اغْتِلامَاتُ جَسَدٍ لوَّحَهُ الشِّعرُ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ذِيَاب الشَّاهين

يقولُ أدونيس حولَ زمَنِ الإبداع : " إنَّ زمَنَ الإبداعِ وَاحِدٌ ، مَهْمَا اخْتلفَتْ الأمكِنَةُ ؛ لأنَّه زَمَنٌ عُمْقِيٌّ وَليسَ أفقيًّا ، زَمَنٌ شَاقوليٌّ ، وَليسَ خَطيًّا " . إنَّ الزَّمنَ العمقِيَّ الَّذي يقصدُهُ أدونيس هو زمَنٌ عموديٌّ تاريخِيٌّ أوْ دايكرونيّ حسب دي سوسير ، وهو يتمظهَرُ بصورَةٍ توالديَّةٍ ؛ فالنَّصُّ الأوَّلُ يتبعُهُ ثانٍ ، وَهَذا وَسَابقُهُ يتبعُهُمَا ثالثٌ ، وَهَكََذا ؛ لِذَا فالنَّصُّ المُعاصِرُ مُحَصِّلةُ سِلْسَلة تاريخيَّةٍ منْ النُّصوصِ الذَّائبةِ وَالمُغيَّبَةِ فيْْه ، وَهَذا مَا تُفْصِحُ عنْهُ التَّناصَّاتُ ، وَالتطوُّرُ الأسلوبيُّ كِتابيًّا ، وَالأسلوبُ تتبعُهُ انشِطَارَاتٌ ، على مُسْتَوَى صَوْتِ المُفْرَدةِ وَصَرْفِهَا ؛ وَمِنْ ثم بناء الجُملةِ نحويًّا ، والأخيرُ يُتوَّجُ بانزياحَاتٍ دلاليَّةٍ على مُسْتَوَى المُفْرَدَةِ ؛ قاموسِيًّا أوْ بنائيًّا ، على مُسْتَوَى الجُمْلةِ .

وَإذْ يبدو أنَّ أدونيس قدْ انتهَى صُوفيًّا ، على مُسْتَوَى الأدَاءِ ، وَخُصُوصًا في كتاباتِهِ الأخيرَةِ ؛ فهَذَا يعنِي أنَّه انتهَى عموديًّا (تاريخيًّا) ، مُتطابقًا مَعَ جُذورِهِ الشَّرقيَّةِ ، اعتمَادًا على حقيقةِ إنَّ التَّصوُّفَ قدْ نشأ وَتَرَعْرَعَ في الشَّرقِ العَربيِّ ، تُصَاحبُهُ قائمَةٌ منْ المُتصوِّفينَ الشُّعرَاءِِ وَالنُّثَّارِ ، يقِفُ على رأسِهِمْ الحَلاَّجُ ؛ الَّذي حَجَزَ له مكانَةً فريدَةً ، على رَأسِ هَذِهِ القائمَةِ ، وَهَلْ يُمْكِنُ أنْ ننسَى جُمْلَتَهُ الخَالدَةَ ؛ الَّتي قالَهَا عندَمَا مَسَحَ السَّيَّافُ وَجْهَهُ بسيفِهِ المُلْتَهِبِ ؛ ليتدفَقَ الدَّمُ بعُنْفٍ غاسِلاً وَجْهَهُ ، حَيْثُ قالَ في حِيْنِهِ :

” هَذَا دَلالُ الجَمَالِِ “

إنَّ التَّصوُّفَ يحتلُّ أقْصَى اليَمِينِ ، إذَا جَازَ لنَا التَّعبيرُ ، وَاليمِينُ بالمَعْنَى الإسْلامِي ” كِتَابُهُ بيَمِيْنِهِ ” ، هُوَ غيْرُ المَعْنَى السِّياسِيِّ المَقِيْتِ في الشَّرقِ العَربيِّ ، وَهَذا نابعٌ منْ حقيقةِ إنَّ التَّصوُّفَ يُحِيلُ إلى حَالةٍ عرفانيَّةٍ هيَ الحُضورُ أوْ اسْتِحضَار المُقدَّسِ ” التَّجلِّي ” ؛ وَمِنْ ثمَّ الفنَاءُ فيْهِ عنْ كلِّ شَيءٍ ، وُصُولا إلى مَعرفتِهِ ” تَوْحِيْدِهِ ” ؛ باعْتِبَارِهِ الوجُودَ الحَقَّ ، وَهَذَا يتسَاوقُ مَعَ درجَةِ استنباطِ رسُومِ الشَّريعَةِ وَعقائدِهَا ، إنَّ الدِّينَ وَالسِّحرَ وَالتَّصوُّفَ وَالشِّعرَ ، وَإنْ تبدو مُتَعَارضَةً إلاَّ إنَّ منبعَهَا وَاحدٌ ؛ ذلكَ هُو ” الاستبطَانُ ” أوْ ” الوَحْيُ ” في الدِّينِ ، وَ” الحَدْسُ ” في الفلسَفَةِ ، وَ” الجِنُّ ” في السِّحرِ ، وَ” الإلهَامُ ” وَ” الشَّياطِينُ ” في الشِّعرِ ، وَ” الاتِّحَادُ ” وَ” الفَنَاءُ ” في التَّصوُّفِ ؛ إذنْ فلا غَرَابَةَ أنْ نجِدَ مَنْ يُقرِّرُ أنَّ : الكَاهِنَ وَالمَجْنُونَ وَالشَّاعرَ وَالسَّاحرَ كَانُوا وَثيقِي الصِّلةِ بعضهم ببعضٍ ، بحُكْمِ كَوْنِهِمْ هَمْزَةَ الوَصْلِ بيْنَ عَالمِ الرُّوحِ وَعَالمِنَا هَذَا .

وَعلى أقْصَى اليَسَارِ تقومُ السِّرياليَّةُ ؛ وَهِيَ حَرَكَةٌ غربيَّةٌ ، نشَأتْ على يدِ أندريه بريتون وَأصْدقائِهِ ، وَتدعو إلى تحريرِ الفِكْرِ وَتجاوُزِ العَقلِ وَالنِّضَالِ ، ضِدّ الأفكارِ وَالقِيمِ المَوْروثةِ ؛ حَيْثُ اختارَتْ الحُلمَ كسِلاحٍ ؛ فضْلاً عنْ اللاوَعْي ، وَالكتابَة الآليَّة ؛ الَّتي تتطوَّرُ ذاتيًّا ، تاركةً اليَدَ تتحَرَّكُ فوْقَ الوَرَقِ ، وَقدْ أدْخَلَ السِّرياليَّةَ إلى مِصْرَ الشَّاعرُ والكاتِبُ : جورج حنين ، وَقَامَ بتأسِيسِ جَمَاعَة ” الفنِّ وَالحُريَّةِ ” ، في عام 1937 ، انطِلاقًا منْ الأفكارِ السِّرياليَّةِ ، ثمَّ هُنالكَ مجلَّة ” حِصَّة الرَّملِ ” ، وَهِيَ المُمَثِّلُ الرَّسمِيُّ للسِّرياليَّةِ في مِصْرَ . إنَّ السِّرياليَّةَ هِيَ اسْتدعَاءُ اللا حُضورِ أوْ غِيَاب المُقدَّسِ المُتعَالِي  أوْ تغييبِهِ وَإنكارِهِ ؛ أيْ إنَّهَا حَالةُ غِيَابٍ ، وَهِيَ نقيضُ الحُضورِ أوْ الاسْتِحْضَارِ الصُّوفيَّةِ ، إنَّ الغيَابَ وَالحُضورَ هُمَا صِفتَا المُقدَّسِ المُتَعَالِي ؛ الَّذي يتوَاجَدُ أوْ يكونُ في مُلتقَي الأقْصَيينِ : الصُّوفيَّةِ وَالسِّرياليَّةِ ، إنَّ اصْطدَامَهُمَا ؛ أيْ اصْطدَام حَالتيْ الحُضورِ وَالغيَابِ ، يُنْتِجُ اللامَعْقُولَ .

إنَّ السِّرياليَّةَ هيَ الحُريَّةُ المُطْلَقَةُ عِندَ سلفادور دالي ؛ حَيْثُ يقولُ :

” أنَا أرْفُضُ الانتِمَاءَ إلى أيِّ شَيءٍ ، أنَا السِّريَاليُّ الوَحِيْدُ ، غَيْرُ المُنْتَمِي .”

ثمَّ يقولُ أيضًا :

” إنَّ المُلتَزِمِيْنَ هُمْ الخَدَمُ ، وَأنَا أريدُ أنْ أبْقَى سَيِّدًا على الدَّوَامِ .”

فالسِّرياليَّةُ عِندَ دالي تجمَعُ مَا بَيْنَ نقِيْضَيْنِ ؛ هُمَا القَدَاسَةُ وَالتَّهريجُ ؛ لِذَا يُطالِبُ مُحَاورَهُ الآن بوسكيه بألاَّ يدعوَهُ بهلوانًا ؛ بلْ أنْ يدعوَهُ  ” دالي المُقدَّس ” ، كَمَا يرفُضُ أنْ ينظُرُ إليْهِ كمهرِّجٍ ؛ حَيْثُ يعتقِدُ أنَّ ثمَّةَ فرْقًا دقِيقًا بيْنَ المُهَرِّجِ وَالبَهْلَوَانِ ، لا يُمْكِنُ أنْ يُلمَحَ بسهولةٍ .

وَلكنْ مَاذَا عَنْ اللغَةِ ؟ ، إنَّ اللغَةَ بوَصْفِهَا أداةً بيدِ الشَّاعرِ ، تُمثِّلُ إشكاليَّةً كبيرةً لدَى الشَّاعرِ وَاللغَةِ نفسِهَا ، كيفَ ؟ ، إنَّ إشكاليَّةَ اللغَةِ عندَ الشَّاعرِ القديمِ تتمثَّلُ في موسِيقاهَا أوَّلاً ، وَدلالتِهَا ثانيًا ، وَقدْ يكونُ للجَانبِ المُوسِيقيِّ دَورٌ أكبرُ مِمَّا للدَّلالةِ في هَذِهِ الإشكاليَّةِ ؛ لارْتباطِهِمَا بالإيقَاعِ ، وَمِنْ ثمَّ بالوَزْنِ ؛ كصُورَةٍ صَوتيَّةٍ هندسِيَّةٍ ، تتكرَّرُ بأعْدَادٍ مُتناسِبَةٍ على مُسْتَوَى البيْتِ ؛ كصَدْرِ وَعَجُزٍ ، في الشِّعرِ الكِلاسِيِّ ، أوْ بأعْدَادٍ مُختلِفَةٍ في كلِّ شَطْرٍ ، على مُسْتَوَى شِعْرِ التَّفعِيلةِ ، وَلكِنْ في الشِّعرِ الحَديْثِ أوْ قصيدَةِ النَّثرِ، تنكفِئُ المُوسِيقَى للوَرَاءِ كإيقَاعٍ ؛ حَيْثُ يعمَلُ المُورفيمُ كوِحْدَةٍ إيقاعيَّةٍ على خَلْقِ إيحائِهِ كصُورَةٍ بَصَريَّةٍ ، وَليسَ مُؤثِّرًا سَمْعِيًّا ، فيُحِيلُ إلى شَبكَةٍ منْ العِلاقاتِ المَادية ؛ حيْثُ تقومُ الجُملَةُ بدورٍ خَطيْرٍ في إنتَاجِ شِعريَّةِ هَذِهِ النُّصوصِ ، وَالشِّعريَّةُ هُنَا تَعْمَدُ إلى تثويْرِ اللغَةِ وَإنشَاءِِِ عِلاقَاتٍ جَديدَةٍ ، تتوسَّلُ الاسْتِخْدَامَ الحَاذقَ وَغَيْرَ العَاديِّ لملفوظاتِ اللغَةِ نفسِهَا ؛ حيْثُ يكونُ للانزياحِ دورٌ كبيرٌ في إنتاجِ هذِهِ العِلاقَاتِ . إنَّ عَزْمَ الشَّاعرِ المُحْدَثِ أنْ يُفْرِغَ مَعَانيه في وِعَاءِ اللغَةِ ، أوْ لنقُلْ المَعْنَى إلى القَارئ أوْ المُتلقِّي ، باسْتِخدَامِ أبنيَةِ اللغَةِ ، يُمثِّلُ إشكاليَّةً أخْرَى ، منْ أسْبَابِها القَارَّةِ اللغَةُ ذاتُهَا ؛ فالمَعْنَى الأدَبِيُّ يتشظَّى إلى مَعَانٍ ، وَالقَبْضُ نحويًّا على مَعْنَى معيَّنٍ تتبعُهُ تشْظِيَةٌ للمَعْنَى نفسِهِ دلاليًّا ، سببُهَا الانزياحَانِ : الزَّمَنِيُّ وَالمَكَانيُّ لهُ ، وَهَذا مُرتبِطُ بالحقائقِ العَمُوديَّةِ (التَّاريخيَّةِ) للغَةِ ، وَكذلكَ لحقائقِهَا الأفقيَّةِ (التَّزامُنيَّةِ) منْ جِهَةٍ أخْرَى .

إنَّ المُقدِّمةَ أعْلاهُ ؛ كمِهَادٍ نظريٍّ للصُّوفيَّةِ وَالسِّرياليَّةِ وَاللغَةِ ، يبدو ضَروريًّا ، لمُتابعَةِ تجربَةِ الشَّاعرِ المِصْريِّ شريف رزق ، منْ خِلالِ مُنْجَزِهِ الشِّعريِّ ؛ الَّذي تمخَّضَ – حتَّى الآنَ – عنْ ثلاثَةِ دَواويْن شِعريَّةٍ هِيَ : ” عُزْلَة الأنقاضِ ” 1994، ” لا تُطفِئ العَتْمَة ” 1996، وَأخِيرًا ” مَجَرَّة النِّهايَاتِ ” 1999 ، وَعلى الرَّغمِ منْ أنَّ تأطيرَ هذِهِ التَّجربَةِ ، وَمنْ ثمَّ تشْرِيحهَا ، سيكونُ عَسِيرًا ، في مُقاربتِنَا هذِهِ ؛ لأنَّ التَّجربَةَ في طَوْرِ النّموِّ وَالتَّكامُلِ ، على الرَّغمِ مِنْ تميُّزِهَا الأدائيِّ ، وَاشتغَالِهَا في أعْمَاقِ اللاشُعورِ وَالحُلْمِ ؛ لذَا فمقاربتُنَا تُحَاولُ القبضَ على عَالمِ شريف رزق الشِّعريِّ ، منْ خِلالِ مُتابعَةِ بعضِ المَلفوظَاتِ ؛، كالجَسَدِ وَالجُثَّةِ وَالرَّأسِ ، وَتمظهراتِهَا في مُنجزِهِ المَذكورِ ، وَهُو مَا تيسَّرَ بيْنَ أيدينَا الآنَ .

في دِيوانِ ” عُزلَة الأنقاضِ ” ؛ وَهُو الدِّيوَانُ البِكْرُ للشَّاعرِ ، تفاجئُنَا ثُريَّاهُ (عنوانُهُ) ، أوْ عتبتُهُ ؛ فهِيَ ثُريَّا جَامِعَةٌ لمجموعَةٍ منْ النُّصوصِ الفَرعيَّةِ ، في مَتْنِ الدِّيوانِ ؛ حيْثُ يُمثِّلُ كلُّ نصٍّ جُزْءًا منْ هذِهِ الأنقاضِ ، إلاَّ إنَّه منْ الضَّروريِّ الانتبَاه لحقيقَةِ كَوْنِ مَلفُوظِ (الأنقاضِ) ، يدلُّ على كلٍّ مَسَّهُ التَّخريْبُ وَالتَّدميرُ ؛ فالجَسَدُ الحَيُّ هُو الجُثَّةُ ، عندَمَا يمسُّهَا المَوْتُ وَالخَرَابُ ؛ أيْ إنَّ أنقاضَهَا لا يُمكِنُ الاستفادَةُ منْهَا لبناءِ جَسَدٍ آخر ؛ لذَا فلا نستغربُ حيْنَ يقولُ الشَّاعرُ :

 ” وَحْدِي

 سَأخْرُجُ ، منْ دَمِي

 هَذا المَسَاء

 وَأشْهَدُ الـ ـ ـ ـ ـ صَّدعَ الأخِيْر ”   (ص :7)

وَلاشَكَّ فإنَّ الدَّمَ : “الحَيَاةَ ” أحَدُ مقوِّمَاتِ الجَسَدِ الضَّروريَّةِ ، وَهُوَ جُزْءٌ منْ أنقاضِهَا ، عندَمَا يمسُّهُ التَّخريبُ وَالتَّدميرُ ، إنَّ أنقاضَ الشَّاعرِ المتوزِّعَةَ في الشِّتاتِ ليسَ لهَا سِوَى الصَّهيلِ :

” تَصْهَلُ أعْضَائِي

في الشِّتاتِ .”   (ص :8)

وَقدْ تقومُ أعْضَاءُ الشَّاعرِ بحَرَكةٍ مِيكانيكيَّةٍ مُريبَةٍ :

” لَعلَّهَا أعْضَائِي

هَذِهِ الَّتي تدفَعُ التَّوابيتَ

في الهَوَاءِ .”   (ص :10)

أوْ تختلِط الرُّؤيَا عليْهِ ؛ لتُصْبحَ السِّحابَةُ جُثَّةً (جُثَّة الشَّاعرِ) ؛ حيْثُ سيكونُ للحَيَاةِ وَالمَوْتِ طَعْمٌ وَاحِدٌ ، أوْ هُمَا حقيقةٌ وَاحِدَةٌ بوَجْهَيْنِ :

” هذِهِ السّحَابَةُ جُثَّتِي

تَتَفَصَّدُ كائناتٍ وَأنقَاضْ ”   (ص :10)

إنَّ الشَّاعرَ – وَهُوَ يخرُجُ منْ دمِهِ ؛ ليصِفَ لنَا أعْضَاءَهُ وَجَسَدَهُ – يكونُ في مَوْقعٍ (مُتعَالٍ) ، وَهَذا المَوقعُ يضْمَنُ لهُ رُؤيَةً كونيَّةً أفضَلَ ، وَالبصِيْرَةُ تتَّسِعُ ؛ فيرَى الشَّاعرُ أنَّ الكوْنَ يسِيرُ سَيْرًا حثيثًا نَحْوَ المَوْتِ ، إنْ لمْ يكُنْ قدْ مَاتَ  بالفِعْلِ ، ضِمْنَ حَرَكتِهِ المَحْسُوبَةِ ، ذَاتَ الإيقَاعِ الوَاحِدِ ؛ فالصُّورُ المُوقَّعَةُ الَّتي يُبْصِرُهَا الشَّاعرُ صورًا حقيقيَّةً ، على الرَّغمِ منْ فنتازياتِهَا أوْ غرائبياتِهَا :

” ها أنَذَا أعَرِّيكِ يَا جُثَّة الليْلِ .”   (ص :12)

فالإنسَانُ ظبيٌّ في غَابَةِ الحَيَاةِ الدَّامِسَةِ :

” شَرَكٌ آخَرٌ للظَّبيْ .”   (ص :12)

كَمَا أنَّ أقواسَ البَرْقِ المُلتهِبَةِ ، هيَ مَنْ يَذْرَعُ مَسَافَةَ الشَّاعرِ :

” يذرعُنِي البَرْقُ . ”   (ص :13)

كذَلكَ فإنَّ ضَرَاوَةَ المَشْهَدِ تخلِطُ عَرَقَ القاتلِ بدمِ القتيْلِ ؛ لتُغيِّبَ حقيقةَ الرُّؤيا ، وَتُضَيِّعُهَا :

” لمْ أعُدْ أُميِّزُ

في ضَرَاوَةِ المَشْهَدِ بَيْنَ

القاتِلِ وَالقَتِيْلِ .”   (ص :14)

إنَّ  يَرَاعَ الشَّاعرِ يعزِفُ صورًا للأنقاضِ مرسُومَة بفتنةٍ باهِرَةٍ :

” أرَى انفجَارَكِ الشَّامِلَ في جَسَدِي :

مَنَازلُ   تَطَّايرُ

، نِسْوَةٌ   يَصْرُخْنَ في وَهَجٍ

غُبَارٌ

، وَصِبْيَةٌ    يأتُونَ مِنْ نَارْ .”   (ص :15)

إنَّ هَذا المَشْهَدَ الدَّمَويَّ الرَّحْبَ يصِيرُ الشَّاعرُ إزَاءَهُ مُنتظِرًا قيامَةً قدْ لا تَجِيءُ :

” سَأقعِي هُنَا

في انتِظَارِ القِيَامَةِ .”   (ص :17)

في نَصِّ ” ثعالِب المَدَى المَفْتُوح ” ، يَصْحَبُنَا الشَّاعرُ عَمِيقًا ؛ لنغُورَ مَعَه في اسْتِبطَاناتِهِ ، وَشَطَحَاتِهِ ؛ حيثُ تفقِدُ الأشياءُ خَصَائِصَهَا ؛ فالصِّنَارَةُ تتحوَّلُ إلى شَارَةٍ ، وَالخَرَابُ كبيرٌ ، بحَجْمِ صَحَرَاء مُقدَّسَةٍ :

” وَكَمَنْ يَحْمِلُ صِنَّارتَهُ الأخِيرَةَ ، شَارَةً

وَيَذْرَعُ الصَّحَرَاءَ ، حَافيًا

عُدْتُ

أُدَحْرِجُ الخَرَابْ .”   (ص :21)

أمَّا رَأسُ الشَّاعرِ ، فهيَ قذيفَةٌ نَاضِجَةٌ :

” رَأسِي قذيفَةٌ ناضِجَةٌ

 في فَضَاءٍ شَرِهِ المَرَاعِي .”   (ص :41)

وَينبَسِطُ جَسَدُ الشَّاعرُ مِثل وَليمَةٍ :

” جَسَدِي وَليمَةُ المَوْتََى

 وَمَرْعَى الظِّلالْ . ”   (ص :23)

وَتقومُ قرقعَةٌ في عِظَامِ الشَّاعرِ تُماثلُ قرقعَةَ كوْكبٍ مُنْهَارٍ ، لعلَّه يكونُ الأرْضَ :

” ظِلالُ مُحْيي الدِّينِ بنِ عَرَبيِّ خَضْرَاءُ

 ، صُفُوفًا تُغادِرُ المَدَى المَفْتُوحَ

 فيمَا في عِظَامِي قرقعَةُ

 الكَوْكَبِ المُنْهَارِ .”    (ص :25)

 

يبدو وَاضِحًا منْ الرّمُوزِ اللغويَّةِ أعْلاهُ ، حَجْمَ الرُّؤيَةِ وَالمَعْرفَةِ ؛ الَّتي يقومُ بها لا شعورُ الشَّاعرِ ؛ حيْثُ يبدو أنَّ معرفَةَ الشَّاعرِ لا حُدودَ لهَا ، تكادُ تقصُر اللغَةُ عنْ مُشَاهَدَاتِ شَاعِرِنَا وَمَوَاجِيدِهِ ، وَقدْ عَبَّرَ النَّفَّريُّ عنْ هذِهِ الحَالِ ، بقولتِهِ المَشْهورَةِ :

” كُلَّمَا اتَّسَعَتْ الرُّؤيَةُ ضَاقتْ العِبَارَةُ .”

وَسَنلحَظُ ذَلكَ كَثِيرًا في تَجربَةِ شريف رزق الشِّعريَّةِ .

في نَصِّ ” الجُثَّة المُضَاءَة ” ، يتجَاوَرُ وَيتوافَقُ فِعْلانِ مُرِيعَانِ ؛ هُمَا مُدَاوَاةُ الجرْحِ بأعْشَابٍ مُشتعِلةٍ وَانْفِلاتُ صَرْخَةِ الشَّاعرِ في عُمْقِ الكَوْنِ :

” أمْلأُ جُرْحِي بأعْشَابٍ مُشْتَعِلَةٍ

 فيْمَا

 تفِرُّ الصَّرخَةُ منْ قاعِي إلى

 بَابِ السَّمَاءْ . ”     (ص :33)

فالذَّاتُ المُتعاليَةُ للشَّاعرِ تكشِفُ عنْ عِلاقاتٍ سِحريَّةٍ بيْنَ جُثَّةٍ مُضَاءَةٍ : جُثَّةِ الشَّاعرِ ، وَأنقَاضِ الكَوْنِ ؛ حَيْثُ نُبْصِرُ :

” عُوَاءٌ ، منْ ظُلْمَةِ البَحْرِ

 وَأمِّي تَذْرَعُ السَّمَاءَ

 بحَمَامَاتِهَا ، وَسِلَّتِهَا الزَّرْقاءِ

 تُوزِّعُ الكُمثرَى وَالبُذورَ

 الحَرَائقُ تنهَضُ في كُرَّاسَتِي ، فيْمَا

 الأمْوَاجُ تدْفَعُ أشْجَارَ الرِّمَالٍ .”    (ص ص :33 – 34)

أمَّا الفَضَاءُ فهُوَ نَادلٌ بَسَّامٌ :

” يُقبِلُ الفَضَاءُ ، بفُوطتِهِ الزَّرقاءِ

 كَنَادلٍ بَسَّامٍ

 وَيُسْقِطُ قهوتَهُ عليٍّ .”   (ص :34)

وَالقهوَةُ تشِي بظلامٍ دَامِسٍ ، وَسَهَرٍ طَويْلٍ ، كَمَا أنَّ بقيَّةَ أنقَاضِ الكَوْنِ ؛ مِنْ أرْضٍ وَسَمَاءٍ وَليْلٍ  ، تحتويْهَا صَوْرَةٌ مُؤثِّرَةٌ تُلامِسُ الحُلْمَ ؛ بسِرْياليَّتِهَا ذَاتِ الإيقاعِ الدَّاكِنِ :

” السَّمَاءُ تدْفَعُ أبْرَاجَهَا الحَمْرَاءَ

 وَثيرَانَهَا المُضِيْئَةَ في أمْوَاجِهَا

 وَالليْلُ يهتزُّ ، كَبَحْرٍ مَنْقُوشٍ بِالمُزَارِعِيْنَ

 فيْمَا الأرْضُ تدورُ بأجنادِهَا النَّائمَةِ وُقوفًا .”    (ص: 37)

وَجُثَّةُ الشَّاعرِ صِنْوٌ لحُطامٍ دَامِسٍ ، مَزْرُوعَةٌ  في جُمْجُمَتِهَا عَينانِ مُحْتَلِمَتانِ :

” سَيِّدَةٌ مَنقُوشَةٌ في قُبَّعَةِ الغُبَارِ

 تَتَمَلَّى حُطَامِي

 وَعَينَيَّ المُحْتَلِمَتيْنِ . ”    (ص : 37)

في نَصِّ ” نجْمَة المُحَارب ” ، يعترفُ الشَّاعرُ بأنَّ جُثَّتَهُ حَيَّةٌ ؛ أوْ بينَ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ ، وَلرُبَّمَا في غيبوبَةٍ ، لا يُحِسّهَا إلاَّ المُتَصوِّفة ، في حَالةِ شَطْحِهِمْ :

” إنَّمَا الشَّيءُ المُخِيفُ حَقًّا

 أنَّنِي لمْ أكُنْ حَيًّا

 وَلامَيِّتًا تمَامًا

 في ظَهِيرَةٍ دَائبَةٍ

 جُثَّة حَيَّة مَفتُوحَة على الخَوَاءِ

 وَغَيْبَةِ الجُنُودِ السّكارَى ”   (ص :62)

لذََا فإنَّ بصِيرَةَ الشَّاعرِ تَرَى الجَسَدَ وَقدْ تَحَوَّلَ إلى جَسَدٍ للعَابريْنَ وَالبَحْرَ جَسَدًا لدمِهِ ، وَإذْ يَرْقُدُ الجَسَدُ في أريكةِ الفَضَاءِ يكونُ الجُرْحُ ثُكنَةً يَسْكُنُهَا الجُنُودُ :

” كََانَ جَسَدِي يَمْلأُ الفَضَاءَ برَقدتِهِ العَمِيقَةِ

 وَالجُنُودُ يَنْهَمِرُونَ منْ جُرحِ جَنْبِي فُرَادَى

 وَجَمَاعَاتٍ .”    (ص :77)

لكِنَّ الشَّاعرَ يتسَلَّلُ خُلسَةً منْ هَذا الجَسَدِ الثُّكنَةِ :

” بَيْنَمَا أخْرُجُ منْ جَسَدِي ، وَحِيدًا

 على هَيْئَتِي في العَاشِرَةِ .”   (ص :77)

حَيْثُ كانَتْ جُثَّةُ الشَّاعرُ ترُومُ الرُّجُوعَ إلى البيْتِ ، دَليلُهَا النَّخلُ وَالحَمَامُ ؛ لكِنَّ الجُثَّةَ (جُثَّتَهُ) تعرُجُ للأعْلَى المُقدَّسِ ، وَمنْ هُنَا تنشأ المُفَارَقةُ الشِّعريَّةُ ؛ فالرُّوحُ تذهَبُ إلى البيْتِ (الأرْضِ) ، وَالجَسَدُ يطيرُ في رِحَابِ السَّمَاءِ :

” كُنْتُ أصْرُخُ ، في الجُنودِ ، أنْ يُبْعِدُوا الشَّمسَ

عنْ جُثَّتِي الطَّائرَةْ .”   (ص :77)

 

في دِيوَانِ ” لا تُطْفِئْ العَتْمَة ” ، يَسْرِي بنَا الشَّاعرُ نَحْوَ آفَاقٍ أكثر إظلامًا ؛ فالثُّريَّا تتضَمَّنُ دََعْوَةً صَريحَةً لعَدَمِ إطْفَاءِ العَتْمَةِ  ؛ فالشَّاعرُ قدْ أدْمَنَ العَتْمَةَ ، وَأمْسَى خبيرًا بهَا ؛ فالعَتمَةُ تقودُ   إلى الرُّؤيَا الوَاضِحَةِ ؛ كَمَا أنَّ الظَّلامَ حَاضِنةُ المسْكُوتِ عنْهُ وَالمُغَيَّبِ وَالأسْرَارِ وَالكَلامِ غيْرِ المُبَاحِ ، إنَّ الشَّاعرَ يُبْصِرُ نفسَهُ الدِّيناصُورَ الأخِيْرَ ؛ حَيْثُ إنَّ الدِّيناصُورَ الأخيْرَ هُوَ امتدِادٌ عَمودِيٌّ (تَاريخِيٌّ) للإنسَانِ الأوَّلِ ؛ فالدِّيناصُورَاتُ قدْ فنِيتْ منذُ مليون عامٍ ؛ نتيجَةً لارْتِطَامِ أحَدِ الشُّهُبِ بسَطْحِ الأرْضِ ؛ وَبالتَّالِي فقدْ اسْتَلَمَ الإنسَانُ الرَّايَةَ منْ آخرِ دِيناصُورٍ :

 ” عليَّ الآنَ أنْ أنْهَضَ

   في (عُزلَةِ أنقاضِي)

  أنَا الدِّيناصُورُ الأخِيْرُ

  أشُقُّ الضَّبَابَ

  أشُدُّ الغِطَاءَ

  عَنْ المَوْتِ الَّذي يَسْكرُ

 في وُعُورَةِ الطَّريقِ

 أَعْوي .”    (ص :10)

لكِنْ مَنْ يدرِي ؛ فالإنسَانُ يبدو كأنَّهُ يسِيرُ إلى نهايتِهِ ، بمَحْضِ يديْهِ :

” طَلْقَةٌ

 لابُدَّ منْ طَلْقَةٍ

 هَذِهِ طَلْقَتِي .”    (ص :11)

وَمنْ يهدِي الطَّلقَاتِ للإنسَانِ غيْرِ الإنسَان :

” وَحْدِي

 أنَا الَّذي الطَّلَقَاتُ دَائمًا في انْتِظَارِي .”      (ص :11)

إنَّ الشَّاعرَ يَرَى أنَّ الفَرْقَ بيْنَ الجَسَدِ (الحَيَاةِ) وَالجُثَّةِ (المَوْتِ) هُوَ طَلقَةٌ تمَخَّضَ عنْهَا عقْلُ الإنسَانِ ، فيَا للبرَاعَةِ !! :

” جُثَّةٌ

 لابُدَّ منْ جُثَّةٍ

 هذِهِ جُثَّتِي

 لابُدَّ منْ جُثَّتِي

 لأدْخُلَ عَاصِمَتِي الأخِيْرَةَ .”    (ص :11)

فالإنسَانُ ؛ جَسَدًا كانَ أوْ جُثَّةً ، منْ تُرَابٍ ، وَالتُّرَابُ كَانَ أجْسَادًا للأسْلافِ ، وَمنْهُ كَانَ الجَبَلُ ، وَهُو للشَّاعرِ :

” وَحْدَكَ ، أيُّهَا الجَبَلُ

  مِثْلِيَ

  سَاهِرٌ

  تَحْمِلُ آلافَ الجُثَثِ .”    (ص :16)

وَإذَا كَانَ أبُو العَلاءِ قدْ طَالَبَ الأحَياءَ بأنْ يُخفِّفُوا الوَطْءَ ؛ فإنَّ أدِيْمَ الأرْضِ منْ أجْسَادِ مَوْتَانَا ، فإنَّ شَريف رزق يُكرِّرُ هذِهِ الدَّعوَةَ ؛ الَّتي يبدو كأنَّ الأحْيَاءَ لمْ يعبئُوا بهَا :

” خَفِّفْ الوَطْءَ

  دَعْ الأمَوْاتِ في نَوْمَاتِهِمْ

  لا يَرْجفُون .”      (ص :16) 

إنَّ الشَّاعرَ يُفكِّرُ في عَاصِفَةٍ تكنُسُ العَتْمَةَ :

” أفكِّرُ في عَاصِفَةٍ تكنُسُ العَتْمَةَ .”     (ص :16)

إلاَّ أنَّه يُبعِدُ قَمَرَ الوَحْشَةِ ؛ كيْ لا يُطْفِئْ العَتْمَةِ :

” إليْكَ عنِّي

  يَا قَمَرَ الوَحْشَةِ

  لا تُطْفِئ العَتْمَة .”     (ص :16)

إنَّ الشَّاعرَ يدورُ ضِمْنَ دَائرَةٍ مَرْسُومَةٍ ، حَوْلَ نِقاطٍ  ثلاثٍ ؛ هيَ : الذَّاتُ الإنسَانيَّةُ ، ثمَّ الجُثَّةُ ، ثمَّ الجِسْمُ :

” لمْ يَعُدْ في جُثَّتِي دَرْبٌ ألوذُ بِهِ ، وَأفردُ

  فيْهِ جِسْمِي ؛ كيْ يَنَامَ .”     (ص :39)

إنَّ أعْمَقَ طعنَةً هيَ طعنَةُ الشَّاعرِ نفسَهُ ؛ لذَا فهُوَ يقولُ مُفتخِرًا :

” يَا لرَوْعَتِي

  في بَرِّيَّةِ المَوْتِ

  أعْمَقُ طَعْنَةً مِنِّي ! .”        (ص :44)

إنَّ رُوحَ الشَّاعرِ تجوبُ الهَوَاءَ هُلامِيَّةً وَخَفِيفَةً ، يتشظَّى الجَسَدُ في الجُثثِ ، وَيتفسَّخُ الوَقْتُ رَوَائِحَ مُمِيتَةً :

” يَا لرَشَاقتِي !

 هُلامِيًّا

 خَفِيفًا

 أجوبُ الهَوَاءَ

 وَالوَقْتُ : يتفسَّخُ – في – تحْتِي

 نَاشِرًا رَوَائِحَهُ المُمِيتَةَ .”     (ص :50)

عِندَمَا يكونُ الجَسَدُ شَمسًا ، فلابُدَّ منْ إبعَادِ الشَّمسِ عنْهُ ، وَلمَّا يعلمُ الصَّبَاحُ بوجودِ شَمْسٍ أخْرَى ؛ هيَ جَسَدُ الشَّاعرِ ؛ فلمَ لا يَسْألُ عنْهَا :

” الصَّبَاحُ ، هَذَا الصَّبَاح

  يَسْألُنِي عَنْ جَسَدِي

  جَسَدِي الغَارِقِ في الأمْسِ

  أمْسِ المُزْدَانِ بأمْس .”     (ص :51)

وَلكِنْ ليسَ هُنالكَ سِوَى الجَسَدِ مَا يُغطِّي الجَسَدَ ، وَشَهَوَاتٍ كالخيولِ :

” مَا على جَسَدِي سِوَى جَسَدِي ، وَثَمَّةَ شَهْوَتِي

خَيْلٌ تفِرُّ منْ الضّلوعِ .”     (ص :72)

وفي الوَقْتِ الَّذي تصُبُّ السَّمَاءُ عويلَهَا على جَسَدِ الشَّاعرِ ، يمنَحُ الرَّملَ اندِلاعَهُ ، وَكذَلكَ يُعْطِي المَدَى عُشْبَ صَهِيلِهِ ، فيتسَاءَلُ الشَّاعرُ مَذْهُولاً :

” هَلْ هَكَذا يأتِي الخُروجُ ؟

أكلُّ هَذَا العَصْفِ لِي

كيْ لا أرَى

؟ .”     (ص :72)

وَحَيْثُ إنَّ الشَّاعرَ قدْ أنْهَى الدِّيوَانَ بسُؤالٍ وَعَلامَةِ اسْتِفْهَامٍ ؛ فإنَّهُ يُفْسِحُ المَجَالَ ، وَاسِعًا لِلتَّلقِّي ؛ كيْ يقومَ بملءِِ البَيَاضَاتِ وَالتَّأويلِ .

 

في دِيوَانِ ” مَجَرَّةِ النِّهَايَاتِ ” ، وَهُو المُنْجَزُ الشِّعريُّ الثَّالِثُّ ، لِشَريف رزق ، ليسَ منْ المُصَادفةِ أنْ يكونَ غُلافُ الدِّيوَانِ ، لوحَةً للرَّسَامِ السِّريَالِي : سلفادور دالي ، وَقدْ قُلْنَا في التَّقدمَةِ إنَّ التقاءَ السِّرياليَّةِ بالصُّوفيَّةِ يُولَدُ اللامَعقولُ وَالغَرَائبِيُّ ، وَهَلْ هُنَاكَ أعمقُ منْ لُغةٍ الصُّوفيَّةِ في القبضِ على صُورِ العَالمِ السِّرياليِّ ، الَّذي يُبْصُرُهُ الشَّاعرُ في رِحْلتِهِ نحْوَ الجَحِيْمِ ؟ ، وَمَا الشَّاعرُ إلاَّ نقطة هَذا الكَوْنِ وَسُرَّتِهِ ، كَمَا يقولُ حافظ الشِّيرازي ، في تَصْديرِ الدِّيوَانِ :

” وَارْتَضَيْتُ عُزْلَتِي

 كَمَا ارْتَضَاهَا الفِرْجَارُ

 يَدورُ حَوْلَ مُحِيْطِهِ

 وَلكِنَّ القَدَرَ جَعَلَنِي ، في النِّهَايَةِ

كَالنُّقطَةِ

في وَسَطِ الدَّائرَةِ .”    (ص : 5) 

وَحيْثُ نتتبَّعُ هَذِهِ الرِّحلةَ يكونُ القلبُ هُوَ مَصْدَرُ رُؤيَا الشَّاعرِ ، وَليسَ العَقلَ ؛ فالطُّرقُ تجَاهَ مدينَةِ الحُلْمِ تشظَّتْ فيْهَا الدّروبُ في ضُلوعِ الشَّاعرِ ؛ وَهَذا يقودُ حتمًا إلى تعدُّدِ مُستوياتِ الرُّؤيَا :

” وَهَاهِيَ الطُّرقَاتُ الَّتي ظَلْتَ تَعْبُرُ

  قدْ تَشَظَّتْ

  كَحزمَةٍ منْ نيازِكَ ، في ضُلوعِكَ .”        (ص : 5)

وَتفترِضُ الرِّحلَةُ  ابْتِدَاءَ الفَرَاغِ ؛ حَيْثُ ينعدِمُ كلٌّ منْ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ :

” عَمَّا قليْلٍ سَيبتدِئُ الفَرَاغُ

 ، وَينتهِي الوَقْتُ

 ( وَلا أعْنِي بذلكَ مَجَازَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ ، أوْ نبوءَاتٍ مَا ) .”    (ص : 7)

إنَّ الشَّاعرَ يُحاولُ خَلْقَ لحظَةٍ إيهاميَّةٍ لإقنَاعِ المُتلقِّي بأنَّهُ يَرَى الحقيقَةَ ، وَيصِفُهَا كَمَا هِيَ ؛ وَلكِنَّ التَّلقِّي لا يحفلُ بالحَقائقِ بقدْرِ احتفائِهِ بشَعْرَنَةِ هذِهِ الحَقائِقِ ؛ ليفترَقَ النَّصُّ الشِّعريُّ ضِمْنَ شِعريَّتِهِ عنْ النُّصوصِ اللا شِعريَّةِ .

إنَّ الشَّاعرَ يَسْتخدمُ الاسمَ : (شَريف) ، كَصُورَةٍ بَصَريَّةٍ ، (دَالاً) على جَسَدِهِ ؛ الَّذي يتحوَّلُ إلى (مَدلولٍ) ، وَهَذا يعنِي أنَّ الاسمَ وَالجَسَدَ يُشكِّلانِ علامَةً أوْ إشَارَةً ، إنَّ الذَّاتَ الشَّاعرَةَ تتعامَلُ مَعَ الجَسَدِ بصِفتِهِ مَدْلُولاً ، منْ خِلالِ الحَالاتِ الرُّوحيَّةِ وَالنَّفسيَّةِ الَّتي تُؤسِطرُهُ ؛ فالذُّهولُ وَالهَذَيَانِ وَالجُنونِ ، هِيَ تمظهرَاتٌ مُختلفِةٌ للجَسَدِ ؛ فالشَّاعرُ يعمَدُ حِينًا إلى تهشِيْمِ ثنائيَّة (جَسَد – شَريف) ، وَحِينًا يُعِيدُ تشكيلَ العَلامَةِ ، وَهِيَ مُعرَّضَةٌ للتَّهشِيمِ المُسْتقبلِيِّ ؛ حيْثُ فنَاء الجَسَدِ ، بصفتِهِ (مَدلولاً) ؛ ليحِلَّ مَحَلَّهُ الاسمُ (شَريف) ، بصِفتِهِ (دَالاً) ، وَهُوَ يُحٍِيْلُ إلى غيَابٍ أوْ فنَاءِ الجَسَدِ :

” نَحنُ في أوَّلِ الرًّؤيَا ، وَمَوْتُكَ لنْ ينُوبَ عنْكَ في هَذَا المَسَاءِ

  سَنزدَرِدُ الفَنَاءَ ، على مَهَلٍ

  مَعًا مَعًا ، يَا شَريفُ .”          (ص : 17)  

إنَّ الرِّحلةَ تقودُنَا إلى مَدينَةٍ غَريبَةٍ :

بنَّاءونَ ، وَشَحَّاذونَ ، وَحَدَّادونَ ، يدقُّونَ الأعْمِدَةَ في الهَوَاءِ المُواجِهِ ، سَيَّارَاتُ نَقْلٍ فارِغَةٌ ، وَسَيَّاراتٌ    أخْرَى تَزْدَحِمُ بِالفَرَاغِ ، أطْفالٌ يتبوَّلونَ على أناشِيدِ الأمَّهاتِ ، ثُغَاءٌ ، وَبَائِعَاتٌ يخْطُرْنَ على شَهَوَاتِ الرِّجالِ البنَّائينَ ، وَهُمْ يَسْتَرِيحُونَ في الهَوَاءِ المُواجِهِ

، قُرْفُصَاء ، وَيُدخِّنونَ لُفافَاتٍ تُضِيءُ بِضَوْئِهَا الخَافِتِ – على الوجُوهِ النُّحاسِيَّةِ – أشْوَاقًا تُضِيءُ .”         (ص :24)

وَقٌبيلَ مُنْتَصَفِ الرِّحلةِ يفترقانِ ؛ حيْثُ تنْهَارُ الصُّحبَةُ ، بيْنَ الذَّاتِ المُحَلِّقَةِ للشَّاعرِ وَالجَسَدِ الشَّارِدِ :

حَيَّرتَنِي في شُرودِكَ ، أَلَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَْبرًا ؟ ؛ فأمْهَلْتَنِي ، وَارْتَحَلْنا، جَمِّعْ عِظَامَكَ هَذِه وَاتَّبِعْنِي ، تَقَدَّمْ ، لا تُدَمْدِمْ في شُرودِكَ هَكَذَا ، أنْتَ إسْطَبْلٌ ، فَغَادِرْ ، إذًا : هَذَا فِرَاق …”       (ص : 27)  

إنَّ هَذا المَقْطَعَ يُحِيلُنَا إلى مَا حَصَلَ بيْنَ مُوسَى وَالخَضرِ- عليهما السَّلامُ – كَمَا هُوَ مُثْبَتٌ في سورَةِ الكَهْفِ ؛ حيثُ قالَ مُوسَى : ” هلْ اتَّبِعُكَ على أنْ تُعلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا ؟ ، قَالَ إنَّكَ لنْ تَستطِيعَ مَعِيَ صَبْرا ” ، وَعِندَمَا فشِلَ مُوسَى(ع) في الاختبَارِ قالَ لهُ الخَضرُ(ع) :

” قَالَ هَذَا فِرَاق بينِي وَبينَكَ ، سَأُنبِّئكَ بتأويْلِ مَا لمْ تَسْطِعْ عليْهِ صَبْرَا .” ، انظر الآيات (60 – 80)

إنَّ الاخِتلافَ بيْنَ مُوسَى وَالخَضرِ هُوَ اختلافٌ مَعرِفِيٌّ ؛ فالأوَّلُ ينظُرُ إلى ظَاهِرِ الأمُورِ ، وَالثَّاني ينظُرُ إلى جَوهرِهَا ؛ لذَا فرِحْلَة مُوسَى رِحْلةٌ مَعرفيَّةٌ ، وَكَذلكَ فإن رِحْلَةَ (شَريف) الشَّاعرِ رِحْلَةٌ مَعرفيَّةٌ ؛ أيْ الانتِقَال منْ مُسْتَوَى ثقافيٍّ إلى مُسْتَوَى آخَر ؛ لذَا فالفرَاقُ الَّذي حَدَثَ ضِمْن طُقوسٍ مُعيَّنةٍ يبدو أنَّ (شَريف) الجَسَد ، قدْ نَسِِِيَهَا :

