عبد الرحمن مقلد
ما أتعس هؤلاء الذين يندبون، طوالَ الوقت، ويتباكون علي أحوال الشعر والشعراء! يتوقعون موت الشعر، كأن الشعر أمامهم رهين جهاز التنفس، يوشك الأطباء أن يرفعوا عنه الأنبوب، فيقع صريعاً!
هل يتصورن أن الشعراء تليق بهم عبارات الرثاء والمواساة التي يرددونها علي مسامعهم؟ بل هل من الشعراء من يري نفسه ضحيةَ فنٍ مهجورٍ لا يعبأ به الناس أو لا تراه الجماهير؟
إذن ليذهبوا هم في جنازاتهم الافتراضية، يحملون النعش وحدهم.. يودعون الشعر لمثواه الأخير! وليعودا يبكون كأن الشعراء تاهوا في الدنيا، وتصورا أن الشعر أمهم التي كانت تطعمهم من جوع وتؤمنهم من خوف ماتت!
هذه أمور تستوجب السخرية… فأنا أضحك كلما شيع أحدهم جنازة الشعر.. وبكي غياب جمهوره.. أما ما يضايقني حقاً هو أن أري نظرة عطفٍ تجاه الشعراء، أو من الشعراء أنفسهم، تجاه الشعر، فيجعلونه هشاً متسولاً، ولو متسول “ليكات”، بكَّاء شكَّاء يطلب أو يقبل ما يلقي له كأنهم بفعلهم هذا يتامي الأم.
لا أقبل أن يتعامل أحدهم مع الشعر كأُمِّ تحنو عليه.. بل الشعر هو هذا الأب القاسي الذي يترك أبناءه في أقسي الصحاري ويعود، إن لم يحتملوا رسالته كانوا غذاء الضواري، وإن عادوا نُصبوا أمراء وصعاليك.
الشعر أبٌ يربي أبناءه الشعراء علي القسوة، وعلي الخروج والتحمل والزهد في كل مادة.. فلا يرونه كما يراه الناس مجرد كلماتٍ تقال أو تصويراتٍ تنفض ومهرجاناتِ لغوٍ وصراخٍ تصم الآذان.. ولكن الشعر غير كل هذا، ولديه وظائف وأعمال كبري، لذا يربي أبناءه علي القسوة وحفظ الكرامة، لأنهم حينما يعودون سيرسلهم في مهمات غير سهلة.. سيرسلهم للسير عكس كل الاتجاهات.. عكس الحضارة والمادة وضد الحُكَّام وضد النفوس الميتة وضد البلادة.
سيرسلهم بأجسادهم وأرواحهم وقصائدهم لغايات لا يتقنها إلا هم، ليس من بينها أن يلقوا نصوصهم في ساحات المهرجانات الخربة أو في ملتقيات ينفض عنها الناس ويولون أو يهزأون بمن يلقي قصيدته.. ولكنه يطلقهم بأجسادهم وبإبداعهم ذئاباً منفردة يقفون في وجه الاستبداد.. يحفظون اللغة »الغريبة» بين أهلها، التي تعبت من الركاكات السائدة والاستخدام المجاني.. يغوون المزيد من الحالمين والخارجين.. يبكون إذا كان هناك ما يستحق البكاء.. يفرحون في أوقات الفرح.. يحافظون علي الفطرة كالنبتة البرية.. يبهجون العالم بأكمله إن تعكر صفوه.. يحيون الليالي العامرة.. يصيحون من أجل الحرية.. يصيحون حتي من أجل تجريب أصواتهم المجروحة.. يحلمون بالثورة ويبشرون بها.. ويخوضون فيها.
يقفون ضد أرباب الأعمال وأصحاب الشارات والذقون.. يُسلون المدينة في آخر أيامها.. يجدون وقتاً للأشباح التائهة والخيالات والتقاط ما تساقط من الناس.. يتريثون في المشي.. يراقبون حركة الماء والطير والهواء والموسيقي.. يرتبون الفوضي أو يصنعونها.. إلخ من تعاليم الأب الشعر.
إنهم يصنعون الفارق. يربون شعورهم أو يطلقون لحاهم إن أحبوا. يرتدون الكوفيات والمعاطف الطويلة في وجه كل الموضات والصيحات الحديثة. يحملون الحقائب المكدسة بالأوراق والأقلام. يتدربون علي الرقة والقسوة.. لا تستغربوا مثل هذه الأفعال عليهم لأنهم يؤلفون بين الشيء وضده. يفعلون كل ما هو غير مألوف أو مهجور أو متروك.. يذهب الجميع إلي بيوتهم بينما هم ينتظرون الجَمال علي النواصي وفي الحارات الضيقة وفي آخر الدروب… إنه يأتي دائماً.
لا أضع الشاعر هنا في مرمي نيران الاتهام بالمثالية.. إنه ربما يتلوث.. يتلوث بكل شيء إلا بالسُلطة والجهل والركاكة والأخطاء النحوية والتسول والوضاعة. كيف لذئب منفرد خارج علي كل قطيع، أن يفعل مثل هذا.. كيف له أن يتلمس من أحدٍ جائزة أو مالاً أو حتي طعاماً ولو كان سيموت من الجوع.. كيف يضعف إيمان الشاعر فلا يري أن هؤلاء كلهم أقل من أن ينفعوه بشيء أو يمنحوه صكاً أو اعترافاً إن غضب عليه الشعر.
هذه الصورة التي أعرفها عن الشعراء.. وهذه بعض أعمالهم وصفاتهم بل وبعض أخطائهم ونقائضهم الضرورية لتسيير الكون عكس ما يريد المقاولون والرؤساء والكهنة.. ألم تروا امرأ القيس. الشنفري. تأبط شراً. ريتسوس. رامبو. بودلير. مايا كوفيسكي. أبا نواس. ابن الرومي. أبا العلاء. جميل بثينة. طرفة ابن العبد. بيسوا. أمل دنقل ورفاقهم في كل آن… ألا ترونهم أبناء أب غاضبٍ ساخطٍ دمويٍ حالمٍ.. لم يرض عن أيهم إلا حين عاد بغنيمته الطازجة وسِجِلِ ضحاياه، لم تعكر صفو رحلتهم دناءةٌ ولا خضوعٌ ولا ركاكةٌ.. عادوا ليلتمس لهم الأب مقاعدهم إلي جواره أنداداً له.. لا صبياناً أو فتياناً لديه.
نعم هذا الأب الشعر يعود كل ليلة حزيناً علي أبنائه الذين ماتوا في الفيافي، ولم يعودوا؛ ربما لم يكن لهم القلب أو لا يملكون المراوغة الكافية، ويستطلعون النجم ويقرأون الظلام فضلوا أو ماتوا شهداء التجربة والفرادة.. وحين تأتي القوافل بآثارهم يجلها ويمنحنا قصائدهم لنفرح بهم ونفخر بخطواتهم البسيطة ونلتمس العذر إن قصرت ولم تصل… أما هؤلاء أبناء الدلال الأموي فليحملوا ركاكتهم وخيالهم القريب وأسماكهم الميتة وبطحات رؤوسهم ووجههم المكدس بالكدمات والأخطاء النحوية والدموع، ليحملوا كل هذا لأمهاتهم ليبدلن لهم الحفاضات والجوائز والاعتراف. هؤلاء من يستحقون البكاء عليهم… أما الأب الشعر وأبناؤه الفرسان فلديهم مهام أخري وهم لا يموتون ولا يعرفون مسارات الجنائز.