“الأميرة والرجل من العامة” .. فردوس الماضى المفقود

الأميرة والرجل من العامة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مازن حلمى

لنتفق أولًا أن كل كتابة كبيرة يقف وراءها تجربة، وثقافة، وإنسان كبير، وفى المقدمة موهبة أكبر. تلك الكتابة نَصِفُها بالكبيرة؛ لأنها تملك نظرة مختلفة للذات والعالم، تنمى الإحساس بالحياة، وعلاقة الفرد بذاته والآخر، بحيث لا يعود هو نفسه بعد الخروج من العمل الفنى. إلى جانب أنها تقطع شوطًا أو خطوة إلى الأمام فى الفن بما تقترحه من صيغ، وآليات جديدة فى التركيب والبناء؛ كى لا يكون المنتج الإبداعى إعادة انتاج للنمط السابق. إنما تحرك وتدفع الخط السردى الساكن. هى ميزة تخص كل المبدعين الكبار. “محمد إبراهيم طه” واحدٌ من هؤلاء المبدعين. يواصل ويراكم مشروعه السردى الذى يصل إلى عشرة أعمال، موزعة ما بين القصة والرواية آخرها المجموعة القصصية “الأميرة والرجل من العامة” الصادرة عن دار النسيم 2019 عن موضوعه الأثير عالم المرأة، محاولًا الاقتراب من العلاقة الجدلية بين الرجل والمرأة، والكشف عن وجهٍ جديدٍ من وجوه حواء، بالإضافة إلى طَرْق باب الصوفية، والولوج منه بحثًا عن الخلاص بالمعرفة الوجدانية، فى مغامرة إبداعية جديدة تثرى السرد المصرى والعربى على السواء

فكرة البديل

يسيطر على القاص شعور بالفقد وحنين إلى الماضى، ومحاولة استعادة لحظات جميلة عبر استدعاء حبيب غائب. تستدعى مخيلة السارد بديلًا، لإكمال دور الشخص المفقود؛ ليُصبح جسرًا بين الماضى والحاضر، ويظل ماضي القاص حاضرًا ولو بشكل وهمي فى لاوعيه، لا يشاركه سوى القارئ. هذه الحيلة تعنى إحياء صورًا وشخوصًا من الذاكرة وإنعاشها وليس مجرد البوح بمكنونات الذات. فى قصة “أيام العباءة الفوشيا” يحاول السارد المفتون بأخت زوجه ذات العباءة الفوشيا، أن يُلبس امرأته نفس العباءة حتى تتوهج، وتصير فى صورة الأخت لتستحضر الأنوثة والجمال الحسى المفقود لديها. من قاع الذاكرة  تأتى صورة زميلته طالبة كلية آداب فى قصة “هل كنا على موعد؟”، فينسج بخيط سردى رهيف كيف تعرف عليها، ونما الحب بين قلبهما، حتى لا تضيع تلك الذكريات يُلبسها صورة فتاة قابلها فى مطعم، فتبدأ نغمة الحنين الشجية التى يبرع فى العزف عليها.

لا يجتر القاص المسكون بماضيه شخوصًا ومواقف، بل تحضر الروائح  فى قصة “رائحة البرتقال” التى تستدعى رواية الكاتب “صنع الله إبراهيم” الشهيرة “تلك الرائحة”، وإذا كان بطل الرواية تطارده رائحة نتنة؛ دلالة على عفن النظام السياسى والبلد كاملة، فالرائحة هنا في القصة تعطى معنى الجمال الجسدى، فهى ُتحضِر معها الفتاة الجميلة ذات البلوزة المفتوحة. إزاء توقه فى رؤيتها مرة أخرى يخلق البديل لها فى هيئة امرأة تلد. يُحيل الاعتماد على حاسة الشم بدلًا من الكلام إلى حالة من العزلة والتوحد تعانى منها الذات الساردة. كما أنها تنزل بالإنسان مرتبة أقل من منزلته إلى مستوى الحيوان الذى يتواصل بتلك الحاسة.

تقف الذات على التخوم فى العلاقة مع المرأة. معرفته بها سطحية هامشية تنحصر عند المستوى الجسدى الخارجى لا المستوى الأعمق، الروحى الوجدانى، فضمن ما يود بعثه صوت محدثته بريهان فى قصة “صورة حديثة لبريهان”. العلاقة قائمة على الأصوات من خلال مكالمات الهاتف، وعندما يفقد الصوت يغلبه الحنين. من ثمَّ يحضر هاجس البديل. دائمًا هناك شعور أو شخص أو شيء يفتح صندوق الماضى الجميل، ليعود بأجوائه يضفى البهجة والحب، ووصل ما انقطع. إنه فخ النوستالجيا الذى لا يريد الكاتب أن يخرج منه. يستعذب الارتماء فى أحضانه أمام واقعه التعيس.

الهوس الجنسى

يمكن أن نصف حضور المرأة فى القصص بالحضور الغائب، فالعلاقة لا تتحقق أبدًا. تُبنى فى الغالب فى المخيلة وتكتمل بالأحلام، تعانى الذات من حرمان جسدى وعاطفى يتم تعويضه بالخيالات، وتفريغ الرغبات على الورق. من هنا تأخذ الكتابة شكلًا تعويضًيا. بإمكان الذات المهزومة فى الواقع أن تحقق ما تطمح إليه مع الأنثى، وتنتصر لنفسها بالكتابة؛ لذلك يحضر الهوس الجنسى، ليُلبى الرغبات المقموعة، وينحو بالعلاقة فى اتجاه مرضى (الفيتشيه). لدى القاص ولع بالمرأة صاحبة الصدر الممتلئ. لا تكاد تخلو قصة من وصف الصدر المكتنز، والرغبة فى اشتهائه، والهيام بمن تملكه “أن يكون صدرها خلابًا يرجع روعته إلى أنها لم تكن ترتدى حمالات صدر مجسمة تمنحه ذلك القوام الصلب المشدود، بل كارينا سوفت لا تضغطه ولا تتركه مهملًا بل مستريحًا بلا تحفظ فى قوام أقرب إلى الطبيعى…” ص 17. يتعدى الهوس أعضاء الجسد إلى الألوان خاصة اللون الوردى (الفوشيا)، هو لون مبهج صارخ، يمنح من يرتديه الحيوية، والرغبة الجنسية فى مقابل الألوان الأخرى الكابية من وجهة نظر السارد. يُشبع ذلك بأن يمنح شخصياته النسائية ومتعلقاتها ذاك اللون. “الفوشيا موجود فى جميع اللقطات العباءة والوشاح والتوكة وبندانة الشعر والروب وخلفية المطبخ، وجدار الصالون وقماش الفوتيه” ص49، ويسمِّى الجزء الأول من المجموعة “أيام العباءة الفوشيا”. إنه يخلق المرأة المِثال التى من شروطها لون (الفوشيا)، لتنشر حولها الفرح وتتحقق له السعادة، والاتزان النفسى.

الجو الصوفى

تؤرق القاص فكرة البحث، سواء أكان عن الحب أو اليقين، وطرح أسئلة كبرى عن الغيبى والميتافيزيقى، فالمرأة والصوفية عوالم مجهولة. يريد استكناه أغوارهما، وكشف الغامض والكامن وراؤهما، إلا أنه لا يمشى غير خطوة، ويكتفى من الرحلة بالتأمل والتعجب.

فى قصة “صاحب المكان” يحاول الإجابة على السؤال الوجودى الأزلى: من خالق هذه الدنيا؟ وأين يوجد؟ عبر رحلة فى المكان / الصحراء لما توحى به من قداسة ورهبة وجلال، لكن يتضح أنه لكى يصل لليقين والمعرفة لابد أن يتخطى محطات ودرجات كالمتصوفة، ليرقى من حال إلى حال. كما يتخذ من الصوفية ملجأً من ضجيج العالم وماديته، والبحث عن لحظة صفاء روحى. قصة “الرجل بالرداء الأبيض والناى”.. البطل لديه حلم العزف فى معبد مقطوعة من سورة الكهف، والإقتراب حثيثًا من الدينى نازعًا عنه القداسة بحيث يدخل فى المعيشى والحياتى.

يمثل الموت أحد مكونات المتن السردى بالتوازى مع التصوف كعوالم ماورائية فى مقابل حب الحياة والبشر، لتتجلى ثنائية الروح والجسد ..البشرى والإلهى. قصة “مدينة الصمت” يتناول فيها الموت من منظور الموتى، فالرواى ميت يمارس حياته بأريحية، لديه أصدقاءه الملائكة، يثنى على تلك الحياة الهادئة. لا يفزعه سوى الأطفال الذين ينتحرون بسب الذهاب إلى المدرسة ونظم التعليم دون إشارة إلى الموت بكلمة واحدة، ينجح فى خلق الإيهام القصصى، ويحضر الموت بالإيحاء فى قصة “تصريح لزيارة الجدة” تُسجل تفاصيل إنسانية مؤثرة عن أطفال مرض السرطان وكيف يأكل الموت البراعم. القصة مقسمة إلى حركتين. أعتقد أنه كان يمكن تضمين الحركة السردية الثانية داخل الأولى، فنهاية الموقف الأول بموت الجدة أكثر مفاجأة ودهشة.

بالنظر إلى المجموعة ككل: الجزء الأول أكثر بهجة وتماسكًا. يغلب عليه وحدة الموضوع  فى حين تَوزَّع الجزء الثانى على عوالم مختلفة. كان الربط القوى بينها هو العنوان، فتشتت انتباه القارىء .

البناء القصصى

يغلب ضمير المتكلم على معظم القصص. يدور السارد حول فلك الذات عاكسًا همومه الخاصة متخذًا من الذات مرآة يرى فيه آلامه وآلام العالم. بل يحضر بشخصيته فى قصة “صورة حديثة لبريهان” مما يُعزِّز فرضية التسجيل وكتابة اليوميات؛ للإيهام بنفى فعل القص. يُلاحظ أنه لا يعطى أسماء لأبطال القصص، ليس ليُعمم الحالة والتجربة، إنما لأنه مسجون بين أسوار الأنا الواحدة والنظرة الأحادية. على نطاق ضيق استعمل ضمير الغائب؛ حتى يخلق مساحة حيادية وموضوعية، ويوسع أفق المنظور.

تقنية الحلم تشكل بنية غالبية النصوص السردية. فى تلك المنطقة البينية بين الواقع والمتخيل يخلق فضاء النص.

“لا نوم ولا يقظة منطقة وسطى” ص9. يحاول أن يُجمِّل وحشية الواقع بعالم الأحلام المخملى القائم على الإتاحة والوفرة. بطريقة أخرى إذا كان الواقع ضنينَا قاسيًا يمكن الهروب إلى الحلم؛ لتحقيق الأمانى المستحيلة، وتذويب الفواصل بين العالمين؛ حتى يصير الواقع حلمًا والحلم واقعًا. “لا أعرف إذا كان ذلك قد حدث فى هذه الحياة أم حياة أخري” ص24.

كما يستلهم التراث آخذًا منه مفرداته لا أوعيته أو أجواؤه؛ كى يمنح الحبيبة هالة أسطورية تضاهى الملكات فى قصة “الأميرة والرجل من العامة”. القصة واقعية، تدور أحداثها فى العصر الحالي، لا يُرجِعها إلى ذاك الزمن السحيق سوى ثلاث مفردات: الأميرة، والحكيم والرجل من العامة. ربما ليشير إلى أن المرأة هى نفسها ذات الطبيعة المُتقلبة والمتحولة منذ عصر ألف ليلة وليلة. إلى جانب تقنية الاسترجاع والاستباق الزمنى. معظم القصص تبدأ من الحاضر ثم تعود بالزمن إلى الوراء وترتد مرة أخرى.. يحلم السارد بالعودة إلى الماضى مثل طفل يحلم بالرجوع إلى الرحم. بذلك يتسق المبنى والمعنى، ويتضافران فى نسيج متلاحم .

ينبثق من الجو الحلمى كثرة المونولوج، فالذات تحفر فى الداخل، تعرى أحشاءها؛ قد تستريح من البوح والاعتراف وتخفف عذابها. كما حفلت بعض القصص بالحوار الخارجى فى الظاهر بينما هو فى الحقيقة انعكاس لمرايا الذات المتقابلة. بالإضافة إلى استخدام لغة السيناريو عبر تصوير مشاهد بصرية: “المشهد كأنه فى حلم وكوكب لا ترد كأنها ميتة، ورنات التليفون فى السكن تصل إلى فى الاستقبال ولا تسمعها هى، فلا يبقى فى الكادر سوى طبيب أعزل وفتاة ببلوزة بيضاء …” ص 28.

جاءت اللغة عذبة، رشيقة، طيعة، بلا استطراد أو تقشف تناسب فن القصة، حيث تعطى وتوحى دون زيادة أو نقصان، لكن يؤخذ أحيانًا على الحوار تزواج العامية والفصحى بلا مبرر، وعدم تعدد مستويات اللغة ربما لغلبة الذاتية واستخدام ضمير واحد.

“محمد إبراهيم طه” كاتب مخضرم، يمنح قارئه المتعة والقيمة مؤكدًا على معانى إنسانية نبيلة، محاولًا إزاحة القضبان عن الروح قبل الجسد ببساطة آسرة، وحسٍ فنىٍ عالٍ.

________

* شاعر وناقد

مقالات من نفس القسم