“الأيام حين تعبر خائفة”.. أجمل الشعر ليس أكذبه بالضرورة!

رشا أحمد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رشا أحمد

الكتابة الصادقة ما هي إلا تلك التي تطمح لتغيير قارئها، وتصعد به نحو إنسانيته، فعلا هناك كثيرون يكتبون كتابة جمالية مدهشة، لكن هل تكفي الجماليات الفنية لإنجاز نص قادر على الصمود في وجه الزمن؟ في ديوان ” الأيام حين تعبر خائفة” للشاعر المصري محمود خير الله لا يكتفي النص بجمالياته بل ينهل من نبع  الشفافية والصفاء والعمق، مؤكداً أن   أجمل الشِعر ليس أكذبه بالضرورة، فقد يكون سر عذوبة القصيدة أنها كُتبت بمداد المعاناة الحقيقية الصادقة.

في الديوان الصادر في القاهرة عن الهيئة المصرية للكتاب ضمن سلسلة ” الإبداع الشعري” ، تتعدد مظاهر الألم وتتنوع دلالاته وظلاله مشرّبة أحياناً بوقع فلسفي ونزوع وجودي حيث الألم قرين الحزن والبكاء والحرمان والفقد والإحساس بالمحبة والمعاناة في آن واحد . في قصيدة “وجه أبي” نقرأ:

سمرة تعيش آمنة تحت شعر أبيض

 تتكلم عن الله الذي تعرفه

 والذي يحمله قلب كل زنجي مثلك يا أبي!”

يبدو النفس الشعري في هذا الديوان تجسيدا لمقولة رسول حمزاتوف: النسيان يجبرني على الكتابة لا لأنسى ولكن كي أجيد التذكر”. الكتابة الجيدة لابد أن تفضح صاحبها . نحن نسكب أرواحنا على الورق.  وهذا ما نجد صداه يتردد في قصيدة ” عارياً يتغطى بنافذة ” حيث نقرأ :

أنا لا أملك من حطام الدنيا -سوى عينين ونافذة،

 أرى بهما العالم الذي يدور في رأسي ،

لا بيت لي، ولا أصدقاء ،

أهلي كلهم هجروني،

لم يبق معي- دائما -وإلى النهاية، سوى الشرفات،

 كانت تعويضاً كافياً عن العالم،

 ذلك الملعون الذي لا أم له ولا نافذة

 يمنحُ الحب بيدٍ ويأكل بالأخرى خُبز العاشقين”.

فالشاعر هنا لا يستدعي القصيدة، وإنما هي التي تستدعيه . إلى مثل هذا المعنى  يرمي الشاعر والناقد الفرنسي بول فاليري إذ يقول: إن الشاعر لا يبدأ من فكرة أو مجموعة من الأفكار، وإنما يبدأ من إيقاع أوليّ يتردد في ذهنه، يكون نتيجةً لظروف متنوعة مؤاتية  للشعر . هذا الإيقاع الأوليّ هو، كما يقول فاليري، العبارة الأولى أو البيت الأول الذي تمنحه الآلهة . ولكن ما يأتي عفواً أو منحةً أو هبةً هو الذي يفتح المجال للعمل كي يبدأ. وكما قال الإيطالي شيراز بافيس ليس لنا سوى أن نبدأ.

محمود خير الله يسلك بهذا الديوان منحنى تصاعدياً للجمال والخفة عبر نصوص شجية. هو  شاعر يمتلك أدواته بقوة على مستوى اللغة والرؤية وتشكيل الصورة الشعرية، والتلاعب بكل هذه الأدوات وكأنه ينصب شَركاً للمتلقي ليجد نفسه في علاقة حميمية بالنص.

 في العديد من نصوص العمل، يبدو الشاعر كما لو كان يعيش عالمين عبر استحضار القديم مسكوناً بأشباح الماضي، الذي يعود في أشكال مألوفة، مع أن الإنسان هو أكثر الموجودات غرابة، كما يقول “هيدجر”، كما  تكشف الذات الشاعرة عن كل ما هو غرائبي في هذا العالم الذي يبدو للوهلة الأولى مألوفاً للغاية: 

نعم أنا من هؤلاء الذين لم تبق لهم الحياة شرفة على حالها،

دائما تتقوس بجسدها إلى الأمام

 تخلع عظامها شيئا فشيئا من الجدران العالية ،

 شاخصة بغضب إلى الأرض

 لا يستطيع المرء أن يحتمل الحياة كنافذة

هكذا في النص كما في نصوص أخرى في الديوان، تبدو الذات الإنسانية متأرجحة بين الفراغ والصمت، المرئي وغير المرئي، والمكان واللامكان. يتسرب إلينا حزن الشاعر مكثفاً ونقياً كخيط في فضاء سوريالي مسكون بأشباح من الماضي، ربما لذلك نراه يلجأ إلى التكثيف الشديد والنبش في خبايا الروح بهدف اصطياد العابر والمهمش ليصنع لنا في النهاية مشهدية شعرية تشد القارئ وتغريه لأن يصبح جزءاً من النص.

 شىء من هذا المعنى نجده في قصيدة ” لا شيء يدوم ” والتي نقرأ فيها :

 علمتني الشرفات التي وقفت خلفها كثيرا

 وأنا صغير أن لا شيء يدوم

حتى وأنت مختبئ وراء شرفة بالية

الأصوات تأتيك عارية من ملامحها

والحزن يهز ذيله للعابرين

 لكن لا شيء يدوم

 هنا  تبقى الذات الشاعرة حاضرة وفاعلة، فهي النافذة التي ينظر صاحبها  من خلالها إلى العالم، في صراعاته وحروبه ومكائده، حائرا بين القوى القوية الغالبة المهيمنة، والأخرى الضعيفة المقهورة.

المدهش أن الذات نفسها تتشظى إلى قطبين متصارعين بين الداخل والخارج، فالنص هنا لا يبدأ في العزلة أو الفراغ، لكن في دوائر متداخلة من غياب ووحدة وألم وحزن تلف النص باختلاف المفردات وتنوعها.

   “كل شيء يولد صغيراً، ثم يكبر، إلا الحزن فإنه يولد كبيراً، ثم يصغر”، هذه إحدى الجمل الشائعة عن الحزن، الذي يعد ظاهرة في الأدب العربي القديم والحديث، ويرتبط أكثر ما يرتبط بالشعر، الحزن في الأدب قديم قدم الإنسان المبدع. هنا حزن للشاعر يراوغه يلتف حوله كثيرا لكنه لا يهزمه ولا يكسره . حزن غير مستتر يراه القارئ جيداً كحالة وجدانية تلمسه وتشكل هاجسه. 

نصوص محمود خير الله مرهفة تخترق قارئها برهافة في أقسى لحظات الألم والحزن والشعور بالأسى تجاه العالم والبشر. كيف نرثي ذواتنا وألمنا ونقدمه في نصوص شجية تتصاعد وتيرتها بين الفقد والألم والحب والأمل في انفتاح مدارات التأويل للنص؟ يبدو هذا الديوان في مجمله كما لو كان إجابة عملية عن هذا السؤال .

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم