عبدالوهاب عبدالرحمن
الشاعر عبدالرحمن الأبنودي أحد أهم رواد شعر العامية وقف تجربته لمصر فصولا وأحداثا ومواقف توالت على امتداد تاريخها القريب فكان يروي بالشعر سيرة وطن، فعد سفيرا أمينا لنقل حضارته وموروثه الشعبي، مجتمعا ديناميا في حالة صيرورة تتفاعل مع معطيات الماضي والحاضر، واقفًا بقامته المهيبة في مفاصل فارقة معبرا عن أسئلة عديدة تثيرها أزمات ومنعطفات حادة عصفت به وبشعبه.. ومصر باعتبارها فسيفساء كونية؛ بؤرة التقاء لفنون وأفكار وتيارات استطاع أن يستوعب أبعادها في نصوص ويعرضها عبر حوارية تعالقت فيها قيم جمالية واسئلة فكرية عالجها باقتدار بمزج اليومي بالفلسفي عبر خواطر مشحونة بعاطفة جياشة وعقل بارد وجدل لغوي/ فني افاد من التراث الشعبي وفنونه المتعددة ليصبح من اقدر شعراء العامية على إزالة الحواجز بين الواقع المعيش واسلوب التعبير عنه شعريا في وحدة واحدة يتعذر معها فصل الكلمة الشعرية عن مواضع دلالتها الواقعية وهو أكثر الشعراء تحاورا مع الواقع بكل معطياته ووقائعه وأزماته بأسلوب فيه انسجام جعله متآلفا مع المختلف والمغاير في تركيب مقاطع شعره في وحدة تجمع متناقضات وتمهد لمقتربات تملأ فضاء النص ثراء وتنوعا.. والعامية كلمة وأداء صوتي لمن يجيده، ليحيل الكلمات إلى علامات صوتية إيقاعية تفجر المضمر من الأحاسيس والمشاعر بكل محمولاتها الدلالية وهواجس التحديث، وهذه لا تختلف عن شعر الفصحى فالتياران متوازيان في اداء مهمتهما لكشف الحقائق والتعبير عنها كل بأسلوبه عبر لعبة جدلية تحرض وتدعو إلى الفهم والتغيير ونص “اشمعنى بكره” يفيد في تحقيق هذا الهدف الجدلي حين يعرض للإنسان في حالة اشتباك مع واقع يتأرجح بين “حقيقة الحواس” و”وهم الحواس” في تداخل يتماهى فيه ما كنا وما سنكون هذا التغيير يمثل صراعا بين وهم يمثل واقع الحلم وحلم الواقع متأثرا بأيديولوجية يكون فيها فعل الوجود ضد فعل النفي.. لأنه ينتصر لقضايا الإنسان عبر هدف فلسفي يدعو إلى التغيير والتحول.. على مبدا فكري لا يكتفي بتفسير الواقع بقدر دعوته للثورة عليه.. والإنسان محورا لهذا الفعل لأنه يمثل حركة التاريخ وهو جزء حيوي منه متحكما في صيرورة وجوده بقوة ارادته فهو الوسيلة والهدف.. والعامية اقرب لغة للتواصل مع حركة التاريخ بأسلوبها المشحون بالوجدان وبلاغة التعبير وايحاءاته ومجازاته بما يوازي الفصحى إلا أن ميزتها في سعة وعمق تواصلها مع جمهور من المتلقين شعوريا ووجدانيا باعتبارها ظاهرة صوتية متنوعة الاتجاهات مستوعبة لمحاور أكثر وافاقا اوسع واعمق لقطاع عريض من عامة الناس بمختلف اطيافهم ومشاربهم.. فضلا عن ثرائها الاسلوبي في الاداء الشفاهي التأثير الانفعالي مما يقوي اثر الكلمة ونفاذها تفجيرها للمشاعر وبالتالي فهي الاقرب إلى المزاج العام.. ونص ” اشمعنى بكرة ” نموذج حي يثير الكثير من الاسئلة الوجودية ويعرض لإشكالية واقع يدعو إلى التغيير:
اشمعنى بكرة
اذا كنت قادر اصنعو اليوم ده
فايه لزومو الانتظار للغد
واذا كان سؤالي جوابه بايدي
اشمعنى بكرة راح يجيني الرد
واذا كنت عارف قوتي وضعفي
استنى ليه اخذ نصيحة حد“
والنص يدعو ويحفز إلى واقع (الآن) والتأمل في حيثياته بين اليوم وبكره ويحفز أيضا إلى التحول العملي باختزال زمن التحقق (الآن) محذرا بان الارادة قد تضعف اذا أساءنا اختيار اهمية زمن (الآن) وكانه يرى بان الفرق الزمني الذي يفصل اليوم عن بكره هو فرق قدري لا يستقيم مع ارادة الإنسان الحرة، ليطوي ازمانا واماكن واقدار هي من مهمة عمل الإنسان.. . والنص يدفع باتجاه التوق لتجاوز الواقع ؛ حتى لو جاء بصورة (حلم) فلا بد من جدلية التفاعل بين حدث اليوم وما سيحدث (بكره) فلتكن الازمان واحدة دون فواصل ليبقى فعل التواصل هو الحلم في صورة تحققه الفعلي الواقعي فلا حدود معطلة او فاصلة ليبقى الامل شبابيك مفتوحة ابدا:
” فالحلم ملئ العين، والحلم حلم وبس
واهي خانه لولا تخلي الحلم له ميت عيش
تشوف حياتنا يشوفها ويانا
نقطعها مشاوير صبح بقلوبنا نمشيها
يفرش حلمنا ويتحد
أحلام وسيعة بوسع خطوينا
أحلام لا تتقيد ولا تنحد
أحلام بضحكه وصبر وعيون شايفه
أحلام نغنيها فضاءها يعاود
يفرش طريقنا بالندى والورد.
ويستمر هذا الصراع بين وهم الأحلام وحقيقة الأحلام، بين من تغيب عنه ارادته ولا يكون فاعلا في حياته فاقدا صيرورة وجوده، فلا بد من أحلام حقيقية او يحيلها إلى واقع فاعل وخلاق ومنتج.. ليعود إلى واقع تحقيق الحلم ” اليوم ده “.
” واذا الحلم كان يتحقق اليوم ده
فايه لزوم الانتظار للغد
في كل قلب الحلم متعطش
مين اللي يسقي الحلم إلا انا
وحين يفتح وردنا فينا
وصدورنا جوه صدورنا عطشانة
ولو نطقنا الكلمة بلسانا
منين هتبقى الكلمه طايلانا
ناخذها امتى وراها كلمتنا
واذا ما مشيناش والكلمه جوانا. “
وما يلي من مقاطع هي استجابة فاعلة للتحدي لكل ما يعوق الطريق حتى” وان وكفك في السكة بحر معاند اضرب عصايتك جوه موجو وشك” هي تحد لكل ما يهدد كيانك وحريتك وأمانيك.. والتحذير يمتد للدفاع عن مكونات وجودك الحر وهو يتشكل بقوة التحدي او يتهدم بضعفه.. فجاءت المقاطع قوية هادرة باحتفالها بوجود جديد مشرق واحتفائها بالإنسان صانع قدره ضد كل انواع الظلم وكل اشكال الضعف والخنوع:
” افتح شبابيكك يا شعبي يا صابح
صبح على اليوم الجديد بالبق
قطع ذيول القوه وازرع صوتك
على الروابي والبحور الزرك
حارب طلاسم. نيتك واملاها
شبابيك واطلع بالحياة للحب
وانزع حقوقك من ظوافر يومك
صارع وكافح وامشي وزك
وان وكفك في السكه بحر معاند
اضرب عصايتك جوه موجو وشك
عمر الاماني ما تبني حيطه مايله
ولا العلالي تتصعد بالبك
توكف الحياة إلا اذا احنا مشينا
ولا السنين من غير عمل تتعد
ولا البيبان من غير ايدين تتفتح
ولا البيبان من غير ايدين تترد
واذا كنت قادر اعملو اليوم ده
فايه لزوم الانتظار للغد
واذا كان سؤال جوابه بايدي
إشمعنى بكره راح يجيني الرد “
وتبقى اشكالية اللغة الشعرية (الفصحى والعامية). ورغم أن ” كبار النحويين والادباء القدماء، لم يتحرجوا من التنويه بالإمكانيات البلاغية والدلالية التي تشتمل عليها العامية ” ولم اجد وصفا ابلغ مما قدمه الدكتور صلاح فضل عن الأبنودي الذي ” أعاد توظيف اللهجة العامية المبتذلة عادة ليكتشف احلى وأندى ما فيها من نغمات، ليفجر شعريتها الكامنة ويجسد امكاناتها في الترميز واللعب الحر. ” والابنودي نحا منحى الرومانسيون، ولكنه اختلف عنهم بتقديم الواقعي على المثالي والمنطق على العاطفة رغم انه تداول في نصوصه رموزا تثير في الإنسان اغرب الاحاسيس باندماجه مع عناصر الطبيعة ومكوناتها وتوظيفها كدلالة شعرية تؤكد عمق التماهي بين الشاعر وما تثيره الطبيعة من تجليات تتمثل في صور تعمق تأثير فعل الترميز وهو يستوحي من مكونات الطبيعة ما يحقق اغراضا جمالية تضفي على الشعر اعماقا دلالية تؤكد أن اللغة مهما كان مصدرها وينابيع الهامها هي للشاعر غاية على عكس المفكر الذي يتخذها وسيلة. والشاعر لا يملك إلا لغته للتعرف على الوجود واكتشافه.. ويتفق الأبنودي مع الرومانسيين على مجاوزة التقاليد والقواعد ” والتركيز على التلقائية والغنائية والتعبير عن الأحلام والكوابيس والغموض احيانا ” وهو خير من وصل العامية بالفصحى وارتقى بها (لغة) وليس (لهجة) واضفى عليها بلاغة الفصحى وبيانها وموحياتها ليوسع فضاءاتها الدلالية ويعمق قدرتها على الترميز وجمال التعبير وإيقاعاته الآسرة وهو ينشد قصائده بحس درامي ينوع إيقاع المعنى بما يتفق مع مشاعر الكلمة ومعرفة وقعها على المتلقي.. فيكون للمعنى صوته وصداه واثره الادائي في توصيل المعاني وظلالها.. ويصبح للكلمة علاماتها الصوتية مفجرة المضمر من الاحاسيس والمشاعر لتكتمل شاعريتها ولتضاعف من قيمتها.. ونصوصه تجمع بانسيابية بنية الصوت مع بنية المعنى ليتفرد بما لم يسبقه من اجتراح أسلوب ادائي له وقعه في المتلقي وهو يراوغ في قدرته الادائية وتنوع موجات الصوت وهي تتناغم مع طبقات المعاني تدمج الشاعر بمتلقيه بفيوضات تأخذنا إلى تأملات تتخطى السياق المألوف بطاقات سحرية لا يدركها إلا الشاعر ولا يستنطق إشراقاتها وضلالها العذبة إلا هو واحيانا يغرق قصائده وهو يلقيها بأشواق ولوعة ومرارة تثير مشاعر شتى منها السخرية من مدعي الفهم والأفاقين من المشتغلين في مجالات الثقافى وغيرها ودوننا هذا المقطع الذي يشبه أسلوب الشذرات وهي قطعة ساخرة فيها تلاعب لفظي شديد الوضوح والقصد:
” داير يبيعنا للترك والفرس
ومافيش بيعة مالهاش عمولة
بيقولوا ( دا ) اللي راح يفتح القدس
لاهي القدس يا ابني كوكا كولا. “
والابنودي مثل على امتداد تاريخه الشعري محورا فاصلا وفاعلا ومؤثرا في الوجدان الشعبي بتنوع أغراضه الشعرية على عدة مستويات وطنية وعاطفية وقومية.. ويصفه الدكتور صلاح فضل بأنه “أقرب الأصوات وأقواها في تمثيل الضمير الشعبي والثقافي معا. ” ولنتأمل فيما كتبه عن القدس الشريف قضية العرب المركزية.. والذي يعدل في تأثيره وقوته ابلغ بيان إدانة للصهيونية في احتلالها لفلسطين مقرونة بحياة سيدنا المسيح ( ع ) الذي ولد وعاش وتوفي ورفع من الأرض الطاهرة.. واستعرض الأبنودي بأسلوب جمع فيه كل المؤمنين برسالة المسيح وما لاقاه من تنكيل اليهود واتخذه رمزا لفلسطين الجريحة وليكون فيما بعد رمزا لغزة وعذابات أهلها وما أحدثه القصف الصهيوني من تدمير طال كل منشآتها المدنية والخدمية والاقتصادية:
” يا كلمتي لفي ولفي الدنيا طولها وعرضها
وفتحي عيون البشر للي حصل على ارضها..
