يستعيد مشاهد وأحداث وأشخاص وانفعالات كثيرة ولكنه لا يعيشها وكانت هذه الاستعادة هي ما يزيد من آلامه .. كانت تثبت بقسوة حقيقة انفصاله الأكيد عن الماضي الذي أيقن تماما استحالة أن يجربّه كما حدث للمرة الأولى .. يرى نفسه وهو يغادر المدرسة منهارا ومحطما ومتحسرا بحرقة على فشل آخر المحاولات المدخرة التي طالما اعتبرها الأهم والأكبر في تاريخ محاولاته لاستعادة الطفولة والتي كان يؤجلها للحظة وصوله إلى هذا العمر الكبير وهذا الاقتراب المرعب من الموت .. يصعد إلى شقته ثم يدخل إلى الحجرة ثم إلى البلكونة وينظر إلى الشارع الذي كان مزدحما بالناس ثم يخلع قميصه ويغرز أظافر يديه في صدره العاري فيكشف جلده الممزق عن ما يشبه صندوق أو خزانة صغيرة فارغة إلا من زجاجة ( مولوتوف ) .. يمد يده داخل صدره ويخرج الزجاجة ثم ينظر إلى الشارع فيجده خاليا تماما من الناس .. ثم يستيقظ .
سألته عن المتغيرات الضخمة أو الانقلابات الجوهرية في حياته التي سبقت تكرار هذا الحلم والتي ربما ساهمت في خلقه فأخبرني أنه لم يحدث أي شيء عدا أنه كان يستيقظ من النوم في الفترة التي سبقت هذا الحلم وهو يشعر بالخجل …
سألته : من نفسك ؟ …
قال : نعم …
ـ ومن الآخرين ؟ …
ـ نعم …
ـ حتى أقرب الناس إليك والذين يعيشون معك في نفس البيت ؟ …
ـ نعم …
ثم صمت قليلا وقال لي : هم أيضا يجب أن يشعروا بالخجل من أنفسهم ومني …
سألته : لماذا ؟ …
قال : ليس لسبب محدد ومن الجائز لكل الأسباب التي من الوارد أن تخطر في ذهنك أو تحس بها في أي وقت المهم أننا يجب أن نشعر جميعا بالخجل وأن نتصرف بناء على هذا الشعور بأسرع ما يمكن …
ـ كيف ؟ …
ـ أن يكون كل واحد منا بديلا حقيقيا للإله وتجسيدا أمينا له فيشعر ويتصرف بالضبط كما يجب علي الإله أن يشعر ويتصرف !!
أخبرني أن أمرا طرأ عليه منذ فتره أصبح يخيفه جدا وهو أن دموعه أصبحت قريبة للغاية .. قال أن هذا بدأ منذ سنوات حينما كان يستمع لأغنية ( الشوارع حواديت ) وبينما كان ( صلاح جاهين ) يقول :
( الشارع دا كنا ساكنين فيه زمان
كل يوم يضيق زيادة عن ما كان
أصبح الآن بعد ما كبرنا عليه
زي بطن الأم مالناش فيه مكان )
بدأ يشعر بالاختناق الذي راح ينمو سريعا حتى تحول إلى دموع وتشنجات حادة في كل جسمه .. نفس الحالة تكررت بعد ذلك بالضبط حينما كان يتصفح ذات مرة مدونته الإلكترونية ووقعت عيناه على سطور لـ ( فرناندو بيسوا ) كان قد وضعها منذ زمن على ( البانر ) الجانبي للمدونة وبالطبع قرأها قبل ذلك كثيرا جدا ورغم هذا شعر فجأة بنفس الاختناق الذي راح ينمو بنفس السرعة ويتحول إلى نفس الدموع والتشنجات الحادة وهو يقرأ :
( أنا اليوم مهزوم
كما لو أنني أعرف الحقيقة
أنا اليوم صافي الذهن
كما لو أنني على أهبة الموت
لا تجمعني بالأشياء أخوة غير أخوة الوداع )
قال أن هذا ما حدث له أيضا حينما كان يستمع إلى ( Cat Stevens ) وهو يغني
( I know I have to go ) في نهاية أغنيته ( Father And Son ) وحينما كان يشاهد حكاية الكريسماس في فيلم ( Smoke ) لـ ( بول أوستر ) ، وكذلك وهو يعيد قراءة نهاية قصة ( عند الولادة ) لـ ( وليم تريفور ) .
أخبرني أنه أثناء البكاء لا يكون خائفا .. بالعكس .. يكون في قمة الفرح بينما الذهول والمرارة يقطّعان روحه بمنتهى القسوة والبرود .. الخوف يتملكه بعد ذلك .. بعد أن تتوقف الدموع ويخفت الذهول والمرارة .. الخوف العميق الهائل الذي يفسر هذا البكاء على أنه نوع من الاحتضار يقلص تدريجيا وبقوة المسافة التي تفصله عن الموت .
قال أنه يفكر جديا في اتخاذ قرار بعدم طبع كتب ورقية بعد ذلك ونشر أعماله في كتب إلكترونية بعيدا عن وساخات الناشرين ، وأن الزواج أصبح يعني له بعد ست سنوات : ( أن تنام مع المرأة الوحيدة في العالم التي لا تريد النوم معها ) ، وأن الأصدقاء بعد أن تتجاوز الثلاثين هم العقاب الذي تحتاجه العزلة كي تدعم حكمتها وتجدد الطاقة اللازمة لبقاءها أطول وقت ممكن .
أخبرني أن أكثر ما يشغله ويؤرقه هو خطة القدر في ترتيب الموتى القادمين .. إما أنه سيموت أولا أو أن زوجته أو أحد أخويه أو أحد أصدقائه المقربين سيسبقه إلى الموت .. هو يدرك تماما أنه ليس مستعدا ولا مهيأ لأي من الحالتين .. سألني لماذا لا يعود الموتى السابقون أولا ؟! .. لماذا لا يموت القدر نفسه ونبدأ من جديد بدونه ؟! .. صمت للحظات ثم قال أنه يشعر أحيانا بأن الموت لن يكون بهذه الدرجة من البشاعة : ( أنظر من مات قبلي : أمي .. جدتي .. تشيكوف .. اسماعيل ياسين .. فرانك سيناترا .. يانيس ريتسوس .. سعاد حسني .. رينيه ماجريت .. عاطف الطيب .. بيلي هوليداي … هل تتصور أن يكون الموت مؤلما لهؤلاء ؟! .. هل يمكن للموت مهما كانت بلادته ومهما كان عماه وتحجر مشاعره أن يطاوع نفسه على إيذاء كائنات كهذه ؟! .. صدقني موت هؤلاء يجب أن يشعرك ولو قليلا بالاطمئنان لأن العالم الذي ذهبوا إليه سيكون لائقا بهم بالتأكيد وبالتالي فهناك أمل أن يكون لائقا بكل واحد منا وفقا لما يناسبه من السعادة ) .
قال أن أكثر أشكال العلاقات الجنسية متعة وجمالا بالنسبة له تكون مع امرأة يتوفر فيها ثلاث مزايا : أن تكون معروفة بين الناس بأنها في قمة الأدب وغاية الاحترام .. أن ترتبط معك بصلات مشتركة مع مجموعة من الأشخاص المحترمين تتقابلان في حضورهم وتتبادلان الأحاديث العادية وسطهم وأنتما تخبئان بلذة مرتبكة سركما الوحشي .. أن تريدك دائما في كل مرة تكونان فيها وحدكما ألا تدع ثقبا في جسمها إلا وتشرفه بالدخول .. قال أيضا أن أسوأ العلاقات الجنسية تكون مع امرأة تمتلك الثلاث مزايا السابقة ولكن يأتي يوم تسيطر عليك الهواجس والشكوك تجاهها أو ربما تكتشف فعلا أن ما تفعله معك تفعله أيضا مع أحد المحترمين الذين كنت تظن أنها تشاركك استغفالهم فتتحول تلقائيا أنت الآخر إلى محترم كبير .
أخبرني أنه كتب روايته الأولى بنفس الطريقة التي كان سيؤلف بها موسيقى ( الجاز ) وفقا لاقتناعه بما كتبه ( هيدن كاروث ) عنها :
التحرر والانضباط يلتقيان
في النشوة فقط
قال أن أول ما يحضر في ذهنه كلما رأى أيا من شيوخ الفضائيات أن هذا الشيخ يمتلك بالتأكيد قدمين غليظتين وسمينتين وتنبعث منهما رائحة كريهة وهي بالضبط نفس مواصفات قدمي أبيه ونفس رائحتهما التي كان يشمها حينما كان يجبره على الصلاة بجواره وهو صغير وكان يجعله ـ لأن الأب لابد أن يكون الإمام ـ يؤخر سجادته قليلا إلى الوراء في الوقت الذي لم يكن بالتليفزيون أكثر من قناتين أرضيتين فقط .
أخبرني أنه يعلق على جدران حجرة المكتب لوحات ( جين روستن ) التي تعيش بداخلها مسوخ بشرية غاية في التشوه والمرض وتحدق في العالم بمنتهى الرعب والألم ، وأنه يحب أن ينظر إليها كثيرا لأنها تشعره بالبهجة والأمان .
قال أن ( شارلي شابلن ) هو أبرع من جسّد شخصية ( هاملت ) باعتباره كشف عن الوجه الكوميدي والأكثر سوادا بالضرورة من بين كافة الأوجه المحتملة لـ :
( ما كنت أستطيع حمل أثقال الحياة المضنية
وأن أكابد الأنين أو تفصد العرق
لو لم أكن أخاف ما يكون بعد الموت في مجاهل القطر الذي لا يرجع المسافرون من تخومه
فإنه خوف محير يجمد الإرادة
فنؤثر احتمال شر نألفه
على الفرار للذي لا نعرفه )
أخبرني أن أول جملة يقولها بداخله بعد أن يستيقظ هي : ( يوم جديد يبعدك أكثر عن الثمانينيات ) ، وأنه يكره الندوات وحفلات التوقيع لأنه يكره الزحام والتجمعات البشرية التي تصيبه بالارتباك والتوتر نتيجة إحساسه بعدم الامتلاك والسيطرة على المكان والحدث والأشخاص الكثيرين وأحاديثهم الكثيرة المتداخلة التي يشعر بالضياع والتلاشي داخل تعقيداتها الصاخبة .. يكره أيضا تحديق العيون الكثيرة في وجهه كما أنه لا يؤمن بضرورة التواصل المباشر بين الكاتب والقاريء وأن الدعاية فحسب هي ما تضطره للندوة أو لحفل التوقيع بالضبط مثلما تضطره الدعاية إلى الكتابة في مدونته عن السياسة والدين والهم الاجتماعي العام كمناهض عادي للسلطة أو كعلماني عادي أو كناشط عادي في مجال حقوق الإنسان دون أن يدخل أي إله في أي موضوع التزاما منه بالمقومات التقليدية للانتشار التدويني الذي قد يؤدي إلى انتشار قصصه وقصائده عند جمهور الإنترنت العادي المنشغل أساسا بأزماته مع الأنظمة الحاكمة وبتأثيرات السياسة العالمية وقضايا الحريات .
قال أن ( ساحر الصحراء ) ضارة جدا بالخصية وأن ( باولو كويلهو ) في هذه الرواية كان مثل ( فاخر فاخر ) في فيلم ( اللص والكلاب ) .
أخبرني أن الناس في الحلم أسرعوا بالاختفاء من الشارع حينما رأوا زجاجة ( المولوتوف ) في يده لأنهم تصورا أنه كان ينوي إشعالها وإلقاءها عليهم في حين أن رغبته داخل الحلم كانت أن يجعل هؤلاء الناس يشاهدون الزجاجة التي بداخله بوضوح فحسب .
قال لي : أنت بالطبع لست مثل الناس في الحلم .. أنت لن تهرب وتختبيء مني مثلما فعلوا .. أنا أحضرت الزجاجة ووضعت بداخلها البنزين وأدخلت الشريط القماشي فيها ثم جئت بها إليك لتتمكن من رؤيتها جيدا .
فجأة لم يعد يراني أمامه وهنا أدرك كالمعتاد أنني أيضا مثل الناس في حلمه المتكرر وأنني لن أختلف عنهم لمجرد أنني وهو شخص واحد وأنه طوال الوقت بينما يكلمني كان يتحدث إلى نفسه الأمر الذي جعله مطمئنا لبقائي معه في هذه اللحظة .. كان واثقا بالطبع من تأكدي أنه لن يتسبب في أي أذى لي وبالتالي لنفسه ومع ذلك فأنا لا أثق به ولا أضمن النتائج اللامتعمدة التي يمكن أن يسفر عنها كشفه زجاجة ( المولوتوف ) لي بهذا الوضوح والتي أسوأها أن تجد اليد الأخرى البعيدة التي لا تنتمي إلينا في هذا الفعل ظرفا مناسبا لإشعال الشريط القماشي .. لكن على أي حال سيظل الفارق البسيط للغاية بيني وبين الناس في حلمه المتكرر هو أنني حينما أهرب لن أنفصل عنه بل سأختبيء في مكان سري بداخله .