الإيبو يحتفون بدريدا: قراءة تحايلية موجزة في سؤال الضيافة

موقع الكتابة الثقافي art 08
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاتم الأنصاري

“أحمقُ هو من لا يعلَم أنّ أخاه ضيف..”

من أمثال الإيبو

    ثمة تعتيقٌ مُضْنٍ لـشِعْريةِ فِعلِ الضيافة: تنويبُ الاستعارةِ المُسْكِرَةِ الحفيَّةِ منابَ الرغبةِ الموْحِشَةِ الخفيّة استشرافًا لردّ الجميلِ الجميل: لعلّها مصادقةٌ شِبْهُ شاسعةٍ على اتفاقية الكولا مقابل الكوكاكولا: الكولا الآن مقابل الكوكاكولا فيما بعد! فمن الحماقة أن تظن أن المعنى الحاضر لا يتحايل على كومةٍ أبديةٍ من المواعيد المؤجلة حين يحيل إليها، ومن الحماقة كذلك ألا تعرف أنّ أخاكَ غريبٌ كعَدوِّك..

أو بالأحرى، غريبٌ عنْكَ.. كَــ(أنتْ)!

     “يقبل الإيبو زوارهم كزائرين لهم هم، اعترافًا بحقيقة أنهم سيكونون بدورهم غرباء في مكانٍ ما، يومًا ما. الضيافة إذًا مواجهة بين المضيف والضيف..[i]”.

    إنها مواجهةٌ مفعمةٌ بذلك السؤال التبادليّ الرهيب: سؤال الغريبِ الدريديِّ الذي تحايل الإيبو على إجابته قبل مئاتِ السنينِ استباقًا لمُغْتَرَبٍ قَصِيٍّ آتٍ واستشرافًا لردّ الجميلِ الجميلِ مُسْتَقْبَلا مفتوحًا على قارّةٍ لانهائيةٍ من الاحتمالاتِ المرجأةِ إلى الأبد..

    كتب دريدا:

     “ما إن تخاطب الآخر حتى تنفتح على المستقبل، وتكتسب تجربة زمنية لانتظار المستقبل، انتظار مجيء أحدهم؛ ذلكم هو مفتتح التجربة: أحدهم على وشك أن يأتي الآن.[ii]

    أجل! “أحدُهم..”، هكذا، بنكهةِ ضميرِ المجهول: لعلّه الآخرُ في حالته الصلبة المتعسرة، الآخرُ الهيّولى؛ صريحًا مُطْلقًا مُصْمَتًا وأوديبًا أبدًا.. غريبًا بتقنية الـ4K، ومطرودًا بقسوةٍ من رحمةِ اللوغوس!

    ولكنّ “أحدَهم” هذا لن يلبثَ أن يتجاوز عتبة الغربة الغريبة ويتخذ مقعده في غورِ مجلسِ أوكونكو ليتشاطرَ جوز الكولا مع مضيّفه تمهيدًا لما هو آت:

    “في اصطلاح الإيبو، لا يقتصر وصف المضيف على من يدعو ضيفًا أو ضيوفًا وحسب، بل يشمل كذلك كل من يستضيف غريبًا مر بجوار منزله[iii]”. “لأن الضيافة عند الإيبو موجهة في الأساس “إلى الغرباء والمسافرين..[iv]”.

    تلك -بوضوحٍ- ضيافةٌ مطلقةٌ تُنَزّه نفسها عن المشروطية (مرحبًا بك أيا كنت، اسمك لا يهمني!)؛ ضيافةٌ عادلة (مرحبًا بكل محتاج!)، والعدل -كما هو معلوم- أوسع باعًا من القانون، وهو“يحتل مكانة رفيعة في ثقافة الإيبو[v]

   ولكن، ألم ينكر التفكيكي الفرنسي من قبل إمكانية وجود ضيافة كهذه على كوكب الأرض؟

   “يملي قانون الضيافة، القانون الشكلي الذي يحكم المتصور العام للضيافة (….) أن الضيافة المطلقة تحدث قطيعة مع قانون الضيافة بوصفه حقا أو واجبا، ومع “ميثاق الضيافة”. ولكي نقول هذا بكلمات أخرى، فإن الضيافة المطلقة تتطلب أن أفتح بيتي وأعطي ليس للغريب فقط (المحروم من اسم عائلة، ومن مقام اجتماعي خاص بالغريب إلى آخره)، ولكن أن أعطي أيضا للآخر المطلق، غير المعروف، والمجهول، والذي أعطيه مكانًا، والذي أدعه يأتي ويصل، فيمتلك مكانا في المكان الذي أمنحه إياه من غير أن أطلب منه مقابلا (في الدخول إلى ميثاق) أو حتى أن أسأله عن اسمه. إن قانون الضيافة المطلقة يستدعي إحداث قطيعة مع الضيافة كحق، مع القانون أو العدالة كحقوق. ذلك لأن الضيافة العادلة تحدث قطيعة مع الضيافة الحقوقية.[vi]

    ربّما..! فـأساطين الحفاوة المطلقة أنفسهم لا يجدون غضاضة في الإفصاح عمّا يساورهم من قلقٍ حيال ضيوفهم:

    “في ثقافة الإيبو، ينظر إلى وجود الضيف بوصفه فألا حسنا، حيث يُعتقد أن الضيف يجلب الحظ الحسن. ولكن، في بعض الحالات، يمكن أن يمثل الضيف مصدر تهديدٍ وحظٍ في آنٍ واحد.[vii]

   فحتى وإن كنت أيها الغريب “طفلا يجب أن يجد الترحيب والحماية[viii]”، فلن آمن على نفسي منك ما دام الجناس اللفظي -وربما المعنوي- بين مصطلحي (ضيافة/hospitalité) و (عداوة/hostilité) قائمًا! فالغريب، كما كتب دريدا، “يُستقبل بوصفه ضيفًا وبوصفه عدوا.. إنها (العد-ضيافة hostipalité..)[ix]”:

     “اهتم دريدا بتجذير مصطلح hospitalité/ضيافة”، والذي وإن كان ذا جذور لاتينية، إلا أنه مشتق من كلمتين هندو-أوروبيتين تحملان معاني “الغريب”، “الضيف”، و”القوة”. وهكذا، عند تفكيك الكلمة، يمكن أن نلحظ “قيدًا ذاتيا” أساسيًا متضمنا في فكرة الضيافة (…..) بالنسبة لدريدا إذًا، فإن فكرة امتلاك سيادة المنزل أو الاحتفاظ بها تكمن وراء الضيافة: “البيت بيتك”، هذه دعوة مقيدة للذات.. إنها تعني: من فضلك، تصرف كما لو كنت في بيتك، ولكن، تذكر، هذا ليس صحيحًا، هذا ليس بيتك بل بيتي، وينتظر منك أن تحترم ملكيتي.[x]

    إلا أن النوايا الحسنة ستفوز في النهاية، بل وربما أدت عبارة “البيت بيتك” معناها الحرفي بكل إخلاص وأمانة؛ ذلك لأن الإيبو حريصون على احترام مشاعر الأسلاف والآلهة الذين “يؤمنون بأنهم يتمثلون في صور ضيوفهم[xi]”، وذلك لأن فعل الضيافة، بحسب دريدا نفسه، لا يمكن أن يكون إلا شِعريًا، وذلك لأن الشعر، كما كتب سنغور، “لا ينبغي أن يموت، وإلا فلن يجد الأمل مكانًا يلجأ إليه..”

أو بالأحرى، لن يجد مكانًا.. يستضيفه!

……………………………

* الإيبو (أو الإغبو): إحدى الإثنيات المكونة لنيجيريا.

[i] Paul Chinedu EZENWA, “The Value of Human Dignity: A Socio-Cultural Approach to Analyzing the Crisis of Values among Igbo People of Nigeria”, Julius-Maximilians-Universität Würzburg, 2017, p. 38.

[ii] Jacques DERRIDA, “The Villanova Roundtable: A Conversation with Jacques Derrida” in: Deconstruction in a nutshell: a conversation with Jacques Derrida, Fordham University Press, 1997. pp. 52-53.

[iii] Paul Chinedu EZENWA, op. cit.,39.

[iv] Clement I. OSUNWOKEH, “Human Dignity Stance of Umunna Solidarity in Igbo Traditional Society: A Challenge to African Christianity” in: Journal of Scientific Research & Reports, 8(2): 1-11, 2015, p. 5.

[v] Ibid.

[vi]   جاك دريدا، آن دبفور ما نتيل تدعو جاك دريدا كي يستجيب للضيافةترجمة: منذر عياشي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2009م. ص.20.

[vii] Paul Chinedu EZENWA, op. cit.,39.

[viii] Ibid.

[ix]  جاك دريدا، مصدر سابق. ص 30-31.

[x] Kevin O’GORMAN, Jacques Derrida’s philosophy of hospitality. in: Hospitality Review. 8, 2006, pp. 51.

[xi] Paul Chinedu EZENWA, op. cit.,39.

 

مقالات من نفس القسم