على مدار يومين انغمست بالكلية في عوالم الرواية، وأصبحت جزءًا من مغامرة “بيلبو باجنز”. تلك المغامرة التي حولت حكاية كتبت لتسلية الأطفال إلى انقلاب في عالم أدب الفانتازيا للكبار والصغار.
وبعد عشرة أعوام من قراءتي لرواية “الهوبيت”، ومرور أكثر من ثمانين عامًا على صدور طبعتها الأولى في سبتمبر 1937، صدر عن الدار المصرية اللبنانية في أكتوبر 2017 رواية “الوصفة رقم 7” للروائي والقاص والمحرر الصحفي المصري “أحمد مجدي همام”.
تدور أحداث رواية “همام” عن “مليجي الصغير”. عاطل منعه أبوه من دخول كلية العلوم لإشباع شغفه بالعلوم والتركيبات الكيميائية، وأجبره على دخول كلية الفنون ليصبح مثله رسامًا. وكغيره من عوام أهل بلده يتعاطى كل أنواع –المكيفات- وبعد ممات حاكم البلد، يأتي حاكم جديد بقوانين تحظر كل أنواع “المكيفات”، وهذا النظام الجديد أدى إلى إستئثار الطبقة الحاكمة وصفوة مجتمع رجال أعمالها بالقدرة على ضبط “المزاج” والحصول على “الكيف”.
ولينجو “مليجي” من أزمة جوع رأسه للـ”مزاج” يدخلنا معه في معمله لنجري تجارب فاشلة وغامضة لاختراعه. وبعد محاولات عدة ننجح معه في الانتقال بالصدفة من الأرض التي نعرفها إلى عالم أرض “اللابوريا”. تلك الأرض الخيالية المخترعة بالكامل، مثلما اخترع لنا “تولكين” عوالم الأرض الوسطى، بل تزيد عليها بوجود قمرين في سمائها وتمتلئ أكثر من رواية “الهوبيت” بمخلوقات جديدة متنوعة لم نسمع عنها. كما قام برسم خريطة لوصفها كفعل “تولكين”.
والسؤال هنا:
هل نجحت توليفة همام المصرية في هندسة منطق داخلي في عوالمه غير المنطقية لجعلها عوالم قابلة للتصديق؟
من البداية كنت أعرف أن بطل رحلتي شخص “مغيب” بفعل سيجارة “مزاج” اخترعها، إلا أن من يصحبني في الرحلة راوٍ يشاهد وينقل الأحداث. يبحث في كتب تاريخ “الحراصيد” ويشرح كيفية اكتسابهم لصفاتهم الجينية المميزة.
فكان من المخيب للآمال أن تتزاحم التفاصيل فيما بعد بلا بناء قوي يخدم تفرد هذا العالم الجديد عليّ.
فكل معلومة أو فصل إذا حذفته وبقى البناء كما هو، فهذا يعني أن المعلومة أو الفصل غير مهمين مثل فكرة وجود القمرين في سماء أرض اللابوريا.
فهل غيّر إضافة قمر جديد في سمات عالم من المفترض أننا لا نعرفه عن العالم الذي نعرفه في شيء؟ أبدا، معلومة ذكرت هكذا بشكل عارض. ربما ذكرت لإبهار القارئ، ولكن كيف سينبهر بتلك المعلومة من قرأ رواية “1q84” لهاروكي موراكامي؟
ولأنني شعرت في بعض الأحيان بتقارب بين تضاريس ومعالم أرض “اللابوريا” لـ”همام”، وتضاريس ومعالم “الأرض الوسطى” لـ”تولكين” – سأوضح فكرة هندسة البناء غير المحكمة فيما كتب “همام” بعقد مقارنة بين فصل “ألغاز في الظلام” كحدث مر به “باجنز” بطل “تولكين”، وفصل “ألغاز صحراء القفر” كحدث مشابه مر به “مليجي” بطل “همام”.
-في صحراء القفر ضل مليجي الصغير طريقه ولم يكن معه غير “بقجة” زوده بها “غندور بن هنكال” زعيم الحراصيد المؤمنين أثناء هروبه، وبها بوصلة وخريطة لأرض اللابوريا وبعض الطعام والشراب وقطعة قماش ينام عليها.
أما في قلب جبل “الجوبلين” يتوه “باجنز” عن أصدقائه ثم ينتهي طريقه عند حافة بحيرة مظلمة، ومعه سيف صغير حصل عليه من كنز العماليق.
-مليجي كان نائما عندما أيقظه مخلوق اسمه “نسناس” وهو مسخ كريه عبارة عن نصف طولي أيسر لجسد إنسان عادي.
أما “باجنز” فكان واعيًا ومتحفزًا عندما قابل مخلوقًا لزجًا ضئيل الحجم اسمه “جولوم” وهو يجدف قاربا في النهر بقدميه، وله عينان كبيرتان دائريتان باهتتان في وجهه النحيف وله ستة أسنان حادة في فيه.
-مخلوق “الشق” الذي قابله “مليجي” كان يعرف أنه إنسان، فالإنسان لم يكن شيئًا عجيبًا في هذه العوالم، هو فقط نادر الوجود. وقبل أن يجتمع ثلاثة آخرون ليصبحوا أربعة “أشقاق”، دار بين مليجي ونسنان هذا الحوار:
“أنا فقط كنت جائعا، قال نسناس.
هنا كان يحق لمليجي أن يرتاب مجددا، إلا أن النصف بدد مخاوفه عندما قال: ورأيت أن معك بقجة..
تنهد مليجي مجددًا، ورفع زجاجة عصير القرنبيط إلى فمه، ثم أخذ وجهه يتكرمش ويتغضّن، وهو يسمع تعليق نسناس:
فقلت فلأجعل الإنسي يأكل كل ما في بقجته، ليسمن أكثر، فيكون صيدًا ثمينًا لي، يكفيني أنا وأولادي!
شَرِق مليجي، وسعل كثيرًا، وراح نسناس يخبط على ظهره، وهو يعتذر عن مزاحه الثقيل، ويؤكد أنه لن يأكله أبدا“. ص66،67
لكن “جولوم” الذي لم يكن يترك بحيرته ومخبأه إلا لإحضار أحد من مخلوقات الجوبلين ليأكله:
“لم يقترب جولوم من حافة البحيرة هذه المرة بدافع الجوع، فهو لم يكن يشعر بالجوع وقتها، بل أتى بدافع الفضول، وإلا كان أطبق على عنق بيلبو أولا“. ص87
فهو لم يكن يعرف هذا المخلوق الجديد “الهوبيت”، ولا يعرف هل هو قابل للأكل أم لا، كما أنه يحمل في يده سيفا. لهذا اقترح عليه لعبة الألغاز، ولحاجة “بيلبو” في معرفة طريق للخروج من متاهة جبل “الجوبلين” وافق على الفور، فهو يجيد لعبة الألغاز التي مَنطقها “تولكين” بقوله:
“شعر بيلبو بالراحة، لكنه قفز من مكانه ليقف على قدميه، وأسند ظهره إلى أقرب جدار، وتشبث بسيفه الصغير. كان بالطبع يعلم كم هي مقدسة وأزلية لعبة الألغاز هذه، وكم يخشى –حتى الأشرار من المخلوقات- الغش حين يلعبونها. لكن بيلبو أحس بأنه لا يمكن الوثوق بأن مثل هذا المخلوق الطيني قد يحفظ عهده إن اضطر لعكس ذلك…”. ص95
وسأل باجنز بالصدفة نفسه ما الذي في جيبي، فاعتقد مخلوق الجولوم أن هذا هو لغزه الجديد فارتبك وصرخ فهذا ليس عدلا، ولا جزءًا من قانون الألغاز، لهذا لم يعترض باجنز عندما اقترح عليه “جولوم” أن يعطه ثلاث فرص للإجابة.
ويجدر الإشارة إلى تدقيق “تولكين” في نقل هواجس وأفكار وخيالات ومخاوف كل من “باجنز” و”جولوم”، ففي النهاية نحن في عوالم لا نفهمها ولا نعرفها؛ لهذا وجب عليه كشفها لنا وتعرفينا بها بشكل كافٍ.
هل فعل “همام” بالمثل؟
على العكس تماما، كلمة من “نسناس” تطمئن “مليجي” وكلمة أخرى تربكه، والوصف والدوافع فقيرة. غير مفهوم لماذا أجّل الأربعة “شقوق” الجائعة هجومهم على “مليجي” الذي لا حول له ولا قوة منذ البداية، فهو كان نائما عندما وجده أولهم. وما المنطق الذي وضعه لنا “همام” لنفهم قدسية تقاليد الألغاز؟ ولماذا لا يكفي لغز واحد أمام جوع كائنات صحرواية شرسة لا تنتظر طعامًا في القريب؟
ما المنطق في مجالسة طعامك وأنتَ جائع، ولما ستسيطر تقاليد ما، لا رقيب عليكَ في تطبيقها؟
والسؤال الأهم، ما الإضافة في حبكة الرواية وبنائها بوجود هذا الفصل بالكامل في رحلة “مليجي”؟
في رواية “تولكين” لولا مقابلة “باجنز” لمخلوق “الجولوم” ما كان حصل على خاتمه السحري، هذا الخاتم الذي حوّل “باجنز” من مجرد هوبيت عادي إلى لص، وهذا ما وعد به من أول المغامرة. وارتكزت فاعلية “باجنز” في باقي المغامرة على امتلاكه لهذا الخاتم.
أما “مليجي” فما التطور الذي حدث له؟
في رحلته لن يحتاج إلا إلى الخريطة والبوصلة التي حصل عليها من قِبَل زعيم “الحراصيد” بالفعل، وطعامه وشرابه في صحراء لا يعرفها محتمل جدا أن ينفد. كما أن مخلوقات الشق التي أكلت من جوعها حتى “بقجته” القماشية لم تأكل الخريطة الورقية!
في الحقيقة الرواية لا تخلو من متعة في قراءتها فلغتها سهلة وبسيطة، إلا أن الاستسهال في بنائها حولها –في رأيي- إلى أشبه بروايات “الجيب” الموجهة لمساعدة المراهقين في تأصيل عادة القراءة لديهم.
خاتمة
التجريب هام في الكتابة لنموها وتطورها. ربما يرى بعضنا الكتابة لعبة يستمتع في ممارستها ويمتع من يشاركه قراءة ما يكتب. ولكنها لعبة مقدسة تحتاج للإنصات إلى حكمة –في رأيي أيضا- تكتب بماء الذهب كتبها “أحمد مجدي همام” نفسه على صفحته “فيس بوك” قال فيها: “الكذّابون، والأطفال، والمجانين، وضحايا أوهام المؤامرات، والجهلة، والأبواق الإعلامية.. يستطيعون تأليف القصص وإنتاج الخيال. وحده الكاتب يستطيع هندسة منطق داخلي للخيال فيجعله قابلاً للتصديق”.