البحث عن الكينونة ولعبة الأنا والآخر في “أكابيلا” لمي التلمساني

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. محمد المسعودي

تعد رواية “أكابيلا” العمل الروائي الثالث للمبدعة المصرية/ الكَنَدية مي التلمساني بعد “دنيازاد” و”هليوبوليس”، وهو عمل روائي يتخذ من سرد تفاصيل علاقة جماعة من الأصدقاء محور متخيله، ويركز على علاقة الراوية “ماهي” وصديقتها “عايدة” بالأخص. ومن خلال ما تسرده الراوية/ البطلة، ومن خلال ما تنقله من يوميات صديقتها “عايدة” تنبني الخطوط العامة لسردية متشابكة العناصر، متضافرة القسمات، لتتشكل رواية تتخذ من التباس العلاقات الإنسانية، والبحث عن الكينونة، وكشف لعبة الأنا والآخر، وتجاذب الذوات واختلافها، من جهة، وتماهيها، من جهة ثانية، أفقا لسردية روائية فاتنة. فكيف تتمثل الرواية سعي الذات الساردة إلى معرفة كينونتها؟ وكيف أدت لعبة الأنا والآخر دورا في تشكل متخيل الرواية؟

من يطلع على رواية “أكابيلا” سيلفت نظره مدى حضور البوح الأنثوي المتدفق الممعن في كشف انشغالات المرأة بما يعنيها، وبما يؤثث عوالمها الحميمة. وعلى رأس هذه الانشغالات إمكانية تحقيق الحضور وسط الجماعة، ومعرفة الكينونة من خلال هذا الحضور لدى الآخر. ومن هنا يبدو أن “ماهي” منشغلة برؤية ذاتها في مرآة صديقتها “عايدة” وفي عيون أصدقاء “عايدة”. وأن هذا الانشغال كان اللعبة الجوهرية التي قامت عليها أحداث الرواية، وكانت الحافز في اهتمام “ماهي” بيوميات “عايدة” وإعادة كتابة فقرات منها ودمجها في الملف الذي خصصته على الكمبيوتر لصياغة هذه اليوميات مرة أخرى، وكتابة سرديتها الخاصة التي يبدو أنها تختلف في منظورها وفهمها لما يجري من حولها عن رؤية “عايدة” ونظرتها إلى الأشياء. وعبر هذا التقابل بين المنظورين –في فهم الآخر والعالم والذات- يتولد نوع من الصراع الدرامي بين الشخصيتين، وهو صراع يجري في الخفاء تارة، ويعلن عن وجهه السافر تارة أخرى. فما الصورة التي تتمثلها “عايدة” عن صديقتها “ماهي”؟ وهل أدركت الساردة/ “ماهي” جوهر كينونتها من خلال مرآة الصديقة، وعن طريق ما كانت تبوح به لنفسها في يومياتها؟

تقول “عايدة” في مقطع دال من يومياتها:

“.. تعرفين كم أحبك. لكن هذا لا يمنع أن أكرهك أيضا على طريقتي. الحب يجعلني أقول إنك كاذبة مثلي، لا تبوحين بكذبك ولا حتى للمراية. أما الكره، فدعيني أحدثك عنه قليلا، لمصلحتك. نعم أكرهك أيتها البلهاء. لسذاجتك ولتلك النظرة المندهشة التي تطل من عينيك كلما صارحتك بأمر يخصني. تصمتين وتزومين ولا تعلقين عليها، لا تثورين ولا تتعاطفين ولا تبدين مشاعرك أبدا، تأخذين هيئة المربي أو الناصح، تتكلمين بتفتح وتأن يثيران الأعصاب.

لم أقل لها ذلك. هي صديقتي الوحيدة لكني أكره تصنعها، حكمتها، وقوفها بلا شرط في صفي، كأنها تغفر كل شيء، تعرف كل شيء. لديها حلول جاهزة لكل مشكلة كبيرة أو صغيرة، طريقة للتصرف، كلمات لكل مناسبة، مال لو لزم الأمر، قوانين صارمة للتطبيق السريع. وفوق ذلك تسرق أصدقائي مني وتعتبرهم أصدقاءها، عادل أولا وكريم الآن، وأسامة يعاندني ويقول إنها طيبة وعلى نياتها. كيف تسللت إلى حياتي؟ ومتى أدركت أني أحبها رغم أن كل شيء يفصل بيننا؟” (أكابيلا، ص.116-117)

هل فعلا إن كل شيء يفصل بين “عايدة” و”ماهي”؟ وهل هما شخصيتان مختلفتان إلى حد التناقض كما تطلعنا هذه الفقرة من اليوميات؟

من يتأمل سيرورة الأحداث وتطورها في الرواية، ويطلع على ما تبوح به الشخصيتان المحوريتان فيها يتبدى أن طريقة حياة “عايدة” وسلوكاتها ومواقفها وآرائها تختلف عن طريقة “ماهي” وسلوكاتها ومواقفها وآرائها، وعلى الرغم من ذلك ربطت علاقة وثيقة بين الصديقتين. ولم تكن “عايدة” تصرح لصديقتها بما تعتقده فيها، وبما تعده جانبا “سلبيا” يدفعها إلى كره صديقتها. وتكتشف “ماهي” من خلال اليوميات بعض ما يحدد كينونتها، وكان خافيا عنها. وبذلك كانت اليوميات مرآة رأت فيها ذاتها التي تكاد تتطابق في عديد من التفاصيل مع كينونة صديقتها “عايدة”. فإذا كانت “عايدة” كاذبة وسارقة وأنانية في علاقتها بالآخرين، ومتحررة تؤمن بالعيش منطلقة غير مقيدة، فإن في “ماهي” بعض من “عايدة”، فهي الأخرى –على الرغم من إعلانها الحكمة والرزانة والتعقل- في كينونتها يكمن جنون شبيه بجنون “عايدة” غير مفصح عنه طوال الرواية، لكن نهايتها تسفر عنه، ومن ثم تبدي للمتلقي الوجه الآخر الخفي ل”ماهي”.

وقد كانت الكراهية التي تضمرها “عايدة” لصديقتها لها ما يبررها، لأن المرأتين تتقاسمان سمات شخصية مشتركة عديدة. وقد أحست “عايدة” أن “ماهي” تزاحمها، بشكل ما، في حبها لمن تعتبرهم أصدقاءها، أو بالأحرى رجالها الذين أحبتهم، وبادلوها المحبة، وتقاسمت معهم أحلى وأمر لحظات حياتها: أسامة وكريم وعادل وحسام. ولهذا تطورت الأحداث إلى أفق مسدود بينهما وانتهت العلاقة بقطيعة حتى علمت “ماهي” أن “عايدة” ماتت. ومن خلال اطلاعها على يوميات صديقتها الراحلة ستكتشف حقيقة كينونتها، ويتبين لها أنها لا تختلف سوى في رتوشات قليلة عن “عايدة”، ومن ثم عملت رفقة كريم على إعادة الاعتبار لصديقتها، وإحياء ذكراها، وتنظيم معرض للوحاتها، واعتبرت هذا الجهد تأكيد لمكانتها في حياة عايدة، ونوع من الإصرار على استمرار علاقتها ب”شلة” صديقتها. وقد أدركت “ماهي” أنها أصبحت مثل “عايدة” تلعن الغباء وتكفر بالصداقة، نظرا إلى ما عرفته من أمر إخفاء “الأصدقاء” عنها خبر دخول “عايدة” مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، وقرار “عايدة” قطع الصلة ب”ماهي” لأنها لم تزرها معتقدة أنها على علم بمرضها. ولكن “ماهي” ظلت مصرة على الوفاء لصديقتها على الرغم مما عرفته من ملابسات القطيعة بينهما ودواعيها، فلم تكتف بالمساعدة بإقامة معرض صديقتها، وإحياء ذكراها، بل إن “ماهي” سعت إلى محاولة نقل يوميات صديقتها، وإعادة صياغة رؤيتها، مع إضافة تفاصيل أخرى قصد نشرها. وفي أثناء القيام بهذه المهمة اكتشفت كينونتها، وعبرت عن تطلعها إلى رأب صدوع الصداقة بينها وبين صديقتها الميتة من جهة، وبينها وبين أخلص أصدقاء “عايدة” من جهة ثانية. تقول “ماهي” / الساردة في الفصل الأخير من الرواية:

“.. المهم أن مشوار الصداقة ومحاولات رأب الصدوع التي صاحبته شجعني على إتمام اليوميات على أمل نشرها. اكتشفت في أثناء الكتابة أن ما جذبني إلى الدوران في فلك عايدة لم يكن فضولا، كان شيئا أقوى من مجرد الرغبة في المعرفة، أشد من مجرد الاحتياج إلى صديقة. ما ربطني بها وبالشلة كان أشبه بالبحث عن ملاذ من نفسي، بعيدا عن نفسي، بعيدا عما كنت أعتبره قاموس الأخلاق والقيم الثابتة ولم يجلب لي السعادة التي كنت أتمناها. بفضل عايدة انفتحت عيناي على اتساعهما، ولم يعد من النظر مهرب: عايدة وحياتها من ناحية، ونفسي وحياتي من ناحية أخرى، متوازيان من الفشل وعدم الرضا” (الرواية، ص. 145)     

هكذا يتبدى من هذا المقطع أن ما دفع “ماهي” إلى صداقة “عايدة” لم يكن فضولا، ولا مجرد رغبة في المعرفة، ولا مجرد الاحتياج إلى صديقة، وإنما كانت رغبة أكبر من ذلك. إنها رغبة البحث عن ملاذ من نفسها، والابتعاد عن النفس عبر الانخراط في الجماعة، وعبر البحث عن الكينونة عبر الارتباط بالآخر، والتفاعل معه، ومشاركته أفراحه وأتراحه. وبهذه الكيفية اعتبرت “ماهي” أن حياتها وحياة صديقتها شكلا خطا متوازيا من الفشل وعدم الرضا على ما يحيط بهما. وبذلك أدركت أنها الصورة الموازية ل”عايدة”، واكتشفت أنها حقيقة لا تختلف في جوهرها عن صديقتها، إلا في فروق طفيفة. ولتوكيد هذه النتيجة ستصر “ماهي” على شراء شقة عايدة من زوجها السابق وصديقها أسامة، محافظة على كل ما يعود إلى صديقتها، وعلى نفس أثاث المكان لتحيا على طريقتها. وقد عملت على توزيع زمنها بين الشقة وبين بيت زوجها، وتمكنت من كتابة يوميات “عايدة”، وتحقيق استقرار العلاقة بينها وبين أفراد الشلة. وبهذه الشاكلة حققت “ماهي” وجودها بين أصدقاء صديقتها الراحلة، وأعادت الحياة إلى بيتها، كما تمكنت من معرفة كينونتها النازعة إلى الاستقلال والحرية، تماما كما كانت صديقتها “عايدة”. ومن خلال هذه النهاية التي انتهت إليها أحداث الرواية، يمكن القول إن لعبة الأنا والآخر في رواية “أكابيلا” كانت سبيلا بالنسبة إلى الساردة “ماهي” إلى معرفة حقيقة ذاتها، وإذابة المسافات الفاصلة بينها وبين صديقتها على الرغم من الاختلاف البادي بينهما، وهو خلاف يتمثل في انعكاس مرآوي سيفضي في النهاية إلى نوع من التشابه أو التماهي بين الشخصيتين الصديقتين.

من خلال كل ما سبق نصل إلى نتيجة مفادها أن لعبة الأنا والآخر كانت آلية فنية شغلتها الروائية للكشف عن اختلاف الشخصيتين المحوريتين في رواية “أكابيلا”، وأنها كانت أداة لاكتشاف الساردة كنهها وما يميز كينونتها عن كينونة صديقتها، لكن لعبة الأنا والآخر ستكشف لها أنها صورة مطابقة لصديقتها في مناحي عدة.

وقد اكتفت هذه القراءة بالتلميح إلى بعض هذه المناحي تاركة للقارئ الكريم اكتشاف سمات فنية وجمالية متنوعة وكثيرة في هذه الرواية الممتعة التي كُتبت بأسلوب سردي متقن، وإحكام فني لا تخطئه العين، خاصة أنها رواية لا تكتفي بسرد الوقائع ورصد الحالة الظاهرة للشخصيات الروائية، وإنما تعمل على تحليل الدواخل، وكشف تباين الرؤى في النظر إلى الذات وإلى الآخر وإلى الحياة والوجود، وخاصة لدى الشخصيتين المحوريتين في الرواية: “عايدة” و”ماهي”.     

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم