدة كثيرًا- لكنني أدركت كم هي موحِشة!
“كأنَّ كل من أحبهم معي
أو كأنني تلقّيتُ خبرَ موتِهم
في حادثٍ جماعيّ.”
إيمان مرسال
لا أحب الوحدة، أعتذر إلى أصدقائي الذين لم أجيب على رسائلهم أو مكالماتهم. لا أحب الصمت، أعتذر إلى نفسي التي حشوتها بالصمت والفراغ وظننت أنه حكمة. أعتذر إلى كل من ظنوا أنني بلا مشاعر، لأنني لم أُعبّر أبدًا عنها. أعتذر إلى نفسي لأنها اضطرت لتحمُّل قسوة العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية