الاستعباد .. أو تاريخ البلاغة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ظل (تشيكوف) حياً لأن (جوليا فاسيليفنا) لم تمت .. لأن التساؤل المشدوه لوالد الأطفال لم يخسر خلوده: (أيعقل ذلك ؟! .. أن يتسم إنسان بكل ذلك الضعف والاستسلام .. لماذا لم تعترضي؟! .. لم كل ذلك الصمت الرهيب؟! .. أيعقل أن يوجد في هذا العالم النابض بالظلم والأحقاد والشراسة إنسان بلا أنياب أو مخالب؟! .. إنسان في سذاجتك وخضوعك؟!)

ظل (تشيكوف) حياً لأن (جوليا فاسيليفنا) لم تمت .. لأن التساؤل المشدوه لوالد الأطفال لم يخسر خلوده: (أيعقل ذلك ؟! .. أن يتسم إنسان بكل ذلك الضعف والاستسلام .. لماذا لم تعترضي؟! .. لم كل ذلك الصمت الرهيب؟! .. أيعقل أن يوجد في هذا العالم النابض بالظلم والأحقاد والشراسة إنسان بلا أنياب أو مخالب؟! .. إنسان في سذاجتك وخضوعك؟!)

لم تكن مربية الأطفال تعرف أن تعذيبها كان مجرد مقلب أراد أبوهم أن يعطيها درساً من خلاله .. لكن شكرها له على غشه ونهبه مالها كان هو الدرس فعلا.

 أعطت (جوليا فاسيليفنا) الأب الحكمة الأزلية حينما ردت على سؤاله عن سبب الشكر بأنه في أماكن أخرى لم يكونوا ليدفعوا لها شيئا البتة .. في قصة (الساذجة) من المستبعد في تصوري الشعور بعدم التصديق تجاه أي من الشخصيتين: المربية المسكينة التي كانت أضعف من أن تتصدى للظلم وتدافع عن حقها، وصاحب العمل البرجوازي الذي ظل يقطّع بمنتهى القسوة من لحم المربية بإعصار بارد من الخصومات الظالمة ليجعل راتبها في النهاية 11 روبل بعد أن كانت مستحقاتها 80 روبل  ..حتى الإحساس الذي قد يتملكنا بالمبالغة أظن أنه لن يصمد طويلا أمام التفكير في ثبات الاستغلال الطبقي مقابل الاختلافات البديهية لصوره وتجلياته المتطورة عبر الزمن .. الاختلاف الذي يحفّز طوال الوقت دوافعنا للتساؤل حول العلاقة بين المعرفة والسلطة والإرادة الفردية والوعي الجماعي .. كأن للتاريخ حتمية ما ذات وجود متغير تحافظ دائما على توجيه السلطة للمعرفة الانتقائية ـ التعتيمية بالضرورة ـ وصياغتها على مستوى اللغة كرموز مقدسة  ..هذا ما جعل والد الأطفال في القصة (رب) عمل بالمعنى الإلهي أي يحق له أن يفعل ما يشاء دون حساب، وجعل كذلك من مربية الأطفال (خادمة) بالمعنى العبودي التي عليها طاعته، ولا يحق لها مناقشة مشيئته .. التعتيم هنا لا يتعلق بالحقوق والواجبات كما قد يُستنتج للوهلة الأولى ـ وهو اليقين السطحي السائد الذي تبدأ منه الخطوات عادة نحو تحقيق العدالة دون النظر إلى الأساس الوهمي الذي يُرسخ هذا اليقين .. التعتيم قبل أن يتعلق بالمساواة يجب أن يبدأ أولاُ من معيار القيمة وتراتبية العمل .. من لديه الحق في فرض نظام أو قانون، أو في منح امتيازات لعمل ما ونزعها من آخر، أو في وضع مهنة ما بمكانة تفوق مكانة مهنة أخرى؟ .. يحاول خطاب السلطة دائما ـ ربما أكثر مما تؤديه الممارسات غير الخطابية ـ أن يخلق واقعا مفروغا منه، يجب تصديقه والاستسلام لأحكامه .. طبيعة مجازية  قائمة على مسلمات تجمع بين التقاليد والأعراف الاستهلاكية، وبين الاحتمالات المتناقضة، الملتبسة لها، والتي يسهل عليها انتاج حالات متباينة وطاغية من الجدل الضبابي والصراعات المشوشة .. هناك إرادة ما وقفت وراء تشكيل الذات التي تحملها (جوليا فاسيليفنا) .. حصار متجذر من الزيف البلاغي ـ وهو ما كان موضوعا أساسيا لـ (تشيكوف) في أعماله التي تناول خلالها بتهكم فاضح خضوع البشر لأنماط وقوالب كلامية مدمرة لإنسانيتهم ـ وكذلك من الطقوس المتعددة للقهر النفسي والجسدي .. لم يكن غريبا إذن أن تتسم (جوليا) بكل هذا القدر من الخنوع الذي أجبرها أن تقبل بمهانة أخذ ما سمح به (سيدها).

 هذه الذات كتوثيق لمشهد جمعي تحرضنا على اقتفاء أثر الهيمنة التي تحرك الوعي العام، وتلزمه بالإنخراط فيما هو مقدر ومفروض ومرضي عنه .. ليس الإنخراط فحسب، وإنما بشكل أعمق التعايش معه لدرجة التوحد، والشغف برتابة تفاصيله وأحداثه، والتمسك بعلاقاته، والخوف من الانفلات خارج أطره التقليدية، والدفاع عن استمراره .. التحرر هنا يبدو حلما عسيرا أو معجزة غير قابلة للتحقق، وهذا ما جعل (جوليا) تأخذ الظرف الذي يحوي راتبها كاملا وهي غير مصدقة أن حديث والد الأطفال كان مجرد خدعة .. هذا ما جعلها تتلعثم وهي تكرر الشكر، بينما سيتردد طويلاً  ـ ربما أطول مما يمكن أن نظن ـ صدى المقولة الأخيرة  لراوي القصة: (حقا ما أسهل سحق الضعفاء في هذا العالم).

……………………

الساذجة

أنطون تشيخوف

طلبت – قبل بضعة أيام – من مربية أولادي ( جوليا فاسيليفنا ) موافاتي بغرفة المكتب.

– تفضلي بالجلوس ( جوليا فاسيليفنا ) – قلت لها – كيما نسوي مستحقاتك .

ويبدو أنك تلبسين رداء الرسمية والتعفف إذ أنك لم تطلبيها رسميا مني رغم حاجتك الماسة للمال … حسنا … كنا إذا قد اتفقنا على مبلغ ثلاثين روبلا في الشهر …

– بل أربعين قالت باستحياء.

– كلا .. اتفاقنا كان على ثلاثين ، دونت ملاحظة بذلك . أدفع إلى المربيات ثلاثين روبلا عادة . لقد عملت هنا مدة شهرين لذا ..

– شهران وأيام خمسة قالت مصححة – بل عملت لمدة شهرين بالتمام والكمال – قلت بإصرار – لقد دونت ملاحظة بذلك ، وهذا يعني أنك تستحقين ستين روبلا يخصم منها أجر تسعة أيام تعرفين تماما أنك لم تعملي شيئا لـ ( كوليا ) أيام الأحد وكنت تكتفين بالخروج به للنزهة … هناك أيضا ثلاث إجازات و …

ولم تعقب .. اكتفت المسكينة بالنظر إلى حاشية فستانها فيما كست محياها حمرة شديدة .. مانبست ببنت شفه

– ثلاث إجازات فلنخصم من ذلك إذا اثنى عشر روبلا … كما وأن ( كوليا ) قد مرض فاستغرق ذلك ثلاثة أيام لم يتلق عبرها أي درس … شغلت إبان ذلك بـ ( تانيا ) فقط ، هناك أيضا أيام ثلاثة شعرت فيها بآلام في أسنانك ممضة اعفتك زوجتي خلالها من العمل بعد الظهر … اثنا عشر وسبع يساوي تسعة عشر ، واطرحي ذلك فيتبقى بعد ذلك … آ … واحد وأربعون روبلا … أصبح ذلك

واحمرت العين اليسرى ( لجوليا فاسيليفنا ) ثم … غرقت بالدمع ، فيما تشنج ذقنها وارتعش … وسعلت بشدة ثم مسحت أنفها … إلا أنها … لم تنبس بحرف

– ” قبيل ليلة رأس السنه كسرت كوب شاي وصحنه ، يخصم من ذلك روبلان رغم أن تكلفة الكوب هي في الواقع أكثر من ذلك إذ إنه كان ضمن تركة قيمة … لا يهم ليست تلك هي أولى مامنيت به من خسائر … بعد ذلك ونتيجة لإهمالك صعد ( كوليا ) شجرة فتمزق معطفه ، يخصم من المجموع عشرة روبلات … كما وأن الخادمه قد سرقت – بسبب لامبالاتك حذاء ( فانيا ) ينبغي أن تفتحي عينيك جيدا … أن تتوخي الحذر والحيطة

فنحن ندفع لك ثمن ذلك … حسنا نطرح من كل ذلك خمسة روبلات وإني قد أعطيتك عشرة روبلات يوم العاشر من يناير

– لم يحدث ذلك ّ همست ( جوليا فاسيليفنا )

– بلى دونت ملاحظة بذلك قلت بإصرار

– حسنا وإذا أجابت بنبرات كسيرة .

– فإذا ما خصمنا سبعة وعشرين من واحد وأربعين فسيتبقى لك أربعة عشر روبلا

وغرقت بالدموع حينها كلتا عينيها فيما ظهر العرق على أنفها الصغير الجميل … ياللبنية المسكينة

– لم أحصل على مال سوى مرة واحدة قالت صوت راعش متهدج النبرات – وكان ذلك من زوجتك . ماتجاوز ما استلمته ثلاث روبلات … لا أكثر سيدي.

– حقا أرأيت لم أدون ملاحظة بذلك – سأخصم من الأربعة عشر روبلا ثلاثة فيتبقى لك أحد عشر روبلا

ودفع إليها بالمبلغ فتناولته بأصابع مرتجفة ثم دسته في جيبها .

شكرا قالت هامسة .

– ولماذا هذه الـ ( شكرا ً) سألتها

– للمبلغ الذي دفعته لي .

لكنك تعرفين أني قد غششتك … أني قد سرقتك ونهبت مالك فلماذا شكرتني

– في أماكن أخرى لم يكونوا ليدفعوا لي شيئا البتة

– لم يمنحوك على الإطلاق شيئا زال العجب إذا لقد دبرت هذا المقلب كي ألقنك درسا في المحافظة على حقوقك ، سأعطيك الآن مستحقاتك كاملة … ثمانون روبلا … لقد وضعتها في هذا الظرف مسبقا … لكن – تساءلت مشدوها – أيعقل ذلك أن يتسم إنسان بكل ذلك الضعف والاستسلام لماذا لم تعترضي لم كل ذلك الصمت الرهيب … أيعقل أن يوجد في هذا العالم النابض بالظلم والأحقاد والشراسة إنسان بلا أنياب أو مخالب إنسان في سذاجتك وخضوعك

وابتسمت في ذل وانكسار فقرأت في ملامحها ” ذاك ممكن “

واعتذرت منها مجددا عما سببته لها من ألم وإحراج ، إذ إن الدرس كان قاسيا حقا قبل أن أسلمها الظرف الذي يحوي أجرها … ثمانون روبلا تناولتها بين مكذبة ومصدقة … وتلعثمت وهي تكرر الشكر … المرة تلو المرة ثم غادرت المكان وأنا أتأملها وسيل من جراحات الإنسان المعذب في أرجاء غابة الظلم يندح في أوردتي وهمست لنفسي :

– ” حقا ما أسهل سحق الضعفاء في هذا العالم “

مقالات من نفس القسم

رؤية العمى
كلاسيكيات القصة القصيرة
ممدوح رزق

رؤية العمى