اشتقت لحضن أبي الذي لم يكن

hebat allah shaheen
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هبة الله شاهين

بديهي ألا نشتاق لشعور ما إلا إذا كنا قد اختبرناه ولو لمرة على الأقل، فمثلاً لا يمكنني أن أقول اشتقت لمذاق النبيذ الأحمر أو الفودكا الروسية، فأنا لم أعرف بالأساس كيف يكون مذاق هذا أو تلك، لكن ثمة لحظات خارجة عن المألوف، ضاربة بالمنطق عُرض الحائط، شعور لم تعشه أو تختبره يوماً لكنه يدق رأسك كل ليلة، تتوق إليه وإن لم يكن موجوداً! فأنا مثلاً اشتقت لحضن أبي الذي لم أختبره ولو لمرة على مدار سنوات عمري الثلاثين.

لماذا لم يقرأ أبي ما في عيني؟

رحل أبي قبل حوالي عامين أو أقل، عشت في بيته أكثر من 28 عاماً، اختبرت بهم صنوف القسوة والضرب والعنف والشتائم والعرِاك اللامنتهي، مع كل معركة كنت أبحث عن مساحة صغيرة في اتساع الكون، بين ذارعي أبي ألقي فيها برأسي وأنهار باكية، لكن كانت كل معركة بطلها أبي، الضارب أبي والمضروب أنا، كنت أجد صعوبة في أن يرتمي الضحية بين أحضان جلاده، لكن كنت أظن أن عينيّ الجامدتين العصيتين على البكاء كانتا تخبرانه بأنني في حاجة لعناقه لا لطمات كفه على خدي.

مؤخراً أدركت أن رصيد سنواتنا معا كان “صفر  سعادة”

كنت أتصفح قنوات التلفاز باحثة عن فيلم قديم او حلقة من مسلسل شاهدته عشرات المرات آملة في العثور على مشهد جديد أو عبارة فاتتني في المرات السابقة، فوجئت بقناة الفضائية المصرية تعرض الفيلم الذي أراه قصة إنسانية خالصة “لا تبكي يا حبيب العمر” لطالما أعتبرته من أنبل وأجمل أفلام سينما السبعينات والثمانينات، أبدع الراحلان فريد شوقي ونور الشريف خلاله في تجسيد علاقة إنسانية معقدة، تتشابك خيوطها، في صراع بين العلم وأدواته القوية والموت بسطوته ويده الأكثر فتكًا، الحب والخوف من عدم اكتماله، استوقفني حوار راقً جمع بين الأب الجراح المشهور والابن الذي اكتشف إصابته بسرطان المخ وهو في الرابعة والعشرين من عمره، مواجهة مؤلمة تجعل الدمعة تسقط من عينيك رغمًا عنك، بين أب يودع ابنه الوحيد وشاب لم يعرف في حياته شيئا كما عرف حب والده غير المحدود له، يقول نور الشريف الذي قام بدور الابن:”الناس بتقيس عمرها بلحظات السعادة اللي عاشتها، وأنا عشت معاك 24 سنة سعيد وأنت السبب، خليت كل أيامي ضحك وسعادة، ادتني كل حاجة حلوة، كل اللي اتمنيته”.

انتهى المشهد بينما أشعر بدمعة ساخنة تمر من خدي الأيسر نحو ذقني ثم رقبتي، تلتها دمعة ثالثة ورابعة، لم أكن أبكي تأثرا بمشهد وداع بين أب وابنه فحسب،  بكيت لأنني اكتشفت وبعد رحيل أبي بعامين أن رصيدي من السعادة معه صفري، فكل لحظة سعيدة كانت توشك على أن تولد، يحهضها والدي بقسوة غير مبررة، وجفاء يختبئ خلف عينيه الزجاجيتين، كنت أحس والدي ميتًا كلما نظرت لعينيه الجامدتين، حينما يبكي أو يضحك، يغضب ويثور، أو يوجه لي انتقاداته اللاذعة لأنني لم اسأل عنه، رغم أنني من كنت في أمس الحاجة ليسأل هو عن أحوالي، سؤال بسيط من كلمتين فقط “عاملة إيه” كنت أبحث عنه وراء العينين الزجاجيتين ولم أجده، تؤلمني القسوة تخيفني أكثر من أي شيء، تجثم على صدري، تخنقني، تُشعرني برغبة خفية في التقيؤ، وبقدر سنوات عمري التي قضيتها وأنا اتجرعها من كأس أبي الذي فشلت كل مرة في تحطيمه وسكب كل ما فيه من قسوة في بالوعة الحمام! 

من حين لآخر أحن لعناق والدي الخيالي

اشتاق الآن لعناق خيالي، مسحة من يده الضخمة على رأسي الصغير، ربما انتظر اعتذارًا لم يقع، الميت لا يعتذر ليس أمامه حرية العدول عن أي فعل سابق، الحي وحده من يستطيع ذلك، لكنه لم يفعل! لا أريد من العالم أن يعتذر لي، فقط أريد اعتذار أبي، ربما أُشفى حينها من جُرح غائر في روحي، ليس كجرح بالكوع أو الرُكبة صنعته حواف أرجوحتي المفضلة الساخنة بفعل حرارة الشمس ولا الدراجة الهوائية التي لم أنجح في إتقان قيادتها أكثر من عشرين مرة، مثل هذه الجروح تُشفى حتى ندوبها تُمحى، فقط قطرتين من محلول البيتادين مع سائل “الميكروكروم” الأحمر، حتمًا القليل من الوقت يكفي. ومزيد من الوقت يشق جرح أبي ويعبأه بالملح واليود، فتارة تُشفى، وتارة تهترئ، وبين هذا وذاك مازلت اشتاق لحضن أبي الذي لم يكن.

أعانقك يا أبي كلما اشترى أحدهم قليلا من الحلوى لابنته

تخبرنا الجدات والأمهات أن الميت في قبره يسمعنا، لكن لا أعلم هل بإمكانه القراءة أيضًا، فقط أريد أن أقول لأبي إن لم تكن قد عانقتني يومًا في حياتك، فأنا أشعر بحضنك الدافئ الآن كلما مر أمامي أب يحمل حقيبة المدرسة الثقيلة عن طفلته، وفتاة تضع رأسها على كتف أبيها في عربة المترو، أو خمسيني أراه ينتظر دوره في السوبر ماركت لشراء بعض الحلوى وأكياس الشيبس، ثم يبحث في ثلاجة الآيس كريم عن قطعة بطعم الشيكولاتة والفانيلا، ينصحه البائع بتجربة بولة الفراولة والمانجو، فيخبره أن ابنته تفضل الشيكولاتة فقط، وهو يستعد لإعداد مفاجأة لها، فقد انتهت لتوها من آخر امتحان بالعام الدراسي.

أشعر بدفء يديّ أبي كلما نظرت لابتسامه في عيني أب، يوقف ابنته ذات العشر سنوات في منتصف الطريق، بمكان جديد لم يزورانه من قبل، ليلتقط لها صورة تذكارية، ربما الصورة هي الخامسة أو السادسة، يخبرها ضاحكًا أن هذه ستكون الأخيرة ولن يعيد تصويرها مرة أخرى حتى وإن لم تعجبها، ابتسم لابتسامته وكلانا يعلم أنه مستعد ليعيد التقاط نفس الصورة للمرة الألف بالابتسامة وإيماءة الرأس ذاتها، والعينين اللامعتين والصوت الطفولي الضاحك.

مقالات من نفس القسم