                    ” أنْتَ لاْ تذكُرُ بالتَّأكِيْدِ

يَوْمَهَا ، جَلَسْنَا على هَذِهِ المَائِدَةِ

خَلَعْنَا أعْضَاءَنا عُضْوا فَعُضْوا

وَابْتََسَمْنَا

وَضَعْنَا الأصَابِعَ في هَذِهِ الأطْبَاقِ

أتَيْنَا بِوَرْدٍ

الشِّفاهُ كانَتْ فاكِهَةً

    والعُيونُ مَصَابِيح المَسَاءِ

أنْتَ لاْ تذكُُرُ بالتَّأكِيدِ

يَوْمَهَا ، فَرَشْنَا مَائدةً مِنْ لَحْمِنَا

، وَانْتَبَهْنَا إلى جَلَبَةِ المَوْتَى الضُّيوفِ

، وَهُمْ يدخُلونَ علينا مِنْ كُلِّ بابٍ

، … سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ

     سَلامْ 

 

أَنْتَ لاْ تذكُرُني يَاشَرِيفُ ؟ .”   (ص : 32)    

إنَّ الشَّاعرَ لهُ جَحِيْمَهُ الخَاصَّةَ ، وَهِيَ امْتدادٌ لِجَحِيمِ دَانتي ؛ بمَرْجِعيَّتِهِ المَسِيحِيَّةِ ، وَجَحِيمِ المَعَريِّ ؛ بمَرْجِعيَّتِهِ الإسْلامِيَّةِ ، إنَّ جَحِيمَ أبي العَلاءِ مُحاَكمَةٌ للزَّمَنِ ، بصِفتِهِ فَوْضَى مَأسويَّة ، تُحِيْقُ بالوجُود الإنسَانِيِّ ، أمَّا جَحِيمُ دَانتي فهِيَ مُحَاكَمَةٌ لعَصْرِهِ ، بكُلِّ مَا فيْهَا منْ مَظَالم وَانتهاكاتٍ ، كانَتْ الكَنِيسَةُ قدْ اقترفتْهَا في حِيْنِهِ ، وَالجَحِيمَانِ يُؤسِّسَانِ لمرحَلةٍ ثقافيَّةٍ أعْلى ؛ أيْ يعمَلانِ قطيعَةً مَعَارفيَّةً مَعَ مَا سَبَقَهُمَا منْ نُصوصٍ ، وَلكِنَّ جَحِيمَ شريف رزق جَحِيمٌ مُعَاصِرَةٌ ؛ تَنِمُّ عنْ مَأسَاةٍ وجوديَّةٍ مُلتهِبَةٍ ، يُصَوِّرُهَا لنَا لا شُعورُ الشَّاعرِ ؛ حيْثُ أبْصَرَهَا ضِمْنَ رياضَاتِهِ الجَسَديَّة وَمَعَاريجِهِ الحُلمِيَّةِ ؛ فهِيَ بدونِ طَوَابق ، وَفيْهَا جُثَّةُ الشَّاعرِ ، وَالكثيرِ منْ المَوْتى :

أَهَذِهِ جُثَّتِي ؟ اِحْمِلُوهَا مَعِي أيُّهَا المَيِّتونَ – كَقَضَاءٍ نَائمٍ  – على الأعْنَاقِ ، وَانْطَلِقوا بِهَا صَامِتينَ ، ”     (ص : 35)

إنَّ الشَّاعرَ يرسُمُ وَيُصَوِّرُ أعْمَالاً فادحَةً ، تقومُ بهَا هذِهِ الجُثَّةُ :

سَتَنْزِعُكُمْ من أعْضَائِكُمْ ، وَتَخْتَفِي ، وَتَتْرُكُكُمْ على المَعَارِجِ   تلهَثونَ .”          (ص : 36) 

وَإذْ تَترُكُهُمْ  هُنالكَ ، يَطلُبُ المَوْتَى مِنْهَا أنْ تُعِيدَهُمْ :                    

                         أعِيْدِيْنَا

 

  سَنَرْمِيكِ أيَّتُها الكَامِنَةُ بِالنَّدى وَالزَّعفرَانِ

 ، طَالِعِيْنَ على الصَّباحَاتِ الشَّرِيدةِ 

 ، هَادِئينَ ؛ حَتَّى لانُزْعِجَ انْشِغَالَكِ في الأعَالي ، أوْ يُزْعِجَكِ النِّداءُ ؛  ذو الأجْنِحَةِ المُسْتَرِيْبةِ ، وَاللهيبِ ،

  وَليْسَ علينا سِوَى مَا عَلَينَا :

  حَنُوطُ النِّهَايَاتِ وَأعْوِيةٌ ..

 

                     ضَعِيْنَا في غِيَابِكِ .”      (ص : 37)

أمَّا الشَّاعرُ ، فتختلِطُ عليْهِ الرُّؤى ؛ حيْثُ لمْ يعُدْ قادرًا على تمييزِهَا ؛ فهِيَ لمْ تعُدْ جُثَّته :

” جُثَّةُ مَنْ يَا جُثَّتِي ؟ .”       (ص : 37)

إنَّ الشَّاعرَ وَهُوَ يخرُجُ منْهَا يُطَالبُهُ المَوْتَى بأنْ يُبْعِدَهَا عنْهُمْ :

: أغِثْنَا يَا شَرِيْفُ ، وَاْرفَعْ هَذِهِ الجُثَّةَ عَنَّا ، هَكَذَا ، هَكَذَا ، وَأَنَا مَاضٍ إلى سَعِيْرِي ، لا أُبَالِي ، مَاضٍ مُضِيْئًا ؛ كَهَوَاءِ القِيَامَةِ ، إلى مَا ليْسَ يَعْرِفُنِي ، قَتِيْلا .”    (ص : 41)

وَلكِنَّ الشَّاعرَ يَرَاهَا ، وَقدْ صَارَتْ غَريبَةً عنْهُ ، فيتسَاءَلُ بمَرَارَةٍ :

” جثَّتِي ، جُثَّةُ مَنْ ؟ ”  (ص : 42)

وَهَذا مَا تُفْصِحُ عنْهُ رُؤيَاهُ ، في المَشْهَدِ الأخِيْرِ :

” أُرَجِّحُ أنَّنِي لمْ أكُنْ وَحْدِي ، هُناكَ

  وَالأرْجَحُ ، أنَّنِي لمْ أكُنْ في جُثَّتِي ، في

  هَذِهِ الليْلةَ أيضًا

  وَالأرْجَحُ ، أنَّهَا لمْ تَكُنْ جُثَّتِي .”     (ص : 45)

إنَّ الشَّاعرَ وَهُوَ في هَذِهِ المَرْحَلةِ منْ الرؤيَا ، يجِدُ نفسَه غيْرَ آسِف عليهِمَا :

  دَعُوهَا تَتَضَخَّمُ  

   أَوْ                     

   دَعُوهَا تَتَسَاقَطُ في مَرَاسِيْمِ الفَنَاءِ .”      (ص : 50)  

في نَصِّ ” أنَا الَّذي ضَاجَعْتُ أنْثَى الشَّياطيْن” يعمَدُ الشَّاعرُ إلى تهْشِيمِ الدَّالِ الصَّوتيِّ (شَريف) ، إلى فونيمَاتِهِ الأوَّليَّةِ ، وَيَضَعُ كلَّ فونيمٍ (حَرْفٍ) ثُرَيَّا لكُلِّ مَقْطعٍ منْ مَقَاطِعِ النَّصِّ المَذْكورِ ، وَقدْ تبدو هَذِهِ رَغبَةٌ مَكبوتَةٌ في لا شُعورِ الشَّاعرِ في العَودَةِ إلى حَالةِ مَا قبلَ الوِلادَةِ ؛ فَهُوَ بعْدَ  أنْ أبْصَرَ الجُثَّةَ ، وَقَدْ فنِيَتْ ، أوْ لمْ تعُدْ لهُ بصِفتِهَا مَدْلُولا ؛ فهُوَ بتهشِيمِهِ الدَّالَ ، يكونُ قدْ غيَّبَ العَلامَةَ (الجُثَّةَ – شَريف) بأجْمَعِهَا ؛ سعيًا إلى الرِّجُوعِ إلى حَالةِ مَا قبْلَ الوِلادَةِ (الوَعْي) .

