الببلوماني الأخير.. عن الهوس بالكتب والقتلة التسلسليين

الببلوماني الأخير
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الكفراوي

في مجموعته القصصية “الببلوماني الأخير”، يقدم الكاتب شريف عبد المجيد نماذج بشرية استثنائية لها قصص تبعث على التأمل والتفكير، بداية من شخصية الذواقة الأكول الذي يتحول إلى نجم في عالم الطهي، مرورا بالمهووس بالكتب وحتى صاحب المزرعة السعيدة وعامل توصيل الطلبات وسيدة الزهايمر.

قد تبدو هذه الشخصيات غاية في الواقعية، فهي موجودة بيننا، ولا شك أن هناك نماذج كثيرة لعامل توصيل الوجبات الذي كان مديرا لأحد الفنادق السياحية في وقت ما، لكن الاستثنائي في هذه الشخصيات هو طريقة عرض قصصهم في سياق درامي مختلف عن المألوف، ومنذ البداية يرصد الكاتب شخصية الشاب المهووس باطعام والذي يتحول هوسه هذا إلى وظيفة ومهنة وطريق للصعود في سلم النجومية من خلال برامج الطبيخ وقنوات الطهي والميديا المهتمة بصناعة النجوم في هذا المجال، وهي قصة تكشف في النهاية عن التجارة الواسعة في هذا المجال والضحايا الذين يتساقطون في فخ تلك البرامج، وحجم الكذب الذي يدور في كواليس هذا العالم، وفي قصة رائحة الجوافة يستعيد الكاتب قصة واقعية ويسقط عليها قصته، حيث يتم قتل عامل بسيط في حديقة رجل أعمال وفنانة مشهورة، ويدور تحقيق ورصد لحياة كل شخص مشارك في القصة، بداية من العامل حمدي عبد السميع الجزار مرورا برجل الأعمال وزوجته الفنانة الشهيرة وحتى الصحفي الذي يسعى لمعرفة الحقيقة وراء الحادث، بخلاف ما يذكره القاتل من أن الحادث كان دفاعا عن النفس، والسبب في عدم دفع مستحقات العامل لمدة أربعة شهور بعد أن كان مقربا من الأسرة، والأسرار التي من المحتمل أن العامل كان يعرفها ويهدد بها الأسرة، تفاصيل كثيرة كان لها صدى واقعي ولكنها تعبر عن مأساة حقيقية وعن حجم التفاوت الطبقي، وعن التنازلات التي يمكن أن يقدمها من يبدون ظاهريا ناجحين للصعود في سلم الشهرة والنجومية والثراء.

ومن صلب الواقع أيضا ينسج الكاتب قصته “صاحب الرسالة” حول قاتل تسلسلي، هو رجل أعمال كبير ثري يقرر أن تكون له رسالة وهي تخليص العالم من الفاسدين، يبدأ الأمر بقتل التوربيني وتقطيع جثته والاستمتاع بالأمر وكأنه يقوم بعمل مقدس، ويتوالى ذلك مع رئيس التحرير المنافق الانتهازي الذي لا يتورع عن فعل أو كتابة أي شئ يحقق له مصلحة، ثم تتوالى الجرائم التي يرتكبها البطل ومنها قتل واحدة من الطبقة المخملية أرادت خيانة زوجها معه، بحجة أنها تريد الحصول على مال لإنقاذ زوجها من الإفلاس، وبعد أن يرتكب العديد من جرائم القتل المتسلل بعد انتقاء من يراهم فاسدين بدقة، يفشل في الوصول للفتاة التي سرقته وكان مهووسا بها، وينتهي الأمر بالرجل إلى الانتحار بعد أن يوثق كل ما قام به ويعلن عن نفسه وعن الرسالة التي أراد توصيلها من خلال الجرائم التي قام بها.

وفي قصة الببلوماني الأخير يتناول الكاتب فكرة الهوس بالكتب، وكيف يمكن لهذا الهوس أن يحول صاحبه إلى قاتل تسلسلي، بعد أن ينصب نفسه حارسا للكتب وللعلم والمعرفة، ويعتبر دوره من أهم الأدوار في العالم، وينسج في ذهنه مؤامرة متكاملة الأركان عما يتعرض له العالم من تجريف ومن مخاطر تتعلق بمحاولة طمس الكتب وإلغاء دورها في إطار التحولات التقنية التي تجري وتحويل كل شئ إلى عناصر رقمية.

يقرر أمين المكتبة العامة المهووس بالكتب أن يقتل الناشر والناقد والمؤلف، وهي ثلاثة شخصيات رمزية في الغالب وإن كانت لها مدلولات درامية تتعلق بقيام المؤلف باستخدام شخصية أمين المكتبة في روايته الأخيرة عن الببلوماني، وبطريقة ما يسمم أمين المكتبة الشخصيات الثلاثة خلال شهر تقريبا، ويزوج ابنته لشخص يكشف له عن سره العظم وهي المكتبة الرهيبة التي يحتفظ بها في القبو والتي تضم العديد من الكتب النادرة، ويقرر الانتحار قبل أن تصل إليه السلطات بعد اكتشاف جرائمه، لكن هذه القصة تكشف عن العديد من الأبعاد المتعلقة بهذا المرض وهو الهوس بالكتب سواء بسرقة الكتب أو اقتنائها أو تتبعها أينما كانت، والحفاظ عليها بكل الوسائل الممكنة، وغمكانية أن يكون هذا الهوس معديا، حيث ينتقل من الأب المنتحر إلى ابنته التي تقرر قتل زوجها لحماية مكتبة أبيها.

وتضم المجموعة قصصا أخرى تحمل إسقاطات واقعية وأوهاما عامة مثل قصة المزرعة السعيدة التي يتم فيها اكتشاف بيضة عليها لفظ الجلالة، وتصبح حديث البلد كله، ثم يتوالى ظهور البيض المقدس بعد ذلك مع اختلاف خط الكتابة بين الرقعة والنسخ والثلث.

وفي قصة “ولدا مثلك”  يتناول الكاتب حياة سيدة مصابة بألزهايمر، تنسى أولادها وحياتها وتعيش في حياة سابقة بعشرات السنوات، ويحاول أبناؤها الناجحين مراعاتها ولكن المواقف التي تحدث والطريقة التي تختفي بها ويظلون يبحثون عنها لفترة طويلة محزنة ومؤثرة للغاية.

وفي قصة رجل يشبهني يقدم الكاتب نموذجا نفسيا لشخصية تحم مقاربة لمتلازمة الجثمان السائر المعروفة بوهم كوتار، فمن شدة الضغوط والاكتئاب يتحول وجد الشخص إلى عدم بطريقة ما، وهو ما يحدث واقعيا وبطريقة سحرية حيث يقرأ الشخص خبر وفاة جاره وحين ينزل لتقديم العزاء يكتشف أن هذا اسمه وليس اسم جاره، وربما ليس هناك جاره، هو صنع هذا الجار كنوع من الوهم. وكان العزاء عزاءه هو، وتنتهي القصة بأنه لا أحد ينتبه أو يرى الشخص الذي ذهب لتقديم العزاء في نفسه.

 

 

مقالات من نفس القسم