على ارضها طبع المسيح قدمه
على ارضها نزف المسيح ألمه
والنص واضح في بيانه، وستبقى كلمته تدور بين مآسي فلسطين وغزة لتعلن ضياع الحقوق وتعزي الأمة في هزائمها وأزماتها التي اسقطت ظلالها الثقيلة على الحياة العربية كلها شرقها وغربها:
” تفضل تضيع فيك الحقوق
لإمتى لإمتى يا طريق الالام
.. وينطفي النور في الضمير
وتنطفي نجوم السلام. “
والابنودي المحب لوطنه وشعبه مثله مثل اقرانه من شعراء اليسار، امثال بابلو نيرودا والعراقي سعدي يوسف، وشاعره الاثير الشاعر التركي ناظم حكمت الشديد التعلق بوطنه والذي رثاه الأبنودي في قصيدته ” ناظم حكمت “وهو الذي يصف علاقته بوطنه: “لو وضعوا الشاعر في الجنة.. . لصاح: آآآآه يا وطني” كما يصف مأساة غربة منفاه في موسكو: “يا وطن لم يبق لدي منك سوى الشيب في شعري، ما عندي منك غير خطوط من الهموم تعلو جبهتي “.. هذا الشاعر يرثيه الأبنودي ويفتتح نصه بسؤال استنكاري:
” واحد ومات
حاجة بتحصل كل يوم
وان يسالوكم في الحارات ده نعش مين؟
مطو الشفايف في الطريق
ما تصرخوش ولا تقلقوش نوم البنات
ردوا في سكات
واحد ومات “
ولا يستطيع إلا أن يعلن احتجاجه لذلك التجاهل.. ويسأل معاتبا بمراره وألم:
” واحد؟ ده واحد ده؟
ده شعب
ده رب سجن الارض والبلاط
وكان بيعشق كل بيت
وكان بيكره ( البلاط )
ويعشق المشيه على الصراط. “
ويجيد شاعرنا اللعب وفنون التورية بين بلاط السجن وما يخلفه من امراض تبقى تلازم السجين حتى ولو استعاد حريته المشروطة، (والبلاط) بمعنى السلطة الغاشمة التي تقمع وتضطهد الفكر وتصادر حقوق من ” يعشق المشية على الصراط “. ويستمر بوصف معاناة حملة الفكر وما يعانون من آلام السجون:
” مرمي في زنزانة في ظلال أزمير
لكن يطول بايديه نسيم النيل
ويصحي بربابته غابات افريقيا
ويلم في ضلوعه ثلوج سيبيريا
ما توحدوه يا ناس
ده واحد ده؟
وازمير مدينة تقع في اقصى غرب تركيا.. عرفت بأنها من أجمل مدن السياحة والاقتصاد لأنها ميناء.. ومناخها معتدل مما جعلها منتجع سياحي.. والمفارقة أن ناظم حكمت اودع السجن في هذا المنتجع السياحي.. مما يعمق مأساة هذا الشاعر الذي حرم من التمتع بأجمل مدن في وطنه تركيا وقد عرفها سجنا رهيبا له وهو العاشق لوطنه.
والأبنودي يحرص على التذكير بالبعد الاممي للفكر وهو يدور في المحور ذاته بتصديه للصراع الطبقي وكل انواع التمييز الفكري والعرقي.. وكلهم معني بالإنسان كمحور اساس.. وناظم حكمت نموذج للشاعر الذي يدعو إلى الى التضحية من اجل الإنسان بقوله: ” إذا لم احترق أنا ؛ ولم تحترق انت، فمن ينير الطريق. “ويستلهم الأبنودي من هذه المقولة وصفا يجعل من ناظم رمزا في حب شعبه بحرق نفسه ليضيء طريق الحق:
” ويترمي النوار على النوار
والناس تاكلها النار
يستاهل الراجل الشهم النظيف الايد
اللي يولع نفسه ليلة العيد
ياما في بلدنا ناس كثير بتعكر
وغيرها تجي تصيد. واحد؟
ده واحد ده يا هو؟. “
تنوعت اساليب الشاعر عبدالرحمن الأبنودي طبقا لما يعرضه من اغراض شعرية.. وانفردت ببراعة لغويه تصف ما تراه بشاعرية أخاذة، متماهية مع تجترحه من دلالات تشي بما هو ابعد من المحسوس.. وقد ينطبق عليه القول.. الشاعر الحقيقي:” أن يفكر كإنسان حكيم، ويكتب كإنسان بسيط. ”