كان بشعر بالألم ..
غريباً في زياراته المتكررة، جاءه منذ ساعة، غشيما جهولا هذه المرة.
ينخر الألم في عضمه منذ شهور تخطت الثلاثون، صار للوخزات مجاري وقنوات، تبثها العضلات في الساقين من خلف ومن أمام، في سمانته اليسرى، فاليمنى تتمدد الآلآم، تتناوش منذ عامين مضوا، تسكن فتحتى الأنف، بات هناك مجرى يستقبل العدم، وهو غير العوادم السامة، وثاني يستنشق رائحة الدم المتخثر التي زادت في أيامه الأخيرة بعد نزوله للارض الواطئة.
يتقلب في فراشه، يتجاهل أنه مريض، يأتيه خبر المشاجرة، ضربهم لأحمد زغيم، اتفاقهما سويا لقتله أو أقله تعريته أمام جميع الشبيحة وتجار الحشيش، أحمد لاشين يتصل به على محموله، يتأكد مما ذكره من حقائق في مكتب المكافحة فور عودته من القاهرة قبل العيد بليلة، لم يزل بهيبته، يرتدي قميصا أحمر دموياَ وجاليه جلدي أسود طلياني. حذاؤه الردوين يضوى فوق أسفلت الطرقات الطويلة، بات الألم شيئا عاديا، كالصداع لايريد الدخول في متاهات.. علاج وكشوفات وتحاليل، وأشعات، ورقاد وموت لم يأت في موعده.
لا يهم،إن كان معافى أو مريضا ذليلا، هو يكتفي بتسكين كافة آلامه بتعاطي البروفين أقراص بشكل غير منتظم، مرة واحدة، أو اثنتين، ثلاث، وساعات تزيد لخمسة، مع سيجارة الحشيش، يصل به الحال لنفس شعوره الأن ،خدر ليس بلذيذ ، هو أشبه ببخر ، تبخير ، يسير الوخز ببطء دونما تبخر كلي ، هو مسكن بشكل ضبابي ، يشبه حالته بعد تعاطيه لكأسين من المارتيني مع سيجارتين بانجو ونصف قرص ترامادول، وتدريب واع لمدة نصف ساعة على عدم الغياب ولا التغييب.
يسمع في حضرتهم تفاصيل البلد والحكم، يثرثرون ويكتفي هو بالصمت، يتردد كل ربع ساعة على الحمام، ينظر لقعر المبولة، يشعر بدونية ما وبؤس، يرى في المرآة أشباحاَ كثرا. يشبهونه، وخرس يتمدد فايلين، فيتمدد وتطفو الملامح أشبه بعلامات وشواهد قبور في حيز ما من داخل عقله، يخاطب شخوصا ما بداخله، ويضحك وحده في النافذة وقت تركه للقعدة كل دقائق خمسة، كل نصف ساعة، كل ساعة، يطل في الشوارع الخالية، يغالب توتره بتحطيم مشاهد متكررة، ينظر، ملابس مبتلة ترتجف على أحبال بلاستيكية.
الوخزات تتجلى من جديد، يدون في وعيه ولا وعيه في آن، يرسم المشهد بحذافيره، يصور بحواسه، يزيد من حدسه، يتخيل ديكورات المشاهد، بمهارة يخطط للديكوباج، في صور ولقطات ومشاهد وحوارات لايقطعها إلا التركيز، هو المخرج ومؤلف النص الحيوي، هو الممثل .. في الواقع والخيال، وداخل بلاتوه الحياة التي تتكرر استيلاد اشباهها، يحفر جروحه بأنامل لاتخشى الوخز ولا تعير الآلام أدنى اهتمام، ويتكرر كثيرا أن يحدث في اليوم التالي ما تنبأ به. ليلة الأمس في سهرة الدخان الأزرق، أو كرات الحشيش الطليقة، ببطء، وكيف صار حال مقابر الأقباط، الأرثوذوكس والكاثوليك، قريبا من البحر. في البلد الساحلي .
الوخز يستمر، يتذكر أخيه الأصغر والأكبر من الأصغر، هم ثلاث، خمسة، هم عشرة، ستة من الذكور وأربعة من الإناث ، وأخير توفي قبل ميلاده بعام، وقيل استشهد في حرب ما، لايعرف كم كان عمره وقت الحرب، زمن الحرب، تاريخ الاستشهاد، لا يذكر أصلاً من قال هذة المعلومة وأفاض في الحكاية على مسمعه في طفولته، هناك ؟!!
في زمن ما آخر، بعيد في طيات الذاكرة، لايعلم إن كان عاشه حقا، أم رآه في حلم ما أو كابوس، رؤية لعالم، بشر آخرين .على ضفاف أخرى لعالم وعوالم من مدن مرتحلة على الدوام، ليست لها جغرافية محددة ، يجمع سنواته مع الأصغر فالأصغر، مائة وثلاثون عاما واثنين، هم يتشابهون في بعض الخصال ونقاط الضعف والقوة على أرض المعركة إذا لزم الأمر، يتذكر مقولة الأب الجنوبي وتمدد مفاهيم الثأر: عا الجبهة نحن هنا والآن في أوج الهزيمة، قوم يافقري يابن دين الكلاب إإ هيأ سلاحك، علىدين امك أنت وهو وهو.. الكل لازم يشهر سلاحه ويحارب!
بعيد عن ثنائية المشاكسة في الخلق وتسلط قابيل وهياج هابيل هو لا يحبذ النحت ولا الكتابة في هذة المنطقة، الغريب أنه لم ير إلا نفسه في هذه الصور، ماض مؤبد، على هذه الشاكلة والهيئة، ملامح شيطان آدمي، يسير بنور الروح ولهيب رأسه وشعره الأشعث المحترق حتى لحظته هذه، وتلك البثور التي أحالها رشاش ماء النار إلي أخاديد ونقر وقروح وجروح شبه ملوثة لم تلتئم إلا بحرق دماغه وفروة رأسه بروث الجاموس الفار من رعاته بعد الفجر ناحية مقابر الجميل، سيشعل أعواد الثقاب من رأسه الجافة المتجلطة قريبا.. سينير لنفسه العالم، سينير الدروب بمشاعل من صنعه حتى ولو كانت بدائية، غير مستساغة ولا مقبولة عند بني آدم هذا الزمان، سيصنع لنفسه علامات في طريق جديد ، يضاء بحريق رأسه، وكرات النار التي تطييش من دماغه لتسرج ممرات ودهاليز بحكايا تخصه، تعري الوجود وتطهر الذات حتى ولو زاد توحشه، تفاصيل أخرى لعائلته، لايعلمها إلا إياه بعد الرب، تلك النبوءات التي تنتظره في مدينة الأساطير المرئية، يراها كل ليلة في منامه. هو آمن الآن، ليس عنده أدنى شك في وجود مرض ما مزمن، الوخزات تزيد بعد انتصاف الليل بساعتين، عندما يرى وقد القي به في مجرة خرساء، محدد الاتجاهات.. كونا لأهل الصمت والاكتئاب، الفارين من الموت بضحكات السخرية والإستهزاء باعذرائيل، مقهقها كل ليلة وحده. وبعدما ينتهى صديقه رئيس المباحث من رشفته الأخيرة للقهوة المحوجة السحرية..والتطلع سويا لقمر مخنوق منذ ليلتين في سماء مدينة الغبار
…………….
*مقطع من “يوميات البناية”