إنَّ الشَّاعرَ في المَقطَعِ المُعَنونِ (ش) ، يتكلَّمُ عنْ رَأسِهِ ؛ فهِيَ تارَةً نخلَةً ، وَتَارَةً شُعْلَةٌ ، وَتَارَةً مَدينَةٌ شَاغرَةٌ ، وَيَراهَا مَمَرًّا للعَوَاصِفِ ؛ وقاذفةً العَوَاصِفَ ، لكِنَّ الجِسْمَ يبقَى في الرَّملِ :

تَنَزَّهَتْ العَواصِفُ الَّتي اخْتَرَقتْ فَرَاغَ عَيْنَيْكَ ، في رُبُوعِكَ ، فَبَصَقْتَهَا في جَحِيْمٍ ، يَمْضِي ؛ فَأَسَّسَتَ الصَّواعِقَ ، في الأعَالي . مَاذَا سَيَفْعَلُ جِسْمُكَ الَّذِي يَتَلوَّى – بِدِونِكَ – في الرِّمَالِ ؟ .”                (ص : 56)

في المَقطَعِ الَّذي عتبتُهُ الفونيمُ (ر) ، يَسْتدرِجُ الشَّاعرُ رَأسَهُ ، إلى كَمِيْنٍ مُحْكَمٍ ؛ حيْثُ يُنَادِيْهِ بالحَبيْبِ وَبالسَّيِّدِ وَبالحُوذِيِّ ، وَيدعُوه أنْ يَسْتدرِجَ الغَرَائزَ ، وَيدعُوه إلى المَرَاقبَةِ :

” ، وَاسْحَب الْهَوَاءَ المُتَجَرِّدَ النَّافِقَ ، خَلْفَ مَقْطُورِتكَ المَمْلؤةِ بالكَوَابِيْسِ الَّتي تَعْوِي ، إلى أنْ تَعُودَ الأعَاصِيْرُ إلى رُشْدِهَا ، وَلا تَنَمْ أيُّهَا الحُوْذِيُّ ، في هَذِه الليلَةِ المُبَارَكَةِ ، ازْجَرْ حِصَانَكَ ، الذِي يَسْتَدْرِجُ النَّوْمَ فَيَسْتَدْرِجُهُ ، حَتَّى يَغِيْبَ ، وَقِفْ على هَذِه البُقْعَةِ ، وَاسْتَدْعِ الغَرَائِزَ، الليلةَ ، مِنْ أعْشَاشِهَا ، وَارْقُبْ .”             (ص : 57)      

إنَّ الشَّاعرَ لا يُسَيطِرُ على رَأسِهِ العَنِيدَةِ ، في هَذا المَشْهَدِ الضَّارِي ، فيلتفِت إلى أنَاهُ ، مناشِدًا :

” انْتَظِرْ يَا شَرِيفُ ، تَرَبَّصْ

  مَعِي ، وَتَحَسَّسْ مِطَواتَكَ الَّتي كَصَبَاحٍ في بَنْطَلونٍ

  ، لا تَنْدَفِعْ ، وَتَمهَّلْ مَعِي يَا شَرِيفُ  .”     (ص : 59)

فقدْ ضَاقَ ذَرْعًا بشَريف العَنيْدِ وَالمُنْدِفعِ وَالمُحَلِّقِ ؛ حيْثُ يتَّهِمُهُ بمُضَاجَعَةِ أنْثَى الشَّياطِيْنِ :

” ، جِئْتُكَ يَا حَبِيْبي ، أنْتَ الَّذِي ضَاجَعْتَ أُنْثَى الشَّيَاطِيْنَ ، لنْ    أُمْهِلَكَ الليلةَ ، هَا هُنَا .”      (ص : 60)

وفي الفونيمِ الأخِيْرِ؛ (ف) ، يقبِضُ الشَّاعرُ رُوْحَ (شَريف) ؛ مُعلِنًا انتهاءَ الوَقْتِ الأخِيْرِ :

       ” سَأَقْبِضُ رُوحَكَ الآنَ ، انْتَهَى الوَقْتُ الأَخِيْرْ .”  (ص : 61)

وفي النَّصِّ الأخِيْرِ مِنْ هَذا القصِيدِ ؛ المعنونِ بـ ” ارْفعِينا إلى ثُريَّاتِ الجُنونِ”، ينعطِفُ الخِطَابُ انعطَافةً عكْسِيَّةً ، بعروجِهِ المُعَاكِسِ منْ مشْهدِ الجَحِيمِ إلى مشْهدِ الحَيَاةِ :

” الهَوَاءُ خِبْرَتُنَا الأخِيْرَة ُ

            سِيْرَتُنَا إلى نِهَايَاتِ البَيَاضِ

 نُطَوِّحُ أرْجُلَنَا وَنَجِيءُ

         ، بِلا أرْوقَةٍ نَمْتَطِيْهَا

         ، وَلا أقْمِصَةٍ أوْ رِتُوشٍ

         ، بِلا وَهَنٍ على هَدْمٍ ، وَأحْشَاؤنَا إلى الخَارِجِ

أجْسَادُنَا تَرْشَحُ بِالجَنَازَاتِ

        ، ولا نَبْتَغِي شَيْئًا ”       (ص : 65)   

حيْثُ ابتدَأتْ الرِّحلةُ المُعَاكِسَةُ ؛ بسَحْقِ الأسْئلَةِ المُحْرِقَةِ ، ثمَّ الابترَادِ :

” الأسْئِلَةُ الَّتي حَرَّقَتْنَا سَحَقْنَاهَا بِالنِّعَالِ 

         ، وَابْتَرَدْنَا على المَدَاخِلِ

         ؛ على المَدَاخِلِ الَّتي لمْ تَتَّسعْ لِسِوَانَا

، وَلَمْ نَنْتَظِرْ أحَدَا .”        (ص : 66)

إنَّ الرِّحلةَ مُوشُومَةٌ برَائِحَةٍ سِحريَّةٍ وَغَرَائبيَّةٍ :

” الرَّائِحَةُ الَّتي بَزَغَتْ عَلَّقَتْنَا في الهَوَاءْ

 ؛ في الهَوَاءِ الَّذي لمْ يَنْفَتِحْ لِسِوَانَا

 ، وَغَادَرَتْنَا خُلْسَةً .”     (ص : 68)

إنَّ الاقترَابَ منْ العَالمِ الطَّبيعِيِّ يعنِي الوُصُولَ إلى رِحَابِ الحَيَاةِ ، ببرقِهَا وَعبيْرِهَا وَصَبَاحَاتِهَا وَمَسَاءَاتِهَا وَجُنونِهَا أيضًا :

” هُبُوبُكِ هُبُوبُ الصَّاهِلاتِ على خُطَانَا

، وَلا نَعْلَمُ كَيْفَ الوصُولُ إلى رِحَابِكِ

 

                  أدْرِكِيْنَا مَرَّةً

                  وَارْفَعِيْنَا إلى ثُرَيَّاتِ الجُنُونْ .”   (ص : 69)

وَإذْ نُنهِي هَذِهِ القََرَاءَةَ السَّريعَةَ ، نجِدُ أنَّ تجربَةَ الشَّاعرِ شَريف رزق ، ذَاتَ نكهَةٍ مِصْريَّةٍ خَالصَةٍ ، مُتميِّزةٍ بأدائِهَا ، وَخَلْقِ عَوَالمَهَا الفَريدَةَ ؛ عَوَالم تُدْهِشُنا ، وَتُحَلِّقُ بنَا عَاليًا ، وَلا غَرَابَةَ  ؛ فهِيَ صُنْعُ خَيالِ شَاعرٍ ننتظِرُ منْهُ الكَثيرَ .

 (1999)

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم