الأسطورة قبل الأخيرة

الأسطورة قبل الأخيرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كان الجد يملي وأنا أكتب، حتى فرغ قبل وفاته بأسابيع من شجرة العائلة، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة استأمننى عليها، وعلى تغذيتها أول بأول، أوصانى بصلة الرحم، ثم أشار لى أن اقترب ، تشبث بكتفّى، وأسر لى بأمنية كان يحبسها فى صدره طوال حياته..

عشت فى بيت جدى حتى بداية الشباب، ولكنه لا يرتبط فى ذهنى بأى من الأحداث الكبرى، فلا أتذكر وقائع موت، ولادة، فرح، على كثرتهم، بيت جدى تستدعيه رائحة الحارة المكنوسة بعد العصر، بعدما ترش الجارات ترابها بالماء رشاً خفيفاً.. صوت مزمار بائع الآيس كريم، الذى كان يعّودنا على نغمة معينة يعلن بها عن مقدمه، يحفظ أسماء كل الأولاد والبنات بالحارة، ينادى علينا بعدما يتغزل فى بضاعته مناديا: “مانجا ياااااااااامانجا”، الولد حافى القدمين دوما الذى يلحس بنهم، وخيوط الآيس كريم البرتقالية تسيح، وتعمل أخاديد من شفته وحتى أسفل رقبته، ومن كفه وحتى بداية عضده، أخاديد لزجة تصلح لصنع البهجة لكل ذباب الحارة، رائحة ملوخية جارتنا التى تتحرك فى شقتها بقميص نوم طرى وناعم، وأنا جالس أمام شرفتها المفتوحة، أشرب الشاى ببطء، وأرفع عينى متصيدا مرورها السريع، أتابع قميصها وأشم ملوخيتها، القط ذو الرأس المبالغ فى استدارتها وضخامتها، الذى لا يعبء بكل ما سبق، يتشمم قطته بشكل عفوي، وهو يمر من خلفها، لكنه كان قد اتخذ القرار.

الجد كان هو حلقة الوصل بيننا نحن أبناء المدينة ، وبين أقاربنا بالقرية، كان أول من اتخذ قرار النزوح للقاهرة، وكما كان سببا فى نشأة ذريته بعيدا عن جذورهم، فقد كان يعلم أنه العامل المشترك بين المدينة والقرية، كان يعرف الجميع، بتواريخ ميلادهم، أسماء الأبناء والأزواج والزوجات، أماكن ومجالات العمل، الجد عندما رقد على فراش الرحيل كان قد عرف كل شىء وجرّب كل شىء، وكان قد توصل لحلول مرضية لكل ما شغل باله فى بداية حياته، الجد توصل لخطة للم شمل العائلة، توصل لأسباب موت الأنثى البكرية بالعائلة قبل بلوغها السنتين، توصل لأسباب كرهنا للقلقاس، وتشبيهنا لثمرته برؤوس الشياطين، الجد علم كل شىء، عدا شيء واحد، ظل يؤرقه، عرفت مقدار عذابه، عندما تشبث بى، وعينيه مليئة بالدموع والوهن، قال بأحرف متكسرة، كم كان يتمنى لو تنجب عائلتنا شاعراً. الجد حاول كثيرا معرفة السبب، لماذا لم تنجب عائلتنا شاعراً واحداً، بالرغم من أنها تضرب بجذورها فى عمق التاريخ؟، قد يبدو هذا شيئا عاديا، فليس مطلوبا من كل عائلة أن تنجب شاعر ، ولكن الأمر قد يبدو عجيبا إذا عرفنا أن عائلات أقل من عائلتنا عراقة ، أنجبت شعراء عظاماً، كما أنها عائلات لا تحتفى بالمجاز مثلنا، فنحن عائلة تعشق الموسيقى، وتدير حواراتها خاصة فيما بين أفرادها بالمجاز، فالرجل إذا أراد إخبار زوجته فى التليفون أن صديقه الذى يقف بجواره سيتناول الغداء معهم ، سيقول لها فقط “عين بصاصة”، وستفهم هى أن غريبا سيأتى، وأن عليها الاعتناء بنظافة البيت، وعمل حسابها على الغداء، الرجل إذا إحتاج خبزاً زيادة، وهو يأكل سينادى، أربع اسطوانات يا ولاد، هكذا طوال الوقت نعمل بالمجاز، حتى أن أحد أجدادى القدامى عندما أنجبت زوجته، أرسل إلى أخيه -الذى كان يعمل بالسودان- برقية، لم يذكر فيها إلا كلمتين فقط.. “عمامة خضرا”

قاصدا بالعمامة المولود الذكر، بينما يصف اللون الأخضر حالة الرخاء التى يعيشونها لوفرة المحصول فى ذلك الوقت..

هل بدا لكم الأمر غريبا، هل توجد عائلة لديها المجاز بهذا الشكل لا تنجب شاعراً واحداً؟، سأقص عليكم الأمر الذى قد يبدو أشد غرابة، وهو أمر حقيقى تؤكده كل الأجيال السابقة بالعائلة، وهو أن الرسالة عندما وصلت للأخ الذى كان يعمل بالسودان، رد برسالة أشد تكثيفا، من كلمة واحدة.. “مبروكين”

هكذا قال الأخ شديد الفطنة، قاصدا بذلك مبروك على قدوم الذكر، ومبروك أخرى للرزق الوفير، هذا الأداء لم يكن فى حينها لافتا للنظر، كان الأمر الطبيعى فى التواصل بين أفراد العائلة، هو المجاز، حتى النكات كانت لا تخلو من دلالات، وفتح لباب التأويل، وإلا كانت نكتة عرجاء، لن تنال استحسان أحد، وسهرات السمر، كان أغلبها حكايات، وأحجيات تحتاج فى فهمها لذكاء لغوى شديد، ومع ذلك لم ننجب شاعراً واحداً، ولم يكن الموضوع يحز فى نفوسنا، ولم يشكل أى مشكلة، فقد كان شعور بالامتلاء والثقة لدى جميع أفراد العائلة، يجعلهم لا يشعرون بأى نقص، تجاه أى نقص بالفعل، خاصة أن عائلتنا تحكمها العديد من الأساطير، التى بالطبع لم نكن نتعامل معها بوصفها أساطير، بل هى حقائق مؤكدة، خاصة لدى الأجيال السابقة، هذه الأساطير دوما ما تداوى جروحنا، وتسد مناقصنا وعيوبنا، بل وتنظم العلاقة بيننا وبين الأشياء وبيننا وبين بعضنا البعض، أسطورة البنت التى لن تكبرإلا بالكاد.. ثمرة البطاطا التى ستصير زهرة أقحوان، الشاعر الذى ينهشه الكلب طوال الليل، لكنها أسطورة الربيع الذى لا يأتى، هى التى كانت تجذبنى دوما، فالترتيب المنطقى للفصول، يلزم بأن يأتى بعد الشتاء ربيع، لكن الأسطورة تقول إن الربيع لن يأتى أبدا، هكذا تقول، وفى رواية أخرى يقال أن اسم الأسطورة الحقيقى الربيع الذى ربما لا يجىء، ولأن لا أحد جرؤ على التجربة، ولا أحدا وقف فى تحد مع الأسطورة، فلم نجرّب، وبالتالى لم نكتشف حتى الآن –فى جيلنا- حقيقة الأسطورة، بخصوص هل “لن”، أم “ربما”، وبالطبع لا يخفى على أحد الفرق الكبير بين الطرحين.

الأسطورة طويلة، وشيقة بالفعل، لكننى أشعر لقربها الشديد من روحى أنها سرى الخاص، من الصعب أن أتحدث عنها هكذا على الملأ، ولكننى ربما لضرورة درامية مضطر أن أحكى عن الجزء الذى يؤكد بأن المصيبة ستحل، وبأن الربيع لن يأتى، أو ربما لا يجىء، إذا أكل رجل أعمى مارون جلاسيه، ونام دون أن يغسل فمه، بينما قط أسود بلا أى علامة بيضاء، يموء بحثا عن الدفء مع قطة بيضاء بلا علامة سوداء، فى ظل اكتمال ضوء القمر..هنا، وهنا فقط لن يأتى الربيع، أو ربما لا يجىء حسب الرواية الأخرى.

الجد بعد أن فرغ من إرسال البرقية، فى ذلك اليوم المطير، عاد والوحل يصل حتى رقبة حذائه البلاستيكى الذى يدخره دوما للأيام المطيرة الموحلة، كان يبدو فيه كرجل إطفاء، وهو يرتديه مدخلا أرجل بنطلونه برقبة الحذاء – لم يثبت أن جدى كان يرتدى البنطلون، كما أننى لم أستطع تخيله بجلباب-، مرتديا فوق رأسه قبعه إنجليزية مستديرة لحمايته من المطر- فالعمامة بالقطع، غير مناسبة للمظهر السابق-، الرجل عاد لمنزله، تناول شايا دافئا بالنعناع، ورفض الغداء، مفضلا النوم. نام بعمق كما لم ينم من قبل، استيقظ بعد المغرب، صلى العصر والمغرب معا، تناول غداءه وخرج ليفاجأ بالقمر مكتملا، والجو فى صفاء، الجد صلى العشاء، وتجاذب الحديث أمام المسجد مع بعض أصدقائه، قرر أن يذهب لشرب الشيشة على غرزة فى أطراف البلد، فالجو جو شيشة فى غرزة أطراف البلد، جميع أصدقائه ذهبوا معه، إلا الشيخ الذى اعتذر لأنه سيذهب لتناول المارون جلاسيه، لينام ويستيقظ مبكرا لصلاة الفجر. جدى فى الطريق إلى الغرزة أطلق إحدى أحجياته التى احتار أصدقاؤه فى حلها، قالوا لو أن الشيخ موجود لكان حلها، فهو أكثرهم ألمعية وأقواهم حجة، رددوا بعض أقواله وتعليقاته المضحكة، شعروا بافتقاده، كان يجب أن يكون معهم الليلة: “يا جماعة الدنيا مطينة، وظروفه مش هتساعده يمشى كل المشوار ده”

وهنا ظهر جدى وكأنه اكتشف فجأة أن الشيخ ضرير، ترك أصدقاءه وجرى إلى بيت الشيخ ليجده قد أكل المارون جلاسيه، ونام. احمر وجه زوجة الشيخ، وهى تنظر للأرض، وتقر بأن الشيخ نام وهو يأكل، وبالتالى لم تفعل هى أكثر من أن سحبت عليه الغطاء، أى أنه لم يغسل فمه، بدا جدى كممسوس، ظل يصرخ، مستنكرا، كيف لم يغسل فمه. أهل البلد كانوا متعجبين من ذلك؛ فالأمر فى الآخر شأن خاص بالشيخ، الذى بالرغم من كل الصراخ الحاصل أمام بيته لم يستيقظ، الجد ظل يحكى الأسطورة، ليخلص إلى أنها ستكون سنة سوداء، لو التمس القط الأسود بلا علامة بيضاء الدفء مع قطة بيضاء بلا علامة سوداء. الجد اعتلى مأذنة المسجد، أذن ليجمع الناس، ظل يستنهضهم، يحثهم على الخروج لمقاومة إغواء أى قط أسود لقطة بيضاء، ولكن ما أن نزل الجد من على المئذنة، وخرج من المسجد، ليجد القط الأسود بلا علامة بيضاء، تحت جدار المسجد، يموء ثم يزمجر، وهو يمسك بالقطة البيضاء بلا أى علامة سوداء من قفاها بأسنانه، هو فى الحقيقة لم يكن يعتليها، فرّق أهل البلد بينهما، وفرحوا معتقدين أنهم بذلك منعوا الكارثة، لكن الجد اختطف فرحتهم عندما أكد أن الأسطورة تقول إن القط بما فعل التمس الدفء مع القطة، وهكذا تقول الأسطورة “التماس الدفء”، وليس المعاشرة الكاملة. شعروا بأن الكارثة محققة، جلسوا على نفس الغرزة يدخنون الشيشة، وينفسون الدخان فى ضيق، فى محاولة لاستدراك الأمر، الجد أعاد على مسامعهم الأسطورة مرة ومرتين، فى محاولة للوصول لمخرج، فى النهاية، ذهبوا ليناموا، وهم متمسكون بالأمل الضعيف فى إختلاف الروايات، فلو كانت الأسطورة تقول عن الربيع “ربما لا يجىء”، فهنا يبقى باب الرحمة مفتوحا فى الاحتمال الآخر، وهو ربما يجىء الربيع. مرت أيام الصيف على بلدتنا عصيبة، وكان هذا الربيع الذى لم يأت هو الربيع الأشهر فى تاريخ بلدتنا، الربيع الذى لم يأت هو الذى انتظروه كما لم ينتظروا ربيعا من قبل، مرت الأيام صعبة على الجميع، ولكنها كانت أكثر صعوبة على جدى، لأنه كان يعرف، وكان أكثر معرفة من الآخرين ومع ذلك لم يستطع إنقاذ البلدة من فقد ربيعها، كانت جدتى كثيرا ما تضبطه مؤنبا لنفسه، وكثيرا- بالرغم من حنقها عليه- ما حاولت التخفيف عنه..  

ما كان يضايق جدى حقا، حتى أنه مات بالكبد، وتقول جدتى أن الحزن هرى كبده، وأنه بالرغم من أنه تحمل وبلدته غياب الربيع، إلا إنه لم يتبين حقيقة الأسطورة، فهل غاب الربيع لأن الأسطورة تقول أنه لن يأتى، أم أن الأسطورة تقول ربما لا يجىء، ولكن قدرهم أن تحقق الجزء الأسوأ من الاحتمال. ما قالت عنه جدتى أنه داء الكبد المهرى، قال عنه آخرون أنه داء الأسطورة، الأسطورة التى تجعل لدى عائلتنا شعوراً بأنهم أكثر معرفة، أكثر مسئولية، وبالتالى أكثر توتراً، ومرضاً، ومع ذلك لم تتخلص عائلتنا من أساطيرها الخاصة، حتى أننى، وأنا أكتب ما كتبت عن جدى الأكبر، فوجئت بأبى يدخل حجرتى، فى اللحظة التى تمر فيها جارتنا بقميصها الطرى الناعم من أمام شرفتها، فى الحقيقة كنت فى قمة تركيزى، وجدته فجأة بجوارى، قرأ ماكتبت، نظر لملابسى، جرى ليتأكد أن لدى أمى كوسة بالباشاميل، عاد إلىّ متهللا، احتضننى، قبّل جبهتى، هكذا فعلها أبى للمرة الأولى ، ثم ترّحم على أبيه وأجداده، تمنى لو أنهم يشعرون بما يحدث، نادى لأمى وقال، إن اليوم تحققت النبوءة، تحققت الأسطورة الأخيرة، قال إنه اليوم يعلن لنا بكل فخر عن ميلاد شاعر فى عائلتنا، وحكى لنا عن أسطورة الولد الشاعر الذى يذكر عظام الأجداد مرتديا “تيشيرتاً” أحمر بينما تطهى أمه الكوسة بالباشاميل، عندما نفيت تماما ذكري لأى عظام للأجداد، أكد أن ماذكرت من سيرتهم، هو ما يعنى “عظام الأجداد”، خرج أبى من حجرتى مرتاح البال، ولم تجرؤ أمى على إخباره بأن الكوسة بالباشاميل، من صنع يد جارتنا، التى غضب زوجها عليها وأقسم على التخلص منها، وبقيت أحمل شعوراً بالندم من أجل جارتنا التى مرت عدة مرات من أمام شرفتها بقميصها الناعم الطرى، ولم أستطع رؤيتها فى وجود أبى.

مقالات من نفس القسم