الاستلزام التخاطبي في رواية عمار علي حسن “باب رزق”

باب رزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبدالكريم الحجراوي
تمهيد

يتفق الباحثون على أن تعريف تشارلز موريس للتداوليات pragmatics”” عام 1938، بوصفها ” دراسة العلاقة بين العلامة ومؤوليها ” على أنه أول تعريف للتداوليات، وقد وجهت إلى هذا التعريف بعض الانتقادات منها أنه اهتم بالمَخاطب وتأويله للعلامة وأغفل دور المتكلم الذي يعد هو ومقاصده بؤرة اهتمام التداوليات، فالنظرية التداولية قائمة على ثلاثة دعائم أولها قصد المتكلم، وثانيها السياق الجوهري وثالثها تأويل المتلقي وفهمه لقصد المتلقي. وتعددت بعد ذلك تعريفات التداولية([1] التي اختلفت من باحث إلى آخر على حسب اهتمامات كل باحث في مجالات البحث التداولي لذا جاءت كل تعريفات التداولية جزئية، ويعد تعريف جيني توماس للتداولية بأنها “دراسة المعنى في التواصل” هو أنسب التعريفات “لأن المعنى ليس متأصلا في الكلمات وحدها، ولا من إنتاج المتكلم مستقلا، ولا من تأويل المخاطب منفردًا بل هو سيروة دينامية تتضمن إسهام المتكلم، والمخاطب، وسياق القولة، والمعنى الكامن في القولة نفسها”([2]) وأول من استخدم مصطلح التداوليات عربيًا “طه عبدالرحمن” عام 1970  كترجمة لمصطلح ” pragmatics” وإن ترجمها البعض بالتبادلية، والنفعية، والاتصالية، والذرائعية، والمقصدية، والمقامية، إلى جانب التداولية، لكن ترجمة طه عبدالرحمن تعد الأوفق  لأن التداولية  “هي من تداول اللغة بين المتكلم والمخاطب، أي التفاعل القائم بينهما في استعمال اللغة”([3]).  

 ويعد الاستلزام التخاطبي conversational implicature”” آلية أساسية تأويلية في التداوليات، وترجم البعض هذا المصطلح باسم الاستلزام الحواري([4])، ويعني هذا   المصطلح ” كيف يمكن للمتكلم أن يعني أكثر مما يقول في عملية التخاطب، أي كيف تبلغ القولات([5]) المخاطب أكثر من معانيها الحرفية، وكيف يتمكن المخاطب من التأويل”([6]) فالاستلزام التخاطبي يصبو إلى الوصول إلى المعنى الضمني للكلام متجاوزًا معناه اللغوي الوضعي وصولًا إلى قصد المتكلم.

  أول من أرسى قواعد هذه النظرية هو “بول جرايس” في محاضرة ألقاها في جامعة هارفارد، عام 1957م، بعنوان “المنطق والتخاطب” ومحاضرات أخرى بعنوان  “الافتراض المسبق والاقتضاء التخاطبي 1971([7])، وقدم أحمد المتوكل عام 1981 تأصيل للاستلزام التخاطبي في كتابه “دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي”([8]).

  وتقوم نظرية جرايس في الاستلزام التخاطبي على التميز بين منطوق القولة، ومفهوم القولة، حيث يقوم تأويل المخاطب في الكثير من الحالات التخاطبية على تجاوز المعنى الدلالي للكلمة، وصولا إلى معنى آخر يشير أو يلمح إليه المتكلم، ومنطوق القولة عن جرايس قابل للتحديد حسب قوانين الدلالة بقاعدة الصدق والكذب، أما مفهوم القولة فينتمي إلى التداوليات، وينقسم مفهوم القولة إلى مستلزم وضعي لا يعتمد على السياق، ويعتمد على التلويح بالمعنى فيه مثل كلمة لكن، وغير أن وبل، أي أنه ينبثق من المعنى اللغوي المشفر في الكلمة. ومستلزم تخاطبي وهو معتمد على السياق حيث يتولد في إطار التحاور ويفهم عبر سيرورة الاستدلال([9]).

حدود البحث

واختارت هذه الورقة البحثية رواية “باب رزق” للروائي عمار علي حسن، مطبقة  عليها نظرية الاستلزام التخاطبي التي تسعى إلى تحليل الحوار وتفسيره عن طريق مبدأ التعاون لجرايس والمبادئ التي لحقت به مثل مبدأ التهذيب وهو المبدأ الثاني الذي ينبي عليه الحوار وقد أوردته روبين لايكوف، ومبدأ التواجه الذي أورده كل من بروان وليفنس، ومبدأ التصديق عند طه عبدالرحمن([10]).

  فنظرية الاستلزام التخاطبي جاءت كي تسد الثغرة الموجودة في توصيف عملية التخاطب وتفسيرها، واستنباط مقاصد المتكلم في خطابه([11])، وأكثر ما يظهر الاستلزام التخاطبي في الحوارات، وهو “ما يرمي إليه المتكلم بشكل غير مباشر جاعلًا من المخاطب يتجاوز المعنى الظاهري من كلامه إلى معنى آخر”([12]وهذا لا ينفي وجود الاستلزام التخاطبي في السرد، وكون رواية “باب رزق من الروايات الواقعية، فإن الحوارات جاءت بها تشبه الأحاديث اليومية العادية في الشارع، مما  جعلها مناسبة لتطبيق النظرية عليها، حيث أن نظرية الاستلزام تنظر إلى اللغة بوصفها مرتبطة بشكل وثيق بظروف الكلام كأداة للتفاعل الاجتماعي بين البشر.

كما أن الحوارات شغلت حيزًا كبيرًا من الرواية، وكان لها دور في تطور الحدث الروائي، فكانت نظرية الاستلزام الخطابي هي الأنسب لدراسة الحوار في الرواية.

أحداث الرواية

ويقول الكاتب عن الدافع الذي حثه لكتابة هذا العمل (أنني أردت كتابة رواية تجسد حالة المهمشين في مصر، معتمدًا على ما أعرفه عن هؤلاء، فالتقطت بعض شخصيات أعرفها وأضفت إليها شخصيات من الخيال، كي تكتمل الحكاية. كان هذا موضوع يغريني منذ زمن فقد كتبت عن فقراء الريف كثيرا، وكتبت أيضا بعض قصص عن فقراء المدينة، لكن كان من الضروري أن أكتب عملًا أوسع فجاءت باب رزق،  كما أني أردت الانتقال من الواقعية السحرية إلى الواقعية الفجة، لأقول إن في الواقع الفج من البؤس والتحايل مع هو أكبر من أي خيال، وما ينتج سحره الخاص)([13]).

  وتدور أحداث الرواية حول حيل المهمشين وتحايلهم على الرزق في المناطق العشوائية، حيث قدم البطل من “رفعت عبدالحكيم” من محافظة سوهاج، قرية “الكشح” كي يكمل دراساته العليا في كلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، واضطرته ظروفه المادية إلى السكن بمنطقة “تل العقارب” بالقرب من السيدة زينب وهي منطقة عشوائية، لا توجد فيها بنية تحتية، لتبدأ قصة البطل مع التحايل، فصاحب البيت الذي استأجر منه البطل غرفة على السطوح، “عبدالشكور” هو أب لأربعة أبناء وبنت هم عزازي الذي يتسول عند إشارات المرور ببيع علب المناديل، وحسونة الذي يتسول في العزاءات، منتظرا كبار المعزين، ويبدأ في وصلات المديح والتودد لهم كي تمكنه من أن ينال ما يريد، وسميرة التي تتسول بالجمال جمال الورد، كما كان يفعل والدها الذي كان يتسول بصوته الجميل والمدائح الدينية، وأبو عوف الذي يعمل سائسا ويتسول الأموال من أصحاب السيارات، أما عاطف _الأخ من الأم لسابقي الذكر_، فهو من أولئك الذين يجدهم الناس أمامهم حين يدخلون الملاهي والحدائق العامة المفتوحة، يرتدون فرو دب أو أسد.

 ويجد البطل نفسه مضطرًا إلى التحايل معهم على رزقه من أجل أن يكمل الحلم الذي جاء من أجله إلى القاهرة، وهو أن يصبح فيلسوفًا كبيرًا، ليسقط في النهاية إلى القاع مثلهم ويقع في الفخ الذي نصبه له “عبدالشكور” الذي يزوجه ابنته سميرة، ويسرحه مع أبنائه في استغلال صوته الجميل للتسول في المواصلات العامة، أو حتى السير في الشوارع بمبخرة.

عناصر الاستلزام التخاطبي في الرواية

ويتجلى لقارئ هذه  الرواية أن الاستلزامات التخاطبية”  تتولد من عناصر متعددة دخلها منها الوصف المجازي، والاستعارات، والتشخيص، ووصف المكان والشخصيات، ومن الحوارات من خلال خرقها لإحدى قواعد مبدأ التعاون أو التأدب، والتناصات، والحكم والأمثال، وتتنوع الاستلزامات التخاطبية داخل الرواية على حساب السياق فجاء بعضها معممًا هو الاستلزام  الذي لا يحتاج إلى سياقات موقفية مخصوصة للاستدلال عليه، وهناك الاستدلال التخاطبي المخصص فهو الذي يتطلب سياقا موقفيًا حاصا كي يستدل عليه.

وسيركز البحث هنا على تحليل بعض الحوارات في الرواية وفقًا  لمبدأ التعاون لجرايس، وتعديلات التي أجراها هورن، وليفنسن، وتيار نظرية المناسبة، واستدراكات أليكساندر دينجيز على مبدأ التعاون، وكذلك وفقًا للمبادئ المكلمة لمبدأ التعاون مثل مبدأي التأدب والمواجهة.

التحليل

عمد جرايس في مبدأ التعاون إلى استكناه الشروط الحاكمة للتخاطب التحاوري بوصفه التشكل الأمثل للغة، وسعى جرايس في مبدأه للتعاون بيان طرائق توليد الاستلزام التخاطبي وتأويله، لا شرح طرائق صياغة الاستلزام، ويمكن تلخيص مبدأ جرايس كالآتي.
المبدأ التعاوني العام:

ليكن إسهامك الحواري ملائما للموقف المرحلي من المحاورة الذي يقع فيه، حسب غاياتها وأهدافها التشاركية

1- قاعدة الكم:

أ- ليكن إسهامك في التحاور محتويا على القدر المطلوب من المعلومات، وفق الأغراض الحالية للتحاور.

ب- لا تجعل إسهامك بالمعلومات يتجاوز ما هو مطلوب.

2- قاعدة الكيف: ليكن إسهامك في الموضوع صادقا

  • لا تقل ما تعتقد أنه غير صادق

ب-لا تقل ما تفتقر إلى الحجة الكافية على صدقه

3- قاعدة المناسبة: قل ما هو مناسب ذو صلة بموضوع التحاور
4- قاعدة الأسلوب:
أ- تجنب غموض العبارة
ب- تجنب اللبس
ج- أوجز “تجنب الإطناب بلا ضرورة”
د- ليكن كلامك منظمًا متسلسلًا([14]).
وينطلق مبدأ التأدب عند روبين لايكوف من قاعدة عامة “لتكن مؤدبًا”
1- قاعدة التعفف: لا تفرض نفسك على المخاطب
2- قاعدة التشكيك (التخيير)([15]): لتجعل المخاطب يختار بنفسه
3- قاعدة التودد: لتظهر الود للمخاطب([16])

وترى لايكوف أن هناك علاقة بين مبدأي التعاون والتأدب، فتتفقان في مناحٍ وتختلفان في أخرى، فتعكس قاعدة التعفف خصيصة الاتفاق، وذلك من خلال إنتاج الخطاب بصورة رسمية، وهو ما يقتضي وضوحه، وهذا ما يقود إلى إدراج قواعد مبدأ التعاون تحتها، نتيجة اعتماد المتكلم على أقصر الطرق في تبليغ المعلومات إلى المرسل إليه، تفاديا لإضاعة وقته. أما الاختلاف، فمرده إلى أن إنتاج الخطاب وفق مقتضى قاعدتي التخيير، والتودد هو خرق لقواعد مبدأ التعاون([17])، وقد قد اقترحت لايكوف مبدأ التأدب إذا يستحسن لطرفي الحوار أن يراعياه مثل مراعاتهما لمبدأ التعاون مما يشي بتكامل هذين المبدأين من أجل تحقيق أهداف الخطاب،  والتعبير عن المقاصد([18]).

 وعند ليتش صاحب مبدأ التأدب الأقصى، يرى أن مبدأ التأدب قد يكون سببًا في استعمال التعبيرات غير المباشرة، على عكس من مما يقضيه مبدأ التعاون من مباشرة  وصراحة مما يولد استلزامات تخاطبية عن الموقف([19]).

ويلاحظ في رواية باب رزق أن حوارات التحايل لشخصيات الرواية كانت تراعي مبدأي التعاون والتأدب فـ”أبو عوف” الذي يعمل “سائس” في شارعي بورسعيد والسد ما إن يلمح سيارة تتباطأ حتي يقفز أمامها فاردًا ذراعه اليمنى، ثم يشير إلى مكان خال على جانب الشارع، مستعينًا بعبارات التي تتوافق مع طبيعة كل شخص، فلصاحب اللحية: السلام عليكم

وللحليق: صباح الخيرات، مساء الفل

للسيدات والآنسات السافرات: “بونجور” و”بونسوار” و”ميرسي”

للمنقبة: حللت أهلا ونزلت سهلًا.

وتتغير بينهم وبينهن طرق مخاطبته: ساعدة البيه، وست هانم، شيخنا الطيب أختنا الفاضلة، آنستي المحترمة، وتلاوين من العبارات والإشارات والإيماءات التي تتغير حسب الأشخاص والأحوال.([20])

وهو في ذلك يراعي مبدأ التأدب في قاعدته “التودد” التي تفتضي إلى أن يتودد المتكلم إلى المخاطب أثناء خطابه، علامة على تأدبه معه ، وأن يستعمل المتكلم الأدوات والأساليب والصيغ التي تقوي علاقة التضامن بينه وبين المخاطب فيطمئن إلى ما يبديه المتكلم، في ثقة وعناية([21]).

إلا أنه يخرق قاعدة التعفف من مبدأ التأدب التي تقتضي أن يتجنب المتكلم الإلحاح على المخاطب أو إكراهه على فعل ما، وهو عكس ما يفعله أبوعوف عندما يجبر أصحاب السيارات على أن يطالبهم بالأعطية مقدمًا وهو يقول في نفسه “البكاء على رأس الميت”

وإذا رد أحدهم كفه الممدود وقال

– سأدفع لك لما أرجع

يبتسم في هدوء ثم يفغر فاه قائلا:

– حتى تكون مطمئنا عليها

ثم يتلفت حوله لإيهامه بأن المكان غير آمن، ويهز رأسه في تأثر مصطنع:

– أولاد الحرام سرقوا كذا واحدة في الأيام الأخيرة.

فيدفع الرجل دون أن ينطق حرفًا واحدًا([22]).

ويلاحظ  في هذا الحوار أنه يرعي المبدأ العام التعاوني القائل ” ليكن إسهامك الحواري ملائما للموقف المرحلي من المحاورة الذي يقع فيه حسب غاياتها وأهدافها التشاركية” لكن أفعاله التداولية([23]) مخالفة ظاهرية لقواعد مبدأ التعاون هي ما يولد استلزام تخاطبي يشي بالتهديد، ويتضح  هذا الاستلزام أكثر إذا تم النظر إلى هذا الحوار تبعًا لمقاربة تيار نظرية المناسبة الذين ألغوا المبدأ التعاوني، حيث قلص _الما بعد جرايسيين_ قواعد جرايس إلى قاعدة واحدة ينبني عليها التواصل وهي قاعدة المناسبة، التي تنبني على مبدأين أحدهم عرفاني ينشد تحقيق الحد الأعلى من المناسبة لإنجاز أقصى ما يستطيع من التأثيرات السياقية بأقل جهد مبذول، والمبدأ الثاني التواصلي للمناسبة: وهو كل مثير إيضاحي يبلغ افتراضًا لمناسبته المثلى([24]).

وهو ما يقوم به أبو عوف حين يقول لصاحب السيارة “ أولاد الحرام سرقوا كذا واحدة في الأيام الأخيرة”. فهو بذلك يقدم مثير إيضاحي يبلغ الافتراض الذي تولد لدى صاحب السيارة من القولة الأولى التي وشت بالتهديد إن لم يدفع مقدمًا، كما أن أبو عوف بسبب ثقته في قدرة المستمع على استحضار المناسبة المثلي للموقف لا يصرح بتهديده وإنما يترك مستمعه يستدل عليه من قولاته وإيماءته وحركاته الجسدية، وهو ما يأتي بنتيجة المرجوة في النهاية بأن صاحب السيارة يدفع دون ينبث بكلمة، لأنه فهم مقاصد السائس، وحين وصل إلى تفسير يلبي توقعات المناسبة توقف عن البحث عن فحص فرضيات التفسيرية للموقف حسبما تقول نظرية المناسبة([25]).

كما أن قولة أبو العوف” حتى تكون مطمئنا عليها .. أولاد الحرام سرقوا كذا واحدة في الأيام الأخيرة”.  تندرج تحت “المخالفة الظاهرية للقواعد” _كما ذكرنا من قبل_ حيث يولد اتباع قواعد المبدأ التعاوني كما هو حادث في هذا الحوار استلزام تخاطبي رغم أنه يبدو ظاهريًا  عدم مخالفة أية قاعدة من مبدأ التعاون، لذا يمكن تفسير مثل هذا نوع عن طريق قاعدة المناسبة حيث إننا لا يمكن أن نعتبر قولات أبوعوف وأفعاله التداولية تعاونية ما لم يكن هناك مناسبة أو صلة، فأبو عوف يرجح لمخاطبه أن هناك خطر على السيارة إن لم يمنحه الأعطية، كما أنه يسعى بالقولة الثانية إلى إيهام مخاطبه بأنه يتبع قاعدة الكيف التي تشترط أن يكون إسهامه صادقا، ولديه دليل على صدقه، وهو بذلك يؤكد الاستلزام الذي تولد لدى المخاطب بأن هناك خطر ما يتهدد السيارة إن لم يدفع له.

    وحسونة بن عبدالشكور وشقيق أبو عوف يستخدم مبدأ التأدب نفسه في تسوله “ما إن يلمح صاحب أحد الوجه التي رآها في الصحف أو التليفزيون حتي يجري إليه ويناديه باسمه، بعد أن يسبقه باللقب دكتور ولواء ومهندس وأستاذ، ثم يتبع ذلك بيه أو باشا، وقطعًا يلحق الاسم والرتبة بكلمة العظيم([26]). فهو يستعمل القاعدة الثالثة من مبدأ التأدب “التودد” فهو يحرص على جمع الجرائد ومشاهدة التلفاز حتى يحفظ أشكال علية القوم ويكون حريًا على حفظ جملة أو أن يعرف موفقًا لأحدهم وفي الثواني المتاحة له أن يقترب منه أمام مسجد عمر مكرم، يكون نطق بها فتذوب المسافات، وتمتد الأيدي، وتلين القلوب، وتنفتح الجيوب([27]).  فهذه الحيلة للتسول كسابقتها تخترق قاعدة التعفف.

ويستعين بطل الرواية” رفعت عبدالحكيم” بهذه الحيلة نفسها بحثًا عن الرزق، فيتسول أمام مسجد الحامدية الشاذلية فيتوجه نحو أحد المستثمرين الخارجين من العزاء ” جهودكم يا أفندم في سبيل تنمية اقتصاد بلدنا وتملأ عين الشمس، ما تفعلونه يجعل لكم دينًا غب عنق كل مصري أن يشكركم من كل أعماقه، ويدعو لكم بموقور الصحة وطول العمر والرفعة.

توقف ونظر في عيني وابتسم وقال

-هل أنت تعرفني؟

ملأت وجهي بدفقة تبجيل مصطنعة، وطأطأت رأسي قليلًا وأجبته

– ومن لا يعرف محمود بيه الملواني

ربت على كتفي، وقرأ في عيني ما أريد أن أطلبه، ورأى يدي التي تتأهب للانبساط نحو صدره، أو ستعاد في لحظة ما وقع له مع أمثالي أمام مساجد أخرى، ودس يده في جيبه وأخرج ورقة بعشرة جنيهات كاملة وأعطاها لي ومضى([28]).

 فهذا الحوار ولد استلزام تخاطبي فرغم أن “رفعت” لم يطلب مالًا فإن المستثمر فهم قصده، اعتمادًا على المخالفة الظاهرة لقاعدة التعاون، فإن المخاطب ما لم يكن يفهم أن قولات المتكلم تعاونية وذات مناسبة وصلة بالمقام الذي تولدت فيه، ما كان ليمنح المتكلم ما يريد، كما أنها تتبع المبدأ ط عند ليفنسن.([29])

ويكرر “رفعت” الحيلة نفسها مع صحفية شهيرة، ليتضح له أنها اخت زميلته في الدراسات العليا، علا، وصديقة “أسماء” التي أحبها، وحين تراه تنادي عليه فيولي هاربًا من المكان، ليتهاوى بعدها عالمه الأكاديمي الذي رسمه لنفسه، ويحكم عبدالشكور سيطرته عليه.

“وعزازي” الذي يبيع المناديل في شارات المرور لسيارات يستعين بمبدأ التأدب في قاعدته التودد مع زبائنه، ولأنه يخترق مبدأ التعفف فإن سائق واحد من كل مائه على الأقل يبتسم له، ويمد إليه الثمن الزهيد،….، البعض لا يكون جاهزا وتستعجله أبواق السيارات فيرمي الجنيهات على الأرض([30]). وهي القاعدة نفسها التي تخترقها “سميرة” التي تتسول باسم الحب والجمال، ببيعها الورد للعشاق على الكورنيش.

– حين تمد يدك للعشاق بالورد والفل طالبًا الصدقة فأنت تتسول بالجمال، جمال الورد، وجمال الحب، مثلما كان يفعل أبي بصوته الحلو، ومديحه الرباني([31])

ولأن التسول بطبعه يخترق قاعدة التعفف في إلحاحه على زبائنه، لذا لا يعيرها البعض  اهتمامًا، رغم أن التسول يعتمد عادة على قاعدة التخيير التي تقتضي أن يترك المتكلم للمخاطب مبادرة اتخاذ القرارات، وذلك بتجنب أساليب التقرير، والأخذ بأساليب الاستفهام.
وتقتضي أيضًا الاعتراف بمكانة المخاطب، بوصفه طرفا في الخطاب، يتمتع بقدرات تؤهله للمشاركة في إنجاز الفعل.([32]) فتباع هذه القواعد قد يثمر بالنسبة للمتسول أو لا، وهو ما يظهر في الموقف التالي.

“… فإذا بها تبيع وردة حمراء لشاب طويل القامة، يتأبط فتاة يشرق وجهها بابتسامة عريضة، لكن شابًا آخر يمشي حلفه مع فتاته هو رأسه رافضًا فله ووردها، ولم يعرها أدنى اهتمام.

ثالث قال لها ضاحكًا

– خلاص تزوجنا والحمد لله([33])

ويلاحظ أن هذا الحوار يولد استلزام تخاطبي، سواء بإيماءات الرفض للشراء التي هي فعل تداولي أو قولة “تزوجنا “، وبذلك يعلن المخاطب الخروج المعلن على قواعد مبدأ التعاون، فالمتكلم علق مبدأ التعاون وأبطله؛ فانفصمت عرى تعاونية التخاطب، فتفهم سميرة منه رفضه للشراء منها؛ فتنقل منه إلى آخر، بعد أن فهمها إيعازه من جملة “خلاص تزوجنا والحمد لله”.

 أما عبدالشكور فكان يتسول في القطارات بالتغريد بالمدائح النوبية والأناشيد الدينية التي حفظها من حضرات الذكر التي كان يشهدها في مسجد السيدة زينب، فإذا كانت بنته تتسول بعاطفة الحب فإن الأب يتسول باستغلال العاطفة الدينية للمصريين وحبهم لآل البيت، ولم يرث أحد من أبنائه جمال صوته كي يكمل مسيرته، لكنه ينجح في الإيقاع في “رفعت عبدالحكيم” كي يكمل مسيرته مستغلًا جمال صوته.

-صوتك جميل، ويمكنك أن تكمل طريقي.

-أنا؟!
-أنت.
-الأولى بإكمال طريقك واحد من أولادك

-أصواتهم عكرة حاولت معهم وفشلت

– لكنني…

-بل ما أريد لك لا يعارض ما تريده لنفسك([34])

فعبدالشكور في حديثه مع البطل اعتمد مبدأ التأدب فاتبع قاعدة التخيير في أن يترك  للمخاطب مبادرة اتخاذ القرارات، وذلك بتجنب أساليب التقرير، وهو ما فعله بصيغة “يمكنك”، كما أن استخدم استراتيجية التأدب الإيجابي في مبدأ المواجهة الذي صاغه كل من بروان وليفنسن، واليت تقتضي  أن يستعمل المتكلم في خطابه بعض الألفاظ التي تلطف من حد التهديد، ويدفع بها الإضرار بوجهه،([35]) هو ما استعمله عبدالشكور في عرضه على رفعت أن يكمل مسيرته، فامتدحه بأنه صوته جميل، ويمكنه أن يكمل مسيرته إن شاء ذلك.

وفي قولة رفعت “الأولى بإكمال طريقك واحد من أولادك” استلزام تخاطبي يشي برفض البطل واستنكاره لأن يتسول بالمدائح في المواصلات، فيفهم عبدالشكور قصد “رفعت” من قولته تلك ويعلمه عن سبب عدم إكمال أبنائه لمسيرته، لأن أصواتهم عكرة، ذلك السبب الذي لم يطلب رفعت معرفته بشكل صريح عن طريق السؤال، وإنما جاء عن طريق التقرير لكن عبدالشكور فهم ما يقصده رفعت من قولته، وهو الاستفهام والتعجب فأجاب له عما يريد.

ويمكن إدراج هاتين القولتين ضمن الاستلزام الإقراني، حيث قدم أليكساندر دينجيز استدراكات على مقاربتي جرايس وليفنسن لمبدأ التعاون، والاستلزام الإقراني يتولد عندما تقول قولة شيئًا، وتستلزم آخر ويبلغ المتكلم الشيئين معًا، أي ينقلها المتكلم بوصفهما شيئا موثوقا/ معتقدًا فيه تبادليا([36]).

ويرضخ “رفعت” في النهاية بسبب الحاجة إلى حجة عبدالشكور الذي حجاجه بأنه لا يتسول بفعلته تلك وإنما يبيع السعادة، فالحاجة إلى المال كانت أكبر من تهزمها قناعات البطل “وهذا الانطواء منحني ساعات طويلة كي أقرأ كثيرًا في هذا اليوم عن السعادة، وعدت آخر النهار، وعدت آخر النهار وأنا موقن بأن ما أنا مقدم عليه ليس تجارة ساعدة ولا صناعتها، بل هو مجرد تحايل على تحصيل أي رزق، طريق سأسلكه لا يختلف عما يسير فيه أبو عوف وحسونة، وعزازي، وعاطف، بل هو الطريق الأسوأ بينهم جميعًا، لأني أستغل شيئًا ساميًا، وهو الدين في تجارتي التي سأبدؤها في الغد، من دون إبطاء”([37]) سيكون متسولًا بالجمال مثل حبيبته سميرة، وعزاءه أنه سيكمل مشوار أبيها وكل فتاة بأبيها معجبة.

وفي أول أيام تسوله باسم الدين يركب أتوبيس من محطة أبو الريش الذاهب إلى حي مدينة نصر، فيشعر بالحرج في البداية ولكن عندما يجد ولد يقول  ” صلي على رسول الله .. آية الكرسي وتفسيرها يا مؤمن، حصن منيع ضد الفقر والمرض والحسد…”([38]) فيتشجع ويبدأ رحلته مع التسول والتحايل على الرزق.

وسعد سطلة البلطجي هو صورة أخرى للتسول، هو صورة أخرى له على حسب حديث حسونه عن نفسه” النشال والبلطجي يثبت ضحيته بوضع مطواة قرن غزال في جبينه أو على رقبته…. فيخرج له كل ما في جيبه خوفًا على حياته.. وأنا آخذ جزءا قليلا مما في جيب من أقصد وهو راض… أثبتهم ولكن بطريقة محترمة”([39])، وسعد سلطة ممن يثبتون الناس بطريقة غير محترمة_ إن جاز لنا التعبير_  يستعين به أحد نواب البرلمان لمنع مناصري منافسة من الوصول إلى لجان الاقتراع([40])، وله صلات وثيقة برجال الشرطة، فسلطة وسمى بسلطة لقبله الميت، وسوابقه المتعددة، يفرض الإتاوات على من يشاء، فهو تلك الشخصية الخارجة في جل أفعاله وكلامها على مبدأ التأدب،  وتوزع بذاءاتها اللفظية والفعلية على الجميع وهو ما  يتنافى مع القاعدة العامة لمبدأ التأدب” كن مؤدبًا”، _وقد أشار إليها غرايس لكنه لم يقعد لها،_([41]) فسلطة شخصية غير محبوبة وهو غريم “رفعت” في حب سميرة، وبسبب تجبره يضطر رفعت إلى مداهنته وكثير من القولات في الرواية تدعو الله أن يخلصهم من شره، ويبعده عنهم، فهو صنيعة عبدالشكور اختار له البلطجة لكنه تغول وتمرد عليه وأصبح له أعوان، وأرهب المنطقة كلها بأفعاله الإجرامية من سرقة، واغتصاب، ولا نستطيع أن نفهم حوارات الناس معه دون هذه السياق.

 وفي أحد المواقف يتحرش برفعت

“وقهة والتفت إلى أصحابه الجالسين هناك يتابعوننا، وقال بصوت عال:- تلميذ وشيخ ومطرب عاطفي.

اتكأ على الكلمة الأخيرة وهو يقرص ساعدي بأظافره الحادة، وبدا أنهم يعرفون ما يرمي إليه، فعزقوا في قهقهات لاذعة رجت المكان….”

ولم أجد ما أوقف به انزلاق الأمور إلى ما لا تحمد عقباه غير أن أقول:- أنت من في البال يا أبا الرجال

سرت الراحة في صفحة وجهه، وتساقطت حبات الشر على كفيه الخشنتين فرماهما على رءوس الجالسين، وعانقني بعينين ازدادتا اتساعا، والتفت إلى النادل:
-ساقع على حسابي للأستاذ([42]).

ففي هذا الحوار تولد استلزام تخاطبي للبطل من الأفعال التداولية المتمثلة في السخرية من رفعت، والتنغيم بالضغط على كلمة عاطفي، جعلت رفعت يدرك سبب هذه السخرية رغم أنه لم يصنع شيئًا  يدعو إلى هذا التحرش، فقال القولة التي يريدها سطلة “أنت في البال يا أبو الرجال”  تلك القولة التي خرق بها قاعدة الكيف، التي تتطلب أن يكون الإسهام صادقا، ولا تقل ما تفتقر إلى الحجة الكافية على صدقه، فدافع الخوف وهو ما جعل رفعت يكذب، وقد أدت تلك القولة الكاذبة تأثيرها المطلوب حيث فهم سلطة أنه المقصود بسيد الرجال وأوقف التهكم، وعاد إلى التأدب مع البطل وطالبه بالإطناب كيف عرف أن سميرة تحبه هو

– “فسر كلامك.

بلعت ريقي واغتصبت من جوفي ما أعرف كذبه، ولا أتمناه ما حييت، وقلت له:
-الجار يعرف أحيانًا.

وكان يريد أن يصدقني، فأسعده كلامي…([43])

فرفعت لم يكن يريد أن ينشئ أي حوار تعاوني مع سلطة من البداية لكن سلطة اقتحم البطل وتحرش به لفظيًا مخترقًا قاعدة التعفف، ونجح البطل في تفهم مقاصد سلطة من هذه المعاملة وأرسل إليه ما يريد أن يسمعه وصدقه سلطة لأنه يريد أن يصدقه.
ويلاحظ أن قولة ”  أنت من في البال يا أبا الرجال”  قولة قابلة للإلغاء من قبل المتكلم حيث تعد قابلية الإلغاء خاصية من أهم خصائص الاستلزام التخاطبي دون أن يوقع هذا الإلغاء المتكلم في تناقض.

واستخدم “رفعت” هذه الخاصية بشكل صريح “القابلية للإلغاء” التي تكمن أهميتها في الدرس التداولي لأنها معيار جوهري للتفريق بين المعنى الدلالي والمعنى التداولي المستلزم([44]).
 فحين شعرت سميرة بالخوف على “رفعت” من “سلطة” أخبرته أنه أخوها في الرضاعة فتغيرت معاملته لرفعت ولكن ما إن اكتشف سطلة هذه الكذبة استخدم رفعت خاصية قابلية الإبطال دون أن يقع في تناقض

* نظر إلي بطرف غارق في الأذى والأرق وقال
-أمثلك يكذب عليّ
خفضت رأسي قليلًا، وأجبته
-حاش لله، هذا لم يحدث قط
راح يمعن النظر في وجهي المطلي بنور أصفر من مصباح معلق في جانب الحائط وقال:- ألم تقل لي…
قاطعته- أنا لم أقل شيئا، هي التي قالت، وأنت صدقتها.
أوقفته جرأتي المفاجئة، فتريث في حديثه:
-صحيح، لكنك جاريت الكذبة وخدعتني
– لم أخدعك، وما قالته ليس كله كذبًا
– لا أفهمك
-ألم تقل لك إني أخوها؟
-نعم
-أنا أعتبرها أختي الصغرى، وهي تعتبرني مثل أخيها، والأمر لا يتعدى هذا سواء أكانت في الأمر رضاعة أم لا([45]).
وفي بقية الحوار الدائر يلاحظ أن رفعت استعان “بالمبدأ إ” عند ليفنسن القائلة بـ
أ. قاعة المتكلم: قاعدة الحد الأدنى: قل القدر الأقل الضروري؛ بمعنى أنتج الدلائل اللسانية الأقل كافية لإنجاز أغراضك التواصلية

ب. قاعدة المخاطب: قاعدة الإثراء أثر محتوى المعلومات المستفادة من قولة المتكلم عن طريق إيجاد التأويل الأكثر ملاءمة لها، وتعينا لما ارتأيت أنه قصد المتكلم، حتى لو خرق المتكلم قاعدة الحد الأدنى باستعمال تعبير موسوم أو مطنب([46]).
زال عنه بعض غضبه، ثم تجهم من جديد:

– لعبة جديدة

قلت ابتسامة صفراء كادت ترتسم على شفتي وقلت

– هي تناسبك أنت لها وهي لك أما أنا فغريب أتى ليكمل دراسته، وسيذهب عما قريب من هنا، وإن فكر في الزواج فسيبحث عن فتاة متعلمة مثله.

تسرب الغضب من وجهه وقال:- عين العقل([47]).

فسلطة استدل من قولات رفعت وقام بإثرائها وفهم أن رفعت لا ينظر إلى سميرة كحبيبة، لكن قولته “لعبة جديدة” تشي بأنه يريد أن يتأكد بصورة لا تجعل هناك شك يتطرق إلى ما فهمه من قولات رفعت وأن رفعت يقصد فعلًا ما استدل عليه هو من كلامه، أي يطالب رفعت بأن يخالف قاعدة الحد الأدنى حتى يغادره الشك، فيفهم ذلك رفعت، ويأتي له بالسبب ويطنب في ذلك لأن “سلطة” أرد أن يتأكد من أن ما استنتجه عن طريق قاعدة الإثراء كان صحيحًا.

وتأكد من ذلك بالفعل هو كان نتيجته تسرب الغضب من وجه سلطة.

 وحين تتطور أحداث الرواية يخرق عبدالشكور مبدأ التأدب مع رفعت في قاعدة التودد فينادي على البطل باسمه مجردًا دون أن تسبقه كلمة أستاذ كما هي العادة.
وذلك حين يسأله

– ما الذي جرى يا رفعت؟

وهذه القولة يمكن تفسيرها وفقًا للمبدأ ط عن ليفنسن القائلة بـ

أ- قاعدة المتكلم: أشر إلى الموقف غير العادي وغير النمطي بقولات موسومة تباين تلك التي تستعملها في توصيف موقف مماثل عادي ونمطي.

ب- لازمة المخاطب: ما قيل بطريقة غير عادية ولا نمطية يشير إلى موقف غير عادي ولا نمطي، أو إلى رسالة مرمزة تشي بموقف مخصوص([48]).

فالعادة أن ينادي عبدالشكور رفعت بعد أن يسبق اسمه بأستاذ، لكن حين تغير هذا الموقف غير العادي أوحى برسالة مرمزة في هذا الموقف تفهمها رفعت، ويجب الإشارة هنا إلى أن السارد بضمير “الأنا”  له دور كبير في هذه الرواية في الكشف عما يدور في نفس البطل من استلزامات  تخاطبية يتفهمها من الحوارات الدائرة أمامه أو التي يشارك فيها.

“كانت هذه هي المرة الأولى التي يناديني فيها ولا يسبق اسمي بلقب أستاذ، وكانت المرة الأولى التي أذهب إليه بهذا القدر من التثاقل والتأفف وأرى كل هذا القبح ساكنًا ملامحه التي تغوص وتطفو في الضوء الأصفر الشحيح”
قال لي كالمعتذر: ناديت باسمك هكذا لأنني أعتبرك ابني([49]).

ورغم أن رفعت لم يتكلم إلا أن أفعاله التداولية من مشي متثاقل ونظراته، قد ولدت استلزاما تخاطبيا لدى عبدالشكور الذي يمكن فهمه عن طريق مبدأ المناسبة العرفاني في مقاربة الما بعد جرايسيين، فالأفعال التداولية من رفعت أحدثت تأثيرها في عبدالشكور، وأدرك أن تجاوز مبدأ التأدب فعدم سبقه لاسم رفعت بالأستاذ هو ما ضايقه، فاعتذر عن خروجه على مبدأ التأدب.

 ومن الأمثلة على دور السارد “الأنا” في كشف الاستلزامات التخاطبية التي تدور في رأس السارد الحوار الذي دار بين البطل وحسونة حول التنافس بين سعد سلطة ورفعت على سميرة.

– الزواج قسمة ونصيب وأجد من غير الملائم أن أنافس هذه البلطجي على اختك.
انكمش في مكانه وقال: طبعًا أنت غيره، لكن هذه الحقيقة

 أدركت وقتها أن كل من في البيت يشارك في مؤامرة صامتة على شخصي الضعيف، وربما غرهم ما قلته لهم أول يوم جئت فيه إلى بيتهم بأنني في يوم الأيام سأصير شهيرًا وثريًا، أو أن عبدالشكور أعتقد أن مثلي هو الذي يلائم ابنته التي يفتخر بأنه قد رباها بطريقة مختلفة عن كل بنات الحي، وكان دومًا يقول: أحرجتها من الغابة بدري، وجعلتها تبيع الورد لتصير وردة”([50]).

فهذه فالأفعال التداولية اللغوية والجسدية التي لاحظها رفعت، ولدت لديه استلزامات تخاطبية توصل إليها رفعت من خلال الخليفة التي كونها عن المكان وطريقة تفكيرهم، والسياق الذي دارت فيه الأحداث، كما أن نظرية المناسبة أو الصلة قادرة على كشف كيف تولد هذا الاستلزام التخاطبي، الذي لعب السادر الأنا دورًا في كشفه للقارئ.

ويستمرا مبدآ التأدب والتعاون في إثراء أحداث الرواية وتفسير أحداثها، فحين يلتقي البطل بزميلته في الدراسة أسماء، التي بدأت تتسلل في هدوء إلى شراينه لتحل محل سميرة ” جميلة الجسد هي فعلًا، لكن ما جذبني إليها أكثر هو جمال عقلها. كانت تليق بأن تكون حبيبة فيلسوف، أو تحب من يريد أن يكون أكبر فيلسوف يكتب بالعربية([51]) بدأت قصته معها عندما سألته عن سبب غيابه عن المحاضرة بالأمس([52])، فاستلزم رفعت من هذا السؤال أنها مهتمة به ويشغلها حضوره وغيابه، وحين أردت الخروج معه راعت مبدأ التأدب في قاعدة التخيير وهي تسأله ” هل لديك وقت لتناول فنجان من الشاي معًا”([53]) فقد أعطته حرية الاختيار معترفة بمكانة رفعت إليها بوصفه طرفًا في الخطاب يتمتع بقدرات تؤهله لمشاركتها شرب الشاي معًا كما تفضي بذلك قاعدة التخيير([54]). فهي ابنة رجل أعمال فاحش الثراء، لديه في منزله لوحات تقدر بالملايين، وعندما نقارن ذلك بموقف سميرة التي تضبطهما معًا أمام أكشاك الكتب التي أقيمت بالقرب من تل العقارب، فور رؤيتها لهم تخترق قاعدة التعفف.
“بانت سميرة عند أول كشك يلي محطة المترو، وتقدمت نحونا متنمرة، أكاد أسمع صوت زئيرها المكتوم، الذي سرعان ما صار غمغمات مسموعة، ثم سؤالا متوقعًا، وأظفارها مغروسة في كتفي:- من هذه؟

-أسماء زميلتي في الكلية

مسحتها بغيظ من أخمص قدميها حتى ناصيتها، وقال بصوت فيه شيء من فحش:-

أسماء أم سم([55]).

فيحاول رفعت أن يردها إلى مبدأ التأدب فيقول لسميرة في غيظ:- هذه بنت ناس
سحبت الهواء بأنفها خفيفًا، وكنت أظن أنها لن تفعل هذا أبدًا، وقالت بصوت أكثر فحشًا
– يعني أنا بنت كلب([56]).

ويلاحظ أن سميرة قد ولدت استلزامًا خطابيا خاطئا بسب بعدم احتراس رفعت في قولته” هذه بنت ناس” فرفعت خرق قاعدة الأسلوب التي تقتضي تجنب غموض العبارة، وقاعدة المناسبة التي تقتضي قول ما هو مناسب وله صلة بموضوع التحاور، فجاء ردها سواء الجسدي أو القولي معبرًا عما تولد لديها من استلزام تخاطبي.

وسعى رفعت إلى إيضاح قصده كي يعيد سميرة إلى مبدأ التأدب مرة أخرى.

أومأت برأسي نافيا، وجدتها فرصة أن أبرد خواطرها المحمومة

– أنت بنت ناس طيبين، والطيبون يكرمون ضيوفهم.

صمتت قليلًا، وظننت أن الغضب قد زال عنها، لكنها انفجرت:

-خليها تنفعك.

تلك القولة التي تولد استلزام تخاطبي يشي بالتهديد وقد كان، فحين عاد البطل إلى المنزل، طلب منه عبدالشكور أن يغادر البيت فورًا، غاضبًا منه على إغضابه لابنته.
وهذا الحوار أوضح بشكل واضح الفوارق بين سميرة وأسماء وجعلت البطل يحسم أمره،  ويرى سميرة على حقيقتها ” ذهبت عني وتركتني شاردًا في وجهها عما ألفته، وجه آخر لم أره من قبل، وربما هو وجهها الحقيقي الذي كانت تخفيه عني بمهارة بائعة تطارد زبائنها العابرين“([57]).

هكذا تتبدل مشاعر رفعت عبدالحكيم اتجاه سميرة، لتجعله يتساءل هل كانت مشاعره حيال فتاة “تل العقارب” حبًا أم شغفًا عابرًا. فبعد أن كان يصف سميرة بسميرتي وحبيبتي، باتت يسميها “فتاة تل العقارب” وهذا القولة تولد استلزام تخاطبي تبعًا للمبدأ ط في مقاربة ليفنسن.

وحين تستشعر سميرة برود مشاعر رفعت نحوها تلح عليه كي تعرف أنه يحبها كما تحبه أم لا وهو ما يخترق قاعدة التعفف، وتخبره أن والدها لن يطرده من المنزل إذا أرضاها([58]).

ومن المشاهد التي تولد استلزام تخاطبي للقارئ وصف السارد لشخصية “صلاح” الذي اغتصب حبيبته “سلطة” أمامه، في حدث متقدم في الرواية، حيث يشاهده “رفعت” في إحدى خروجاته، حين ذهب مع عاطف إلى القهوة “عنبة” كي يستمعوا إلى الأفلام التي تعرضها على شرائط الفيديو.

“أمعنت النظر فيه دون أن يشعر بي، فعرفته، كان صلاح الذي أخذ سعد سلطة منه فتاته، وقهرها أمام عينيه فقهره أشد منها، وتـأكدت من هذا حين ناداه الولد الذي يجلس خلفه: اصح يا صلاح الفيلم بدأ.

عاد من شروده، وعانقت عيناه الشاشة الملونة، دون أن يغادره ألمه”([59])
فهذا الوصف المفاجئ والمركز لحالة البطل يشي للقارئ بأن هذا الشخص سيكون له دور في قادم الأحداث، فإذا ظهر مسدس في مشهد ما فلا بد أن يستخدم في النهاية، وهو ما يحدث بالفعل، حيث يقتل سعد سلطة.

“نظرت إليه مليًا فعرفته، هو صلاح وهي فاتن، وصرخ ولد من بين الخارجين من النفق قد اندس وسط الحلقة التي تزايد عدد الذين يصنعونها:- سعد مات يا صلاح.. انتقمت لشرفك، مات خلاص”([60]).

فهذا الاستلزام يتولد لدى القارئ بسبب تركيز السارد على وصف حالة الشخصية، ولتبين أنها لم تنس ما حدث معها، تلك الشخصية التي لم تظهر إلا ثلاث مرات في الرواية، فوجود هذا المشهد لم يكن مجانيًا في الرواية وإنما يلمح تفكير صلاح في الانتقام ممن هتك عرضه أمامه، وهو ما كان بالفعل.

 وهكذا تنتهي الرواية بأن يقع البطل في الفخ الذي نصب إليه من قبل عائلة سميرة، فبعد افتضاح أمره في العزاء، أمام زميلته علا وهو يتسول، ورجوعه حزينًا، موت سلطة الذي اغتصب “سميرة” بعد أن أدرك أن عبدالشكور يتلاعب به، تتعاون الأسرة لتغيب “رفعت” عن الوعي، بالمخدرات والخمور.

أبوعوف: سأنسيك همومك

وقهقه عزوز وقال: بل سينسى اسمه.

وكان هذا هو المراد([61]).

وحين يصحو يجد سميرة عارية بجواره ويدخل أهلها عليه الغرفة، ويتم إجباره على الزواج منها، وبعد أسبوع من الزواج، يبلغه أبو عوف أن عبدالشكور يريده.
“وجدت يد عبدالشكور تمتد إليها(مبخرة)، وترفعها من مكانها في هدوء، وتمدها نحوي، ونظرت إليه وهززت رأسي مستفهمًا، فضحك حتى رأيت كل أسنانه المثرمة، وقال
-اسع على رزقك([62])

تلك القولة تبعًا لمبدأ “المواجهة” اتبعت الاستراتيجية الصريحة المباشرة وهو الأسلوب الأقل لباقة من بين جميع الاستراتيجيات الأخرى في مبدأ المواجهة، كما أن القول اخترق مبدأ التأدب في قاعدته التخيير، وهو ما يستلزم أن “رفعت” قد وقع في الشرك الذي نصب له، وضاع حلمه في أن يكون فيلسوفًا كبيرًا، فقد تزوج من فتاة من هذه الفئة المهمشة التي تتحايل على الرزق، وأصبح صبيًا عند عبدالشكور قائد كتيبة المتحايلين على الرزق، الذي يشبه شخصية زيطة صانع العاهات في رواية زقاق المدق.

 

نتائج البحث:-

1-حوارات التحايل دخل الراوية تراعي مبدأي التعاون والتأدب، وفي أغلب هذه الحوارات يخترق المتحايلون مبدأ التعفف، ويفرضون أنفسهم على مخاطبيهم، ويتبعون قاعدة التودد مع مخاطبيهم، كي يكسبوا ودهم، وينالون الأعطيات ممن يتحايلون عليهم.

2- مخالفة قواعد مبدأ التعاون لجرايس ولدت العديد من الاستلزامات التخاطبية التي كان لها دور في تطور أحداث الرواية وكشف بيئة وطريق تفكير المتحايلين على الرزق.
3- لعبت طريقة السرد بصيغة “الأنا”  في الرواية دورًا مهمًا في كشف الاستلزامات التخاطبية التي تتولد لدى البطل من أي حوار دائر أو موقف يشارك فيه.

4- الاستلزامات التخاطبية ساعدت في فهم طبيعة أحداث الرواية، وإثراء المواقف التحاورية داخل الرواية، والكشف عن المعنى غير صريح المقصود من قولات المتكلمين، الذي لا يمكن الاستدلال عليه دلاليًا.

5- لعب الوصف دور جوهري في الرواية ممكن القارئ من توليد استلزامات تكشف عن أحداث قادمة فيها.

……………………………..

*بحث ضمن مقررات برنامج الدكتوراه في كلية الآداب، جامعة القاهرة، تحت إشراف د. جابر عصفور

……………………….

[1])) للمزيد من التعريفات للتداولية انظر، ثروت مرسي، في التداوليات الاستدلالية قراءة تأصيلية في المفاهيم والسيرورات التأويلية، عمان، كنوز المعرفة ط1، 2018، ص29
– وانظر أيضا فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، ترجمة: سعيد علوش، الرباط، مركز الإنماء القومي، 1986، حيث تحوي مقدمة الكتاب مجموعة من التعريفات للتداولية.

([2])ثروت مرسي، في التداوليات الاستدلالية ص35.

([3]) محمود أحمد نحلة، آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، الإسكندرية، دار المعرفة، 2002، ص 52.

[4])) استخدام مصطلح الاستلزام التخاطبي أكثر شمولية من مصطلح الاستلزام الحواري، فالاسلتزام ليس خصيصة للحوار فقط، وإنما يمكن يتولد الاستلزام من السرد في الرواية أو القصة، أو يتولد من الشعر، فأي خطاب من الممكن ان يولد استلزامًا.

([5]) القولة: هو مصطلح يطرحه الباحث ثروت مرسي كترجمة للمصطلح الإنجليزي utterance، حتى لا يتداخل مع مصطلح القول القار في تراثنا اللغوي العربي انظر  ثروت مرسي ، في التداوليات لاستدلالية ،ص20

([6]) ثروت مرسي، في التداوليات الاستدلالية، مرجع سابق، ص241.

([7]) انظر صلاح إسماعيل، نظرية المعنى في فلسفة بول غرايس،  القاهرة، الدار المصرية السعودية، القاهرة، دون طبعة، 2005، ص13

[8])) أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، المغرب الدار البيضاء، درار الثقافة، 1986م، ط1

[9]))انظر ثروت مرسي، مرجع سابق234: 248

([10]) انظر العياشي أدراوي، الاستلزام الحواري في التداول اللساني،  الرباط، دار الأمان، ط1، 2011، ص 95: 117

([11]) انظر ثروت مرسي،  في التداوليات الاستدلالية، مرجع سابق، ص241

([12]) العياشي أدرواوي، الاستلزام الحواري، مرجع سابق، ص18

[13])) في حديث للباحث مع مؤلف الرواية عمار علي حسن، الأربعاء 27 ديسمبر 2017

[14])) المبدأ نقلا عن كتاب، ثروت مرسي، مرجع سابق، ص248: 249

([15]) يترجم الدكتور طه عبدالرحمن القاعدة الثانية بالتشكيك في كتابه اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، المغرب  الدار البيضاء، ط1، 1998، ص241 فيما ترجمه عبد الهادي بن ظافر الشهري، بالتخيير، في كتابه استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، لبنان، بيروت،  دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1 2004، ص100

([16]) انظر العياشي أدوري، مرجع سابق، ص 188، 120

([17]) وعبد الهادي بن ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، مرجع سابق، ص102

([18]) عبدالهادي بن ظافر الشهري، المرجع السابق، ص100

([19]) نفسه ص110

([20]) انظر عمار علي حسن، باب رزق، الجيزة، دار نهضة مصر، ط1، د:ت، ص11: 12

[21])) انظر عبدالهادي بن ظافر الشهري، مرجع سابق، ص102

([22]) الرواية، ص11

([23]) نظرية الأفعال التداوليه هي نظرية وضعها جاكوب ماي كبديل للمقاربة الكلاسكية لأفعال الكلام عند أوستين وسيرل، وتتحرك نظرية الأفعال التداولية من الموقف التخاطبي الذي ينجز فيه المتخاطبون أهدافهم التواصلية.

والفعل التداولي هو نشاط تواصلي للتكيف المسيق حيث أن كل الأنشطة التواصلية تجعل الإنسان يتكيف مع السياق أو يكيف الفعل، فهو أي فعل قصد بالقولة يجمع بين المعطى اللساني والمعطيات السيميوطيقية مع الأخذ في الاعتبار أن دور المعطيات السيميوطيقية في الموقف التواصلي أكبر وأهم من القولة نفسها، بل يمكن ألا توجد القولة بالأساس ويوجد فعل تداولي. تنظر ثروت مرسي، مرجع سابق ص196: 197

([24]) ثروت مرسي، مرجع سابق، ص267

([25]) المرجع نفسه، ص269

[26])) الرواية، ص20

([27]) الرواية، ص22

[28])) الرواية، ص256، 257

([29]) المبدأ ط
أ- قاعدة المتكلم: أشر إلى الموقف غير العادي وغير النمطي بقولات موسومة تباين تلك التي تستعملها في توصيف موقف مماثل عادي ونمطي
ب_ قاعدة المخاطب: ما قيل بطريقة غير عادية ولا نمطية يشير غير عادي ولا نمطي، أو  إلى رسالة مرمزة تشي بموقف مخصوص، انظر ثروت مرسي، ص266

([30]) الرواية، ص24

([31]) الرواية، ص28

([32]) انظر عبدالهادي بن ظافر الشهري، مرجع سابق، ص101

([33]) الرواية ص26

([34]) الرواية ص63

([35]) انظر عبدالهادي بن ظافر الشهري، مرجع سابق، ص107

([36]) انظر ثروت مرسي، ص270

[37]) )الرواية، ص68

([38]) الرواية ص77

[39])) الرواية، ص20، 21

([40]) تنظر الرواية ص 95

[41]) )انظر عبدالهادي بن ظافر الشهري، مرجع سابق، ص97

([42]) الرواية ص89

([43]) الرواية، ص89

([44]) انظر ثروت مرسي، ص256: 257

[45]) )الرواية218

([46]) ثروت مرسي، ص265: 266

[47])) الرواية 218

([48]) ثروت مرسي، ص 266: 267

[49]))الرواية ص210

([50]) الرواية ، ص246

([51]) الرواية، ص211

([52]) انظر الرواية، ص198

([53])  الرواية ص211

[54])) انظر عبدالهادي بن ظافر الشهري ص101

([55]) الرواية، ص230

([56]) الرواية، ص231

)([57])الرواية، ص231

([58])نظر الرواية، ص237

[59])) الرواية، ص196

([60]) الرواية، ص262

([61]) الرواية، ص272

([62]) الرواية، ص278

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم