الانتحار كهدية، نوعا ما..

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
قصة لـ: ديفيد فوستر والاس كانت هناك أم تمر بوقت عصيب حقا، عاطفيا، داخليا. حسبما تذكر، دائما ما كانت تمر بوقت عصيب، حتى وهي طفلة. لا تذكر الكثير من خصائص طفولتها، لكن ما تذكرته هو مشاعر مقت للذات، رعب، ويأس، بدت وكأنها صاحبتها أبدا. من منظور موضوعي، ليس خاليا من الدقة أن نقول أن هذه الأم المستقبلية، تحمل الكثير من العقد  النفسية الثقيلة منذ طفولتها، وبعض هذه العقد مصنفة كإيذاء من قبل أبويها. لم تكن طفولتها أسوأ ما يمكن، إنما لم تكن نزهة كذلك. كل هذا، رغم دقته، لم يقربنا من مقصدنا.

المقصد هو أنها، ومن أقصى وقت تستطيع تذكره، كانت هذه الأم المستقبلية دائما ما تمقت نفسها. تنظر لكل شيء في الحياة بذعر، كأن كل مناسبة أو فرصة ليست سوى امتحان مخيف، كانت خلاله كسولة جدا أو غبية لا تستطيع التحضير بشكل جيد. شعرت أنها يجب أن تحصل على درجات ممتازة في أي امتحان من هذا النوع لتفادي عقوبة كاسرة. 1  خائفة من كل شيء، وخائفة من أن يعرف أحد بهذا.

الأم المستقبلية أدركت جيدا، منذ بدايات حياتها، أن هذا الضغط المرعب الذي تشعر به بشكل مستمر، هو ضغط داخليّ، أنه ليس خطأ أي شخص آخر. لذلك، كرهت نفسها أكثر وأكثر. توقعت من نفسها الكمال المطلق، وفي كل مرة تخلفت عن الوصول لهذا الكمال كان يغمرها يأس لا يحتمل يهدد بتحطيمها كمرآه رخيصة. 2 هذه التوقعات المرتفعة انطبقت على كل جزء من حياة الأم المستقبلية، خصوصا تلك الأجزاء المشتملة على تقبل الآخرين أو رفضهم لها. لأجل هذا، نُظر إليها في طفولتها ومراهقتها على أنها لامعة، جذابة، محبوبة، مؤثرة؛ كانت محمودة ومقبولة. بدا رفقاؤها وكأنهم يحسدونها على طاقتها، نشاطها، مظهرها، ذكائها، تنظيمها، وقدرتها التي لا تخيب على تقدير مشاعر واحتياجات الآخرين؛3 كان لديها القليل من الأصدقاء المقربين. خلال مراهقتها، السلطات ممثلة في المدرسين، رؤساء العمل، قائدي المجموعات، الكهنة، ومرشدي نوادي الطلاب في الجامعة، علقوا جميعا على أن تلك الأم المستقبلية الصغيرة “تبدو [بدت] لديها توقعات عالية من النفس [نفسها]” وبينما تلك التعليقات غالبا ما تصلها بروح أقرب للاهتمام اللطيف أو التعنيف الرقيق، لم يكن صعبا عليها تبين نبرة الاستحسان الواضحة فيها – حكم السلطة وقرارها بالاستحسان، بشكل متجرد وموضوعي- ولدرجة ما، شعرت الأم المستقبلية (حتى ذلك الوقت) بأنها مقبولة. شعرت بأنها مرئية: معاييرها مرتفعة. فابتدعت موقفا من الفخر المهين بقسوتها تجاه نفسها. 4

وعندما أصبحت ناضجة، يبدو من الدقة أن نقول أن الأم المستقبلية كانت تعاني من وقت عصيب داخليا بسبب هذا الأمر حقا.

*لمَّا أصبحت أما، صارت الأمور لأسوأ. فتوقعات الأم لطفلها الصغير كانت أيضا، كما تبين، عالية بشكل مستحيل. وكلما قصَّر طفلها، دفعها نزوعها الطبيعي لمقته. بكلمات أخرى، كلما هدد الطفل باحتمال هتك معاييرها العالية التي شعرت أنها كل ما تمتلكه، فداخليا، مقت الذات الغريزي عند الأم يميل لينصب بكامله خارجا ثم نازلا على الطفل نفسه. هذا الميل كان مضافا إليه حقيقة أنه لم يوجد سوى فصل صغير جدا وغير واضح في عقل الأم بين هويتها هي وهوية طفلها الصغير. ظهر الطفل وكأنه انعكاس للأم نفسها في مرآه مصغِّرة ومعابة للغاية. لهذا، ففي كل مرة كان الطفل فيها وقحا، جشعا، كريها، أنانيا، قاسيا، عاصيا، كسولا، أحمق، عنيدا، طفوليا، كان أعمق وأكثر الدوافع غريزية عند الأم هو أن تمقته.

لكن لم يكن باستطاعتها أن تكرهه، فليس بمستطاع أم جيدة أن تمقت طفلها أو أن تحاكمه أو أن تسيء معاملته أو أن تتمنى له الأذى بأي حال.  الأم أدركت هذا. ومعاييرها لنفسها كأم، كما هو متوقع، كانت عالية للغاية. لذلك، فكلما “زلّت” ، “انفجرت” ، “فقدت صبرها” وعبّرت (أو حتى شعرت) بالمقت (ولو بشكل خاطف) تجاه الطفل، كانت تسقط فورا في هوة من اتهام الذات واليأس تشعر أنها لا تستطيع احتمالها. ومن هنا، كانت الأم في حرب؛ معاييرها في صراع جوهري، صراع جعلها تشعر بحياتها على المحك: فأن تفشل في مغالبة استياءها الغريزي من طفلها، سينتج عنه عقاب رهيب ممزِق، عرفت أنه سيسيطر على وجودها كله. كانت عازمة –مستميتة- على أن تنجح في أن ترضي توقعاتها لنفسها كأم، مهما كلف الأمر.

من منظور موضوعي، كانت الأم ناجحة جدا في مجهوداتها للسيطرة على النفس. في تعاملها الخارجي مع الطفل، كانت الأم محبة بإصرار، حنونة، متعاطفة، صبورة، دافئة، فياضة المشاعر، لا تضع أي قيود أو شروط على تقبلها، وليس لديها القدرة على الحكم أو الرفض أو منع حبها بأي شكل. وكلما أصبح الطفل بغيضا أكثر، كلما ألزمت الأم نفسها أن تكون محبة أكثر. كان تعاملها، تبعا لأي معيار يُتوقع من أي أم ممتازة أن تحققه، لا غبار عليه.

وفي المقابل، فإن الطفل الصغير كلما كبر أحب أمه أكثر من كل الأشياء في العالم مجتمعة. لو حصل على القدرة للحديث عن نفسه بصدق، لقال أنه شعر بنفسه كطفل خبيث بغيض حصل بفعل ضربة حظ جيدة وغير مستحقَة على الأم الأفضل والأكثر حبا وصبرا وجمالا في كل العالم.

**داخليا، وكلما كبر الطفل، كانت الأم تمتليء بمقت الذات والإحباط. طبعا شعرت بأن كذب الطفل وغشه وإرهابه لحيوانات الجيران الأليفة هو خطؤها هي؛ بالتأكيد كان الطفل يعبر للعالم عن شذوذها وبؤسها هي كأم. لذلك، عندما سرق الطفل المال الذي جمعه فصله المدرسي لمساعدة اليونيسيف، وأرجح قطة من ذيلها وخبطها مرارا بالزاوية الحادة لمنزل حجري مجاور، استقبلت شذوذ الطفل كأنه فعلها هي، وكافأت دموع الطفل واتهاماته الموجهة لنفسه بتسامح محب غير مشروط جعلها تبدو في نظر الطفل أنها ملجأه الوحيد في عالم من توقعات مستحيلة وأحكام قاسية وعقد نفسية لانهاية لها. وكلما كبر هو(الطفل) أخذت الأم كل عيوبه وامتصتها جميعا، وبهذا برأته، افتدته، وجددته، حتى ولو بإضافة المزيد لرصيدها الداخلي من المقت.

وهكذا جرى الأمر، طيلة طفولته ومراهقته، هكذا، عندما جاء الوقت الذي أصبح فيه الطفل كبيرا كفاية كي يحصل على العديد من الامتيازات والتصريحات، كانت الأم قد أصبحت تماما تقريبا ممتلئة بالمقت: مقت نفسها، لأجل الطفل الآثم التعس، لأجل عالم من التوقعات المستحيلة والحكم القاسي. لم تستطع طبعا التعبير عن أي من هذا. لذلك، فالابن – المستميت ككل الأطفال لرد الحب المثالي الذي لا نستقبله إلا من الأمهات- عبر عن كل هذا لها.

……………………….

هوامش المؤلف:

بالمناسبة، أبواها لم يضرباها، أو حتى يؤدباها أبدا بأي شكل، ولم يمارسا أي ضغط عليها.

كان أبواها محدوديّ الدخل، يحملان الكثير من العيوب الجسدية، ولم يكونا ذكيين جدا – وتلك مواصفات كرهت الطفلة نفسها لأنها لاحظتها.

العبارات المهدئة والتفاؤلية كـ “استرخ” و “لا تأخذ الأمور بجدية هكذا”  لم تكن قد ذاعت في ذلك الوقت (ولا حتى عبارات: عقد نفسية، إيذاء من قبل الأبوين، منظور موضوعي).

في الحقيقة، أحد التفسيرات التي أعطاها أبواها عن عدم بذلهما محاولات لتأديبها، هو أن ابنتهما كانت تبدو وكأنها توبخ نفسها بلا رحمة لأي نقيصة أو تجاوز يصدران عنها، لذلك فإن تأديبها كان يشعرهما، حسبما قالا “كـــ ركل كلب صغير” .

 

ـــــــــــــــــــــــــــ

هوامش المترجم:

*من هنا، يبدأ المؤلف في الحديث عن الطفل بالضمير المستخدم للإشارة إلى الأشياء الغير عاقلة: it

**ومن هنا، يعطيه أخيرا ضمير العاقل:  he

ملحوظة: القصة ما بعد حداثية، وأسلوب المؤلف يعتمد الهوامش التشكيكية، أي أن هوامش المؤلف من المفترض أن واضعها ليس الضمير العليم الذي قص الحكاية، بل هو ضمير آخر أو عدة ضمائر اختصت كل منها بوجهة نظر لذات القصة، في محاولة لكسر تابو الراوي العليم، لدفع الشك في الحياة ولتأكيد أن لكل قصة أكثر من ناحية قد تُرى منها وتصلح لحكايتها، أو لاتهام المؤلف بالكذب والتلفيق في الحوادث كي يحصل على قصة تروق القاريء، أو هي هوامش من وضع المؤلف الذي يحاور نفسه محاولا رؤية احتمالات أخرى في القصة، أو تحليلها بقدر لا يتيحه سياقها .. لا ثوابت، حتى المؤلف/صاحب الخيال نفسه. 

مقالات من نفس